أيلول/سبتمبر 12
   
 باتت مقولة عزل النص الروائي عن كاتبه من بديهيات النقد الجديد، فكل منهما (النص وكاتبه) من معدن غير قابل للمزج مع معدن الآخر، إنهما كالماء والزيت لا يمتزجان معاً إلا في ظروف غير اعتيادية، إلا أن تحقق الظروف غير الاعتيادية ليس مستحيلاً، إذ أنّ ثمّة دوافع إبداعية او عاطفية قد تدفع باتجاه خرق الحاجز النوعي ما بين المعدنين المتنافرين من أجل تيسير اختفاء الكاتب وراء إحدى الشخصيات الورقية، أو تفتيت فواصل من حياته الخاصة، وتوزيعها على مجموعة من الحيوات الورقية، أو حتى ضخّ شيء من حيوات الآخرين الذين عاش الواقع معهم، أو على مقربة منهم في حيوات الورق والحبر. فليس في المخيال السردي من تجربة لم يُجرّب بعضها، أو كلها في الحياة قبل أن تُحفظ ـ بعد تحريفات فنية، وتلفيقات إبداعية - في طيّات الورق، لا تُستثنى من ذلك حتى أحداث روايات الخيال العلمي التي تدور بعيداً عن الأرض، وبتماس مع مخلوقات فضائية، إذ يُعاد تكيّف الشخصيات والأحداث والعلاقات فيها على وفق معطيات ارضية قارة. فالمعطيات السردية هي قرينة المعاني الشعرية المحدودة، ومحدوديتها هي من محدودية معطيات الحياة الواقعية، وهي مثل قرينتها مطروحة بين أيدي من يتحرّى عنها، ليُعيد صياغتها بذكاء المبدع الخلّاق، مموّهاً الفوارق ما بين النموذج الأصل، والنموذج المعاد صياغته، حارصاً على ألا يترك لمن يتلقف الأنموذج الجديد أن يكتشف أنه إعادة تكرار محرّف عن صياغة سابقة.
من الواضح أن القارئ لا يُعنى، ولا ينبغي له أصلاً أن يُعنى بالمواقع التي يختفي فيها الواقع داخل المتخيل. ولا ينبغي له أن يشغل نفسه وهو يقرأ النص بالبحث في طياته عن الموقع الذي يتوارى فيه كاتبه، فليس من مهمة القارئ أن يتحوّل إلى شُرَطيّ يقتفي خارج النص أو داخله أثر من يقرأ له، بقدر ما يعنيه أن يقتفي أثر النص بحثاً في طياته عن أسرار المتعة ومكامن الجمال، ولعل أول متطلبات القراءة الجادة، يفترض على القارئ قبل أن يهمّ بالقراءة أن يُميت الكاتب، وإلا فإن أية قراءة تحيد عن إبداعية النص وجماليته كفيلة بتحويله إلى وثيقة تاريخية. وفي ذلك إساءة للنص من حيث هو بنية جمالية، وإساءة للتاريخ من حيث هو حقيقة.
وعلى الرغم من عدم مشروعية التساؤل الساذج عن مكان اختفاء الكاتب داخل نصّه، إلا أنّ القاص والروائي والإعلامي حسن العاني في روايته (عيادة الحاج مهاوي) تعمّد جرّ قارئه إلى منطقة عدم المشروعية، وإكراهه على طرح التساؤل الساذج عن مكان اختفائه داخل روايته، وهذا ما سنفصله ضمن المستوى الخطابي الأول من الرواية.
تتكون (عيادة الحاج مهاوي) من ثلاثة مستويات خطابية:
- المستوى الأول: ويمثله الإهداء
- المستوى الثاني: وتمثله الفصول الأربعة الأولى من الرواية
- المستوى الثالث: ويمثله الفصل الأخير الخامس
 
المستوى الأول:
أو مستوى الإهداء، وهو مستوى خارجي وصمه الكاتب بضميره اللغوي، وخصّه لذكرى ما، ألمح إليها، ولكنه أبقى تفاصيلها خارج إهدائه، وخارج مرويات الأبطال في المستويين الآخرين، مكتفياً أن يستلّ لقارئه منها إسم بطلتها فقط، دون أن ياتي على العلاقة ما بين الإسم وما بين الدور السردي . وفي كل الأحوال فهو إسم وهمي اقترحه الكاتب ليجنبه، ويجنب – بطلة الذكرى الحقيقية - حرجاً لا طاقة لكليهما به بحسب قوله .
