
دائرةُ الابتداء:
تبدأ من كوميديا النسل الممتد:
((ما بين بلاد أُوروك والغارُ المقدس ببكة))(1)
حيث البدايات، والنشأة التي لما تزل تستنطق الرموز، والأحرف المقطّعةِ. تلك التي نُميت بــ (إيشانات) الوحيّ، والفكرة، والسلوك وألسنة حداد؛ اللاتي تعرف أيّ البلاد عقيم، أو ذات ولادات متأخرة، تعرفُ روائح الأتربة التي تُنمى إليها قوادم الخيل والصحراء؛ تلك بداياتٌ تتآلف فيها الأفقية فقط:
((سيقوم أهلنا وستمتد الأجساد نصف العارية ما بين بكة وطيبة وكوفان والخليل وأورشليم.. ويبدأ الطوفان))
دائرةُ الإبتداع / دُنيا السرد:
جديدةٌ، ومبتكرةٌ، وغريبةٌ عن معطى القص المألوف في هذا الفن/ الرواية. مدخلاتٌ تنتقل برشاقة العارف عن مخاضات السرد الذي يبوح عن أعماق عارفةٍ، وقارئةٍ لمعطى الأرض والانتماء. أتخذ في هذا السِفر خروجا ً إلى أداة ينتبذ بها مكانا ًجنوبياً في غير موسم التمر، بل في موسم التقطيع الحرفي، واحتراف طريقة تستدعي انزياح الأفكار الباحثة عن أفق متغير، يتخذ من الثبات الدلالي في القص والتراث، حركة إبداعية تستدعي التشكل الإسمي المتصالح مع ابتداع (الهمذاني)، والروعة (الحريرية).
((وأنني الآن أرى الزمن لحظة بلحظة بل أنني الآن أعرف اسماء القتلى، السجون ومدن الأنصاف))
اتخاذه شكل (المقامة) في التعاطي مع القص؛ مهّد به البوح لشخوصه كدائرية لما يريد الكلام عنه، من خلال إطلاق المستتر، والمؤلم، والمبهج، والماضي، والمستقبل، والقراءات التي تعتمد ذلك المسار الدال على ما يريد إيصاله في هذه الحكايات التي تتوزع على رؤوس الشخوص التي تجتمع لتطرح اسمها المُقطّع بينها (ج م ع ة).
دائرةُ الأسماء/ بُنى الشخوص السردية:
((ا ل م: هو ذا اسمي، وهو اسم جدنا الأول. كان الجد كوفيا ارتاع للأوضاع… بعد أن تفكّر في أسبابها ونتائجها…))
أحمد العبد الله: أحد الشخوص التي بُنيت/ بناها على شاكلات الاستفهام، ومحاولة استدعاء ذبذبات الجواب، ثم الاجتراح في السرد، مجددا به الصيغ، وداعيا من خلاله إلى اعادة تعريف الحب، والعاشق، والهارب، متخذا به (أحمد العبد الله) شراعاً فوق أعاصير الخط الأحمر المائل للسواد في أحايين الموقف.
إبراهيم الأحمد: هو مع شخوص المقامة تلك، والتي هي عبارة عن مائدة مستديرة للشخوص، والتي نصبت سرادق الرحلة ومقوماتها، وهو من الشخصيات التي ألبست الظعن مفادات الرحيل، وأيضا استرقت السمع من خلف الأكمة التي كانت تنمو بفعل المياه المتسربة من عيون مبهمة:
((فعندما كان (ا ل م) في معتكفه، سمعتهُ ينطقُ بكلامٍ لم تسمعه من قبل: إذا كان هذا مصير شعبي فأني القي بهم إليك أي ربي وحتى ان تعرّف إليك بعضهم - وهؤلاء قلة من القلة-))
وليد الأحمد: شخصية التقاطع الذي رَسمَ أحاديث الأنثى، ومنحها الرؤية والرواية، واتخذها الحبيبة، والأم، والجدة، والأرض، وأعطى مساحة لتشعبات الوجود الأنثوي، الذي يتداخل مع الأسطرة.