ومن أجل تلافي الحرج لجأ إلى التمويه على تلك الشخصية النسوية على طريقة مزج المواد المتنافرة التي سبقت الإشارة إليها، فأضفى على تلك الشخصية بعض الغموض، جامعاً فيها ما بين الحلم ( إلى المرأة التي رسمتها أحلامي كما تحب وتتمنى وتشتهي . ص / 5 ) و بين الحقيقة ( ... ومع ذلك فإنها ليست وهماً أو خيالاً روائياً، بل هي إنسانة مفعمة بالجمال والذكاء والطيبة والأنوثة . ص / 5 ) .
إذن فالكاتب هو الذي يتعمّد إثارة فضول القارئ، ودفعه لطرح السؤال عن استقلالية النص وإمكانية تحققها، ومن ثم تحريضه على البحث عن موقعه داخل النص، من دون أن يُعينه على تلمس الفارق ما بين الحقيقة والخيال، وما بين النص وكاتبه، مكتفياً بالتلميح عن علاقة ما بينه وبين إحدى بطلات روايته عن طريق الإهداء الذي لا يمكن إلا أن يُمثّل شخصية الكاتب الواقعية.
ولهذا الإصرار على أن مستوى الإهداء يمثل خطاب الحقيقة / الكاتب، وليس خطاب المحكية / المتخيل ثلاثة أدلة:
- الأول : يتوافق مع أعراف الكتابة التي درجت على أن يكون هذا الحيّز من النصوص المصاحبة مجالاً لإبرام ميثاق قراءة ما بين الكاتب والقارئ يتبرّأ فيه الأول من أية صلة تربطه بأحداث روايته أو من أي تطابق ما بينه وبين شخصياتها. وقد أوفى الكاتب بشروط هذا الميثاق فيما يتعلق بنفسه هو بالذات، إلا أنه من جهة أخرى لم يفِ بمتطلبات العقد فيما يتعلق بـ(وضحة) وهي إحدى أهم شخصيات الرواية والتي أخرجها من خزانة حياته الخاصة ودفع بها إلى منطقة التخييل بعد أن جردها من واقعيتها وأضفى عليها ملامح من تخيلاته الجانحة ليمسخ بذلك اللحم والدم إلى حبر وورق، وليتجه بالواقع المختزن إلى اقصى حدود التخييل المعلن.
ثانياً: إن أي افتراض ينقض كون الإهداء هو خطاب الكاتب ويفترضه جزءاً مخاتلاً من النص سيؤدي إلى نقض منطوق المحكي الذي قدّر ان تمضي علاقة البطل مع وضحة في الفصل الرابع من الرواية باتجاه اشتراكهما معاً في العيش تحت سقف واحد على اعتبار أن مفهوم السقف الواحد مفهوم مجازي يراد به الزواج، وهذا ما انتهت إليه العلاقة بين الإثنين، على الرغم من أنها لم تُكمل شروطها الشرعية بالإشهار والإعلان. بينما يُفهم من الإهداء أنه على لسان الرجل الذي لم يُقدّر له أن يعيش مع وضحة تحت سقف واحد (قُدّر لها مثلما قُدّر لي أن نكون تحت سقفين. ص / 5) فالرواية تضعنا في مواجهة حالتين متناقضتين لا بدّ من حسم الموقف بترجيح إحداهما، وإلا فإن ثمة ارباكاً سيخلّ بمنطق الأحداث. فإذا لم يكن ضمير المتكلم في خطاب الإهداء هو للراوي المشارك/ البطل الذي عاش مع وضحة تحت سقف واحد ( حتى ولو من قبيل المجاز)، فهو إذن لمن إن لم يكن للكاتب نفسه، وليس لسواه؟
ثالثاً: بالإمكان عدّ هذا المستوى الخطابي/ الإهداء – ومن دون الإساءة إلى بنية الرواية – على أنه خارج السياق، فلو تمت القراءة بدءاً من الفصل الأول بعزل وتخطي الإهداء لما انتقص ذلك في شيء من سلسلة الأحداث.