سالمة: هي سلالة:
((منجذبة إلى قطب آخر لا أعتقد بوجوده: الروح))
فسالمة، التي بها (أتاك المادحون مرددا) كونها الآتية من بين صُلب تل (اليشن) وترائب (زينب) ذات العيون المغمضة في التأريخ، والبصيرة في استحضارها للتعاطي مع الأفكار التي تنأى عن (الصيهود) راجيةً (خنياب)(2) التواتر للإيجاب:
((أنت تحبها، وسيكون من العار، على أي إنسان يلقاها ولم يقع في أسرها، وأفتكر إنك ستقول لي: سالمة اغتمار الحياة…))
تحيلك تلك الأسماء إلى عوالم تلك التجليات الكتابية التي تنتاب الحالة المتوحدة في عوالمها، تأخذك بمظهرها لغير المألوف، بإيرادها صور التجلي، ملتحفةً مرة بالواقع، ومرة بالمجهول، ومرة بتبعات (أقرأ)، والرؤى التي تداخلت مع ما قبل (أقرأ) وما بعدها؛ محيلة رؤى جديدة أتى بها (أحمد العبد الله) من خلال صور (جمعة اللامي) التي جمعها من أخريات التجارب، والبوح، والألم، والوحدة-وحدة الموقف والسلوك والمعطى- حيث كانت تلك الصور المشكلة:
الصورة الأولى:
((بينما تبقى عيناه تلوبان الى أمام، إلى أعلى وأسفل، نحو الشرق والغرب، تريدان تضمَن هذا الوجود وتحويله الى صور قلبية))
والصورة الثانية:
((صوتا يصل إليه من أمكنة مختلفة. أمكنة دائرية. كان الصوت يفاجئه ناعما ًورقيقاً وآمراً: (أقرأ) ولا يتذكر سوى ألم غير مؤذ في مقدمة رأسه))
أما الصورة الثالثة:
((... حينئذٍ يستطيع أن يرنو ببصره فيرى آخر امتداد في الصحراء، أو أنه يخوض في غياهب من المياه الزرق والبيض، ويرى بأم عينيه أشكالاً آدمية تدب على أربع، وصوراً بشرية تجري))
دائرة الصحف والتلاقي/ صحف(3) المغايرات السردّية:
تلك دائرية الاشتقاق التي يتبناها اللاوعي الإبداعي الذي يرحل من صورة إلى صورة، ومن قلب إلى قلب، شريطة أن يكون العقل عاملاً غير ثابت؛ لكي يعيد صياغات تلك الإبداعات والشطحات الإنسانية، ويهبها إلى القارئ بصيغ، وبناءات، وشخوص جديدة تامة. فــ “...لما كنا في الخلق الخيالي، وفي اعادة الخلق التي هي القراءة الواعية، نجرّب طريقة معقدة من العلاقات ذات المرامي المتعددة... إنَ الرمزية الخارجية في الرواية؛ تهدف الى الانعكاس في رمزية داخلية ...”(4). يأخذك (جمعة اللامي) بإحدى رمزياته التي تفرزها مدينتهُ، مدينة (أ ل م)، بأن هناك قراءات ماورائية تُجهدها أتربة هاتيك الأمكنة.. حيث يكون ابداع التلاقي عبارة عن ومضةٍ قُرأت وأبُدعت فيما بَعدُ وفيما قبل:
“ آنست من قلبي القساوة. حين حللت ساوة. فأخذت بالخبر المأثور. في مداواتها بزيارة القبور... فلما صرت إلى محلة الأموات... رأيت جمعا على قبر يحفر. ومجنوز يقبر. فانحزت اليهم متفكرا ًفي المآل. متذكرا من درج من الآل...”(5)
فيتأتى لنا أن نقرأ:
((إن كل شيء في حركة وتنافر وتجاذب، أن القرى القديمة تعرضت إلى إبادة مرة بالصاعقة، ومرةً تالية بريح عاتية، غير أن مدننا جديدة كانت تنبت...))
لم نألف -على الأقل بالنسبة لي- في دنيا القص/ الرواية أن هناك صُحفا ملقاة على قارعة الختام، تبدأ قصصا أخرى، تلك الدائرية الجميلة المؤلمة، الماورائية بطريقة البوح، الضاجة بالتجربة وذكرى سنوات عجاف/ سمان كانت خلف أسوار الرمل، وشخوصه المتحركة التي تبتلع أقدام لوركا، وأبي ذر، وشيء من طرفة بن العبد، وبقايا أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي. صحفٌ قَرأت خوالج الرب الذي يقتبس من هنا وهناك، تجليات المحبة والأمل، والقدرة على استقراء الغيب بلغة الواقع/ الماضي/ المستقبل، صحف تستجلي صدأ الفراغ الصوفي الذي اختفى خلف أسيجة اليقين، والقراءات السبع، ذاك التجلي الذي يعود مرات بمعراجه الخاص إلى الدموع الأولى، والقراءات الأولى، والبوح الأول:
(( .. يا (أ.ل.م) من ذا يدعونا، لنتذكرك، أكثر من الصلاة الوسطى، حتى ونحن في زنزانة سجنك المظلم؟))
هذا ما خط على صحفه الأولى/ صحيفة إبراهيم. تقلبها توصيفات تبيح لقراءتها مفادات:
((هنا لا شيء سوى كلمات (أ.ل.م).
الناس كلمات.
الله كلمات.
وأنا كلمات ايضاً))
يرتاع المد المليء بخبايا، ومفازات شتى، ألفت الأصقاع والناس لتقترب أخيرا في محطة رحال الساحل، والتمر، والسموم؛ لتنشئ صحيفة عزلتها، مغنية بصوت غَلَبَ عليه سُكر الحواريات التي حاورها نفسا بنفس على مقربة من شيراز:
“ أيها الساقي أشعل بنور الخمر كأس شرابي ...
فكثيرا ما رأيت في كأس الشراب، صورة الحبيب ممثلة بادية ...
تعال أيها الصوفي!! فأنا مرآة القلب صافية لكأس من الشراب ...
وأنظر فيها لكي ترى ...
وأسال السُكارى المعربدين عن الاسرار التي يكنّها الحب والستر
فهذه الحال ليست حالة الزاهد العالي المقام
والعنقاء ليست صيدا لأحد، فأجمع شباكك
فكل ما يقع فيها هو قبض الريح ...!! “(6)
ليغني (جمعة) وصحيفته تلك، مرة ثانية أمام عوالم جمجمته:
((بلابلُ المنازل،
ونيران اصفهان
حَمامُ المساجد
وعصافير العرب
فاختات الحلة النخيل
كان غناؤه هذه المرة بصحيفة عزلته تلك، وبلسان سكرٍ ثان مفاده، وبوحهُ:
((النومُ، والبحار، الجبالُ، الريحُ، المياهُ، السماوات المجرًاتُ، الملائكةُ، الانعام، الانوناكي،
سَكرى مثلي))
خطابات العزلة، هي صراخات الباطن الحاضن لخبايا العقل ومنطقه، وخمرته، وصيحات الشوق، ووجه (سالمة) التي تُبقي حبكة يدعوها، وتدعوه إلى مشارف كل أبواب الحانات المعتقة بصوت (سدوري):
((أيها الساقي:
لا تحزن، ولا تفرح
لا تمت ..))
وحيث للمكانات طللٌ، ووقوفٌ على ذكرى وليال عشر، المكان وما له وفيه وإليه، تلك اللواعج التي تُبث تباعا منذُ أزلٍ، ولوعةٍ، وأسئلة ٍتفتح مصراعي الأبواب، والأسيجة، والعتبات الغنية بتلك الأحاديث، واللقاءات:
من سَجايا الطُلولِ ألَا تُجيبا
فَصَواب ٌ من مُقلة ٍأن تَصوبا
فاسألها وأجعل بُكاك َجوابا ً
تَجِد الدمع سائلا ومجيبا(7)
مع هذا الطلل، ومكاناته، ووقفاته كانت (صُحف المطرِ) مبللة عن بكرة جفافها؛ بُللت بالحب، والـأشواق، والأمكنة:
((يذكرني بك ِ المطرُ
عندما يغسل الرملَ في باحة السجن..))
نعم أن هناك لونا رماديا أخضر كان – ربما - موجودا على باب الحانة، الحانةُ التي تقرأ مكنونات الأشواق وتستقرئ خباياها، وألمها:
((نادلة الحانة
لا تعرفك ِ
لكنها
أذا رأتني..
نطقت باسمكِ..))