 
المستوى الثاني:
وهذا المستوى يمثل نص الشخصية المحورية/ البطل، أو الراوي المشارك، وعبر هذه الشخصية يتم تبئير الأحداث تبئيراً خارجياً على وفق آلية زمنية مستقيمة متجهة من الماضي نحو زمن السرد، لا تتقطّع أو ترتدّ إلى الوراء باستثناء حالات قليلة وغير مؤثرة في توجيه ما يعقبها من الأحداث. وهذا التوجه في إدارة عجلة الزمن يضفي على الرواية طابعاً مبسطاً هو أقرب إلى القصة القصيرة (أو حتى الطويلة) منه إلى الرواية التي عادة ما تعتمد البنى المركبة ذات الطبقات الزمنية المتعددة والمتداخلة.
وعبر هذا المستوى تتوضّح هوية الرواية التجنيسية بوصفها رواية إيروتيكية بامتياز من دون التحرّج – لا للقارئ ولا للكاتب – في البحث عن دوافع أخلاقية للتخفيف من وطأة هذا التوصيف، وربما اختلف مع الأستاذ باسم عبد الحميد حمودي الذي رأى أن (موضوعة الجنس التي طغت على الأحداث إلى حدّ الإغراق الذي يوهم بأننا في مواجهة رواية تقوم على – الجنس من أجل الجنس – ولكن في اللحظة التي نتفهم – المقصود – ونتحرر من النظرة الأحادية، نكتشف أن الظاهرة الجنسية في الرواية لها ما يقابلها، ويبررها، ويُبعد عنها الأحادية) (ص / 229 ) . فعلى الرغم من وجاهة هذا التخريج الذي يغلب عليه الطابع الإجتماعي أكثر من كونه تفكيكاً لظاهرة فنية وإبداعية، إلا أن الأستاذ باسم عبد الحميد أخفق في تبرير ( الإغراق ) في وصف وتفصيل وتكرار المواقف الجنسية اللاهبة، فالكاتب في روايته لم تفته شاردة أو واردة منها إلا وتتبعها، فوصف الأوضاع الجنسية وصفاً لا يُضارعه فيه حتى باولو كويلو في روايته ( إحدى عشرة دقيقة ) مع أن الفارق الجوهري ما بين أوضاع الإثنين، فهي لدى كاتبنا تأتي في سياق الأحداث، بينما هي لدى كويلو الأحداث نفسها.
ولم يتوقف الكاتب عند الأوضاع، بل جاء على وصف التأوهات التي تتحول في لحظات الذروة إلى صرخات، وأماط اللثام عن أكثر طرق التحايل نجاحاً لاستدراج الشريك إلى الفراش، ثمّ أصغى لهمس الأصابع وهي تتحرى طراوة الأجساد العارية، وكشف المخفي من فنون لمس وعضّ وعصر الأعضاء الحساسة، واقترح آليات مبتكرة لممارسة الجنس من دون الخلع التام للملابس الداخلية، بل بإحداث فتق فيها، ولم يفته التطرق إلى الجنس الجماعي والسحاق، وأخيراً وليس آخراً فالظاهرة الجنسية لم تتحقق للبطل في الواقع فحسب، بل تعدته إلى أحلامه أيضاً. وسنأتي فيما بعد إلى تفصيلات أخرى في هذا السياق. فهل بعد كلّ تلك السخونة التي تقرب من درجة الغليان يحق لنا أن ننفي صفة الجنس لأجل الجنس عن النص.
ومع ذلك فتوصيف الأدب الإيروتيكي ليس تهمة، فله أساس راسخ في الأدب العربي منذ امرؤ القيس، والنواسيّ الحسن بن هانئ، وألف ليلة وليلة، والوشاح في فوائد النكاح لجلال الدين السيوطي، وسوى ذلك كثير. ومع ذلك فهذا الأدب ما زال يستفز قيم المجتمع، في ضوء هيمنة التابوات الفوقية التي تضع في مستويات متباينة مع الجنس عدّة تابوات أخريات، لعلّ أبرزها (السياسة، والدين، والتقاليد والأعراف الموروثة) والتي لم تسلم جميعها من خروقات كاتبنا سواء في عمله هذا، أو في عمليه السابقين (ليلة الإحتفاء بالحرية) و (الولد الغبي). ولكنه في عمله هذ انتهز فرصة خلو الواقع الثقافي من متحدّ يجرؤ على المخاطرة وإعلان الحرب على المحرمات الموروثة، فتكفل هو نفسه بالمهمة وخرق بشكل حاد ومباشر اول التابوات/ الجنس، متحرراً من قيود الخارج الفوقية، معلناً إخلاصه التام لذاته كما يراها بمنظاره هو، وليس بمنظار الآخرين. فركب المخاطرة التي يتهيبها الشباب الكتّاب، وكان له السبق بانتهاج طريق في الكتابة تصبح معه الرواية الإيروتيكية نوعاً أدبياً تتقبله الذائقة الأدبية العراقية الجديدة بأريحية، بعد أن كانت تتقبله في خمسينيات القرن المنصرم.
والطريف في تجربة الكاتب الإيروتيكية هذه أنها جاءت مرفقة بقاموسها المتفرّد الذي يجمع ما بين بلاغتين الحسيّة واللغوية، ما جعله يتمكن من إخراج أقدم تجربة جسدية في حياة الإنسان من ابتذالها اللغوي المتواتر، ومن قوالبها القاعدية المألوفة، وصبها في قوالب لغوية مبتكرة، مستعيناً بآليات البلاغة التقليدية من تشبيهات واستعارات ومجازات وتوريات بعد إخضاعها لانزياحات شعرية حادة وذكية.
 
محرمات التقاليد والأعراف:
وكما ألمحنا آنفاً، فالكاتب في روايته هذه لا يخرق تابو الجنس فحسب، بل هو يخرق جميع التابوات الثلاثة الأخريات ضمن صياغات متداخلة، بعضها ينفتح على الآخر من دون أن يترك أثراً يُفهم منه أنّ ثمة إقحاماً لغايات غير سردية، باستثناء ما يتعلق بخرق تابو الأعراف والتقاليد، إذ أن الرواية بكاملها تدور في حاضنتيه المكانية والاجتماعية، وقد تمّ خرق هذا التابو من منفذين، أولهما مباشر، والآخر غير مباشر:
 
المنفذ الأول – غير المباشر:
وهو منفذ حكائي بامتياز تناول الموضوعة بعيداً عن المباشرة، ومن دون إطلاق الأحكام الرافضة او المؤيدة، وذلك عن طريق مرويات أبطالها الذكور والإناث على حد سواء، وقد تجلى ضغط التقاليد والأعراف بعدة صيغ مثل:
- تعدّد الزوجات (الحاج مهاوي والشيخ جاسم المحمود)
- زواج الذكور من بنات في أعمار بناتهم أو حفيداتهم (الحاج مهاوي والشيخ جاسم المحمود)
- حرمان الزوجات المتعلمات تعليماً عالياً من استثمار تعليمهن اجتماعياً، وإقصار دورهنّ على الإنجاب وتربية الأطفال والأعمال البيتية (فضيلة).
- زواج البنات المتعلمات تعليماً عالياً من أبناء عمومتهنّ الأميين (الشيخة وضحة).
والملاحظ أن كل الشخصيات الأربع الرئيسية (الحاج مهاوي وزوجه فضيلة، والشيخ جاسم وشقيقته وضحة) قد نالوا تعليماً عالياً، من دون أن يكون لذلك أثر في التخفيف من ضغط التقاليد سواء ضمن بيوتهم أو ضمن فضاء القرية الأوسع، مما يعني أنّ سلطة التقاليد في مجتمع قرية (عرب الشيخ عيدان) هي أقوى من سلطة العلم. وأن تأثير العلم في الحد من أثر التقاليد هو أضعف من تأثيرها في الأميين والمتعلمين على حد سواء.
 
المنفذ الثاني - المباشر:
وعبره عولجت موضوعة واحدة من موضوعات هذا التابو، وهي موضوعة تعدد الزوجات، معالجة مباشرة غلب عليها التكلف في استنباط الأسباب والدوافع، ما أفقدها عفويتها السردية، وأقحمها في سياق حواري هو أقرب للبحث في العلوم الإجتماعية ما بين الراوي/ البطل وصديقه (فيصل المرهون). وقد كان بالإمكان إذابة طروحاتهما المنطقية في تيار الأحداث، وعدم إقحام المنطق العلمي إقحاماً متكلفاً فيه، ما أفقد الحوار بين الصديقين عفويته.
 
إدانة مبطّنة:
أما التابو الثالث/ السياسة، فقد تناولها هذا المستوى بشكل عابر وسريع، على الرغم مما يضمره اللعب في ساحتها الملغومة من مفاجآت غير سارة كادت أن تطيح بالبطل. وقد تم النفاذ إلى هذه الموضوعة الحذرة بالإكراه، ومن دون رغبة البطل الذي يتحاشى الإنخراط في أي نشاط سياسي، وذلك عبر أصدقائه الذين يتوزعون ما بين فصيلين سياسيين متعارضين ومتحاربين (الشيوعيون والبعثيون).