فيتأتى لنا أن نقرأ تلك، ويسري بنا التلاقي إلى حيث ومضات العقل الناقل لصيحاته، وتطلعاته، وخلجاته، وهمومه؛ لتتناسل أُخريات الأرحام أفكاراً وصياغات أخر، على مقربة من القلب المتجلي تجاه المطلق بكل استفهاماته، ورؤاه، وكفره وإيمانه، وأيمانه وكفره؛ لبيان دلائل أول الفهم، وشكل المعرفة. “قبل مئة سنة من هذا اليوم كتب شاعر: عند الفجر، مسلحين بصبر ٍمتأجج، سندخل المدن الرائعة. أنا أومن بنبوءة رامبو... أنني لم آت من اقليم غامض، من بلاد مفصولة عما سواها بجغرافية قاطعة. كنتُ الأكثر هجرانا بين الشعراء، وكان شعري محليا، مؤلما وماطرا. ولكنني كنت أثق على الدوام بالإنسان... بالصبر المتأجج فقط سنقتحم المدن الرائعة ... وبهذا لا يكون الشعر قد غنى هباء”(8)
وحيث أن هناك بصورة مفاجأة قد:
((صرخ أحدهم يا رئيس العرفاء قد هرب أحمد العبد الله... سمع صيحة السجين سدد بندقيته على أحمد العبد الله فانهار الجسد العاري نصفه في داخل السجن.. ونصفه الآخر خارج السور)).
هذه أوراق الصحف التي اشتقتها قراءة الرمزية، وتم إعطاؤها من ذلك الإنسان ملامح الشبه والتأثر النفسي بين من هم قد تشبعوا بذيَاك الألم المبهم لنفوسهم ليمنحوه بطاقة خلود أخرى في أدمغة المادة، وسيالانات الأفكار التوّاقة إلى العيشِ كصيبٍ؛ ليتأتى لهذه الصحف أن تجد مديات ٍ في تلك الرواية التي بُنيت على غير المألوف في أسلوب القص المرتكز على أبجديات تراثه ولغته ليهب أغانيه الجديدة.
ليأتي أحد الشخوص الذي يهبنا من دائرة روايته وشخوصه وبوحه وأغانيه، يهبنا بياض فكرته حول لياليه البيضاء قاصا إياها من أن في:
((تلك الليلة البيضاء ليلة اللحى والوجوه الملثمة/ ليلة الخيل المجنونة والأفاعي ذات الأنياب الخضر/ ليلة البرد الأزرق وصراخ الصندل/ ليلة ابتهال نخلة الدار وعواء الذئب))
دائرة النهايات المفتوحة/ مقامة الخروج:
إليك يسعى الباحث، والمتشكك.. ومنك يتورد المفتاح ومآلات التقصي.. يامن تكورت بالصدفة، والأزل، ثم بالمبهم والجدل.. تواريت ربما، ولماذا، ومن أين، وماذا.. يا من قلنا أمام إحاطته:
((يا هذا الذي لا تطاله المعرفة.. ينفتح الشدق.. ويتباعد الشدقان. العوز الثأريُ يحولني إلى واحد وأنت الواحد. فلا أجد الجواب بوحدتي ووحدانيتك، ولا بقوة الحق لأنك خارج اجتهاده)).
************
بُنيت هذه المشايعة على آلية كتابة هذه الرواية والتي صدرت عن دار خطوط وظلال/ عمان - الأردن/ طبعة جديدة، 2021. حيث جعلها القاص والروائي/ جمعة اللامي على غرار المقامات العربية مثل (مقامات الحريري/ القاسم بن علي بن عثمان أبو محمد الحريري). فجاءت هذه المشايعة بتلك المقاربات؛ محاولة أن تساير تلقي نهج القص الجديد والغريب في عالم السرد!
الهوامش:
- ما بين (( )) ستكون العبارات هي مختارات من رواية المقامة اللامية.
- الصيهود والخنياب: مفردتان من اللغة العامية العراقية تعنيان (على التوالي): شحة المياه وفيضانها.
- ضمت الرواية ملحقا كان عبارة عن صُحفٍ ابتدعها الروائي، كحالةٍ كتابيةٍ جديدة وغريبة في عالم السرد، حيث كانت مسمياتها (صحف إبراهيم، صحيفة العزلة، صحيفة المطر، صحيفة الرماد، صحيفة البياض، صحيفة المروءة، صحيفة الحب).
- 4 ميشيل بوتور (2019)، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، وزارة الثقافة والرياضة، دولة قطر.
- مقامات الحريري (1978) القاسم بن علي بن محمد بن عثمان أبو محمد الحريري، المقامة السّاويّة، دار الكتب العلمية، بيروت.
- ديوان أغاني شيراز (2004)، غزليات حافظ الشيرازي، ترجمة الدكتور ابراهيم الشواربي، المشرق للثقافة والنشر، طهران، ط1.
- البيتين لأبي تمام حبيب أبن أوس الطائي.
- أنطونيو سكارميتا (2011)، ساعي بريد بابلو نيرودا، تعريب صالح علماني، مسكيلياني للنشر، تونس.