وعلى الرغم من أن الرواية تحاشت التطرق إلى ملابسات الصراع التاريخي ما بين الفصيلين، لكنها أتت على انعكاس تأثيره الخفي على البطل. فأصدقاؤه من كل فصيل يجهدون من أجل جرّه إلى صفوفهم، مع إصراره على الثبات على حياده، وبدلَ أن يفسّر هذا الإصرار بحسن نية يتوافق مع دوافع الصداقة الحقّة، فُسر من قبل كل فصيل من الإثنين على أنه ميل إلى الضد. وقد عرّضه إصراره على حياده إلى مجموعة من الوشايات الكاذبة.
ومن دون تحديد أسماء الواشين من بين أصدقائه، أو انتماءاتهم السياسية اكتفى البطل بوضع القارئ في صورة الحيف الذي أوشك أن يورده موارد التهلكة جراء ثباته على حياده، لتكون تلك الصورة نوعاً من الإدانة المبطنة، لكنها ليست إدانة لأصدقائه من المنخرطين بالعمل السياسي، بل لفصائلهم التي لقنتهم مفاهيم عدم التسامح، وعدم قبول الآخر المختلف. وما تلك الوشايات والمؤامرات بين الأصدقاء المختلفين في الرأي إلا انعكاس لصورة الصراع ما بين القوى الوطنية، وما قرية (عرب الشيخ عيدان) التي تحتضن هذا الصراع إلا الصورة الرمزية المصغرة للفضاء الوطني الملغوم بخلافات قواه المتصارعة.
 
التابو الديني:
هذا وقد ظل الموقف من الدين في هذا المستوى غامضاً، ويتسم بالتناقض، فلم يجرؤ على فتح ملفاته المغلقة، ولا تفكيك العلاقة ما بينه وبين واقع التقاليد الحاكمة في القرية، واكتفى باختزال مفهوم الدين، وقصره على الجانب التعبدي فقط، ما أقحمه في نوع من المنطق التوفيقي يسوّغ عبره لأبطاله الخضوع لشروط الدين التعبدية حتى وهم يمارسون الجنس المحرّم خلسة (وقرابة الثانية بعد منتصف الليل، انتهينا من علاقة حافلة بالجنون والإثارة بحيث غفونا بعدها مباشرة، وهي ترقد عارية فوق جسدي، وعند الفجر اغتسلنا معاً، وتوضأنا، وكانت هي أول مرّة أقف فيها للصلاة. ص / 100) وقد جاء هذا التخريج على لسان إحدى بطلات الرواية الخاطئات (فضيلة). ويبدو أنه ليس دعوة للدين، بل هو دعوة للخطيئة التي تمادت في ممارستها حتى ما عاد تخريجها المنطقي ذاك يُقنع بأن ما تقترفه منها هو الحل لإشباع ما تعانيه من الحرمان.
بيد أن هناك مأخذين على هذا المستوى؛ أولهما حكائي، والثاني تركيبي، فمن الناحية الحكائية قد يُشخص نوع من التناقض ما بين الإمعان في وصف وطأة الأعراف وانغلاقها، ومن ثمّ انعكاسها على العلاقات الإجتماعية داخل مجتمع القرية من جهة، ومن جهة أخرى ما بين سماح أبرز شخصيتين قرويتين تمثلان الحماة والحراس لتلك الأعراف، سماحهما لرجل غريب وهو البطل في الاختلاء بنسائهما (زوجاتهما وبناتهما وشقيقاتهما)، بل والمبيت معهنّ خلف أبواب مغلقة. كما أنّ اقتناع الرجلين بذرائع البطل للسماح له بذلك الاختلاء تبدو مقحمة، ولا تنطلي على رجل القرية الذي تشبّع بأعرافها فصارت جزءاً من بنيته القيمية لا يتخلى عنها لا بالضغط ولا بالاقناع.
أما من الناحية التركيبية، فتبدو واضحة على صياغات هذا المستوى ملامح الإرتباك والتقطع في تنظيم سلسلة الأحداث، ما يجعلها تفتقد تماسكها، إذ كثيراً ما تُقطع وحدات السلسلة الحكائية بشكل مباغت، ومن دون مسوغ منطقي، ثمّ يُعاد ربطها بأحداث سابقة من سياق آخر منفصل عن سياقها الأول. وكثيراً ما يكون القطع والوصل بين السياقين المتباعدين من دون الإستعانة بأدوات الترقيم، أو الفواصل، أو من دون ختم السياق السابق بعلامة ما، وابتداء السياق التالي من رأس سطر جديد.
 
المستوى الثالث:
ويمثله الفصل الأخير من الرواية، وهو مستوى (الراوي / الرواة) الذين يقفون في منطقة وسطى ما بين المفارقة والمشاركة، وسنأتي على توضيح هذا التباين فيما بعد. وهؤلاء الرواة لا يؤدّون أفعالاً نوعية مؤثرة في مجرى الأحداث، باستثناء أنهم يُراقبون ما كان قد حدث، ويتعقبون آثار بعض أبطال الرواية الباقين على قيد الحياة. ويتجلى خطاب هؤلاء الرواة في صيغة جماعة المتكلمين، باستثناء مرة واحدة جاء الخطاب بصيغة تجمع ما بين خطاب المتكلم المفرد، وخطاب الجماعة ( ... وبخلاف ذلك أعتقد أن المعلومات الغزيرة التي حصلنا عليها من الشيخ عبد الله ... إلخ ) ( ص / 222 ) . وقد يُفسّر ذلك بأن أحد أفراد جماعة الرواة كان على مدى هذا المستوى يروي – بصيغة الجماعة – نيابة عنها، ولم تمنعه نيابته عنهم أن يُعبّر في موقع واحد عن رأيه الشخصي في ما عُرض أمامه.
ويبدو القفز على خط الزمن المستقيم واضحاً في هذا المستوى، ولا بأس من اعتماد عُمر وضحة أداة لقياس مدّة الزمن المستقطع، وهو الزمن الذي يتوسط ما بين زمنين، الأول محدّد باللحظات الأولى من مقتل البطل - حيث يُفترض أن عمر وضحة كان يومئذ على مشارف الستين - والزمن الثاني هو زمن تدوين الرواة، والذي يبعد – بحسب ما يمكن استنتاجه - عن الزمن السابق بأكثر من ثلاثين سنة، حيث أنّ وضحة قد بلغت خلال الزمن الأخير التسعين من العمر، بحسب أخيها الشيخ عبد الله.
وبالعموم يمكن تشخيص مظهرين للرواة في هذا المستوى:
 
المظهر الأول:
ويمثله الرواة المفارقون والمحايدون الذين تعقبوا حادثة القتل منذ بدايتها، وحتى الكشف عن القتلة ومحرّضتهم. وخلال هذا المظهر لم يكشف الرواة عن مواقعهم، ولا هوياتهم، ومن دون أن يعلنوا عن صوتهم اللغوي. ومن الواضح أن تعقبهم لحادثة القتل وملابساتها لم يكن بتماس مباشر معها، بل عن طريق مصادر ناقلة أخرى متعددة أغلبها مصادر جماعية باستثناء مصدر ناقل مفرد واحد، يمثله الشيخ عبد الله، وعداه فجميع المصادر الأخرى هي مصادر جماعية غير محددة المعالم غلبت عليها تسميات بصيغ شتى كل منها تمنح المصدر وضعاً خاصاً تتحدد عبره مسافة اتصال المصدر بالحدث، وفيما يأتي تفصيل لتلك المصادر الخبرية الناقلة:
1 – منها ما جاء بصيغة (الشهود العيان)، وتفترض هذه التسمية أنها تمثل المصادر الأكثر تماساً مع الأحداث، وبالتالي فرواياتهم هي الأكثر مصداقية.
- (كما ذكر شهود عيان – تمّ العثور على جثة الدكتور ...). (ص / 218)
- (وعلى رواية الشهود العيان، اتخذ رجال الحكومة من مقر الشيخ ...) . (ص / 218)
- (وعلى روايتهم كذلك – والمقصود الشهود العيان – تعرض الحاج مهاوي إلى حالة إغماء) (ص 218)
2 – وضمن الإطار نفسه، وعلى بعد ذات المسافة ما بين الأحداث والشهود العيان كما في الفقرة السابقة (1) تأتي تسمية المصادر بصيغة لا تقل عنها مصداقية.
- (... وذكر من كان حاضراً) (ص / 221)
- (ونقل من كان حاضراً ورأى المشهد عن قرب) (ص / 221)
- (أما الأمر المؤكد والذي أجمع عليه كلّ من التقينا بهم من السكان) (ص / 222)
3 – ومنها ما جاء بصيغة جماعية غائمة، من دون تحديد علاقة المصدر بالأحداث ولا طبيعة اتصالهم به:
- (على ما تناقله الناس) (ص / 219)
- (ولكنّ الناس على ما يُروى) (ص / 220)
- (ولكنّ أغرب خبر تناقله الناس) (ص / 221)
4 – ومن المصادر الخبرية ما بقيت شهادته ضمن حدود الإدعاء والزعم، من دون أن ترقى إلى مستوى التصديق.
- (على ما زعمَ البعض) (ص / 221)
- ( وادّعى آخرون ) ( ص / 222)
- ( حتى قال أكثر من واحد) (ص / 222)
5 – وهناك إشارة واحدة إلى مصدر خبري ناقل مكون من مستويين، جماعي (الناس) وفردي (مدير المركز الصحي).
- (كما نقل الناس ذلك عن مدير المركز الصحي) (ص / 220)  
 
المظهر الثاني:
ويمثله الرواة المشاركون، ولو أن مشاركتهم ليست بأخذ دور نوعي ما ضمن الفاعلين الآخرين، بقدر ما هي مشاركة من يتعقب آثاراً مموهة أو ممحية لأناس انقطعت أدوارهم، من دون أن يعلن هؤلاء الرواة عن هوياتهم، وعن الغاية الصريحة والدقيقة من ذلك التعقب، على الرغم من ارتباطه مع مجريات التحقيق في حادثة مقتل البطل، فهل هو لغايات إعلامية؟ أم لغايات تحقيقية جنائية؟ وهل هم صحفيون، أم هم محققون جنائيون؟ أم أن مهمتهم كما ادّعوا توثيقية للمكان (ص / 222 )؟ والإدعاء الأخير زاد مهمة الرواة غموضاً، فهو لا يعني شيئاً ملموساً، ولا يوضح المعنى العملي الدقيق لمفهوم التوثيق المكاني، والغاية منه، وعلاقته بقضية القتل بعد ثلاثين عاماً على اقترافها.
ويختلف هذا المظهر الذي يمكن عدّه مظهراً ناطقاً عن المظهر الأول الذي كان صامتاً، وسبب الاختلاف بين المظهرين هو ذاته سبب تسميتهما؛ ففي المظهر الأول لم يعلن الرواة عن صوتهم اللغوي، بينما هم في هذا المستوى قد أعلنوا عنه، على الرغم من أن ذلك الإعلان جاء متأخراً في الصفحات الثلاث الأخيرة من الرواية، وبإعلانهم ذاك يكونون قد أعلنوا خروجهم إلى منطقة العلن، وقد توافق ذلك مع اتصالهم بشخصيتي الرواية (وضحة وأخيها الشيخ عبد الله).
هذا، وينطوي المستوى الأخير الثالث على خاتمة ذات تلميحات ذكية تختزل رمزياً صورة الهيمنة الذكورية، ومدى إحساس المقموع بتبعيته للقامع، فعلى بالرغم من القهر الذكوري المتعدد الأشكال، ينتهي دور الراوي/ البطل الذي شارك بشكل ما فيه ولو بصيغ مخاتلة ومبطنة من خلال خياناته المتكررة، أو (نذالاته) كما يسميها هو نفسه مقراً ومعترفاً بها، ينتهي دوره بأن يرتقي – بعد مقتله – إلى مقام القداسة، فينال القاب ( الشهيد والولي والرجل المبارك)، ويُبنى له مسجدٌ باسمه، وقبرٌ يُتبرّك به، والمفارقة أن النسوة اللواتي ساهم البطل في قهر بنات جنسهنّ كانت لهنّ حصّة وافرة في ترسيخ قداسته، فقد صار قبره مزاراً لهنّ (وربما تستغربون إذا قلت لكم أنه بعد مدة قصيرة بات مزاراً لمئات النسوة اللواتي لديهنّ نذور، ويقصدنه طلباً للمساعدة) (ص/ 223).
**************
عيادة الحاج مهاوي – رواية – حسن العاني – منظمة نخيل عراقي الثقافية - الطبعة الأولى - 2021.