
نشرت هذه المقالة في مطلع الستينات (اي بعد حوالي سنتين من تأسيس الجامعة التي عهدت رئاستها الى عالمنا الراحل)، وتليت في الندوة التي أقامتها رابطة الأكاديميين العراقيين في لندن بتاريخ 29 حزيران حول التعليم العالي والبحث العلمي في العراق، مع الإشارة الى احتفاظ افکار د.عبد الجبار عبدالله بأهميتها في عراق اليوم، وذلك باستثناء التفاؤل الواضح فيها حول آفاق الجمهورية الوليدة بغياب الديمقراطية السياسية، وهو تفاؤل ساد اليسار داخل العراق وخارجه.
الواجب الأول للجامعة تدريس مختلف المهن التي تحتاج جمهوريتنا اليها، وإعداد المهنيين القادرين على القيام بالأعمال الاعتيادية التي تتطلبها الحياة في بلد متمدن راق، ولا بد ان يستهدف هذا التدريس اعداد الخبراء القادرين على الابداع ضمن اختصاصات المهن المختلفة، بالاضافة الى تسيير الاعمال الاعتيادية. فالعراق اليوم في فترة انتقال يتحول خلالها من بلد بدائي كثرت ثرواته الطبيعية وقل استغلالها، الى بلد متقدم راق يتطلع الى وضع تلك الثروات في خدمة الشعب، لترفع مستوى معيشته، ولينعم بالرغد والرفاه. وللقيام بهذا الواجب تعمل الجامعة على ان تحور مناهجها التعليمية وتقدمها حتى تكون في مصاف المناهج اللائقة بالتعليم الجامعي، وان تقوم بتهيئة الوسائل اللازمة للقيام بالتدريس قياما متقنا وعميقا، وتتلخص هذه الوسائل بتوفير المختبرات التعليمية واستكمال اجهزتها وادواتها واستكمال المكتبة وتزويدها باهم المراجع والنشرات والمجلات، وتهيئة قاعات الدراسة والمطالعة، وتوفير العدد اللازم من المدرسين المتخصصين.
والواجب الثاني: تربية الشباب تربية صحيحة تهيؤهم لان يكونوا مواطنين صالحين في الجمهورية العراقية. والمواطن الصالح في نظرنا من كان متمتعا بالصحة السليمة، جسمية كانت ام عقلية، ومن كان ناضجا في ثقافته الاجتماعية، واعيا لمطاليب العصر المتطور، ومن كان واقفا على ميول جمهوريته ونزعاتها، متفهما اهدافها، مؤمنا بواجباته الوطنية تجاهها، قادرا على الاضافة الى فلسفتها ما من شأنه أن يؤدي الى تقدمها وتطويرها، متمكنا من التفكير الايجابي في القضايا التي تعرض عليه، مستعدا لتنفيذ ما يعهد اليه من الاعمال بروح متقبلة منطلقة من الايمان بصحتها ووجاهتها، مروضا نفسه على حب النظام والتقيد بالحميد من العادات الاجتماعية والسلوك المتزن المقبول. وللنهوض بهذا الواجب تعمل الجامعة على أن تهيّئ ما يلزم لذلك في محيطها وفي مناهج اعمالها ونظم حياة اسرتها، وان تجعل من ذاتها مجتمعا علميا تتحقق فيه الأهداف السامية لكي يحيا الطالب داخلها فيمارس الصفات المنشودة ممارسة كافية تمتزج في طباعه امتزاجا حتى اذا ما ترك الجامعة وامتزج بالمحيط الخارجي كان عاملا من عوامل رفع ذلك المحيط الخارجي الى مستوى الحياة التي الفها داخل الجامعة. وتستعين الجامعة على تأدية هذا الواجب بإنشاء الأقسام الداخلية الكافية، المجهزة باحدث السبل التي تساعد على حياة فردية راقية وحياة اجتماعية متقدمة، وبانشاء القاعات الصالحة لممارسة سائر الفنون الجميلة لكي تربي في الطالب الذوق السليم والميل الى الاستمتاع المفيد ويعتاد على الطريقة المجدية لقضاء أوقات الفراغ واشباع رغبة الانسجام والتألف الطبيعي، وبانشاء الوسائل الضرورية لممارسة الالعاب الرياضية بمختلف انواعها على أن يفرض على الطالب الاشتراك بتلك الألعاب بصفتها جزءا ضروريا من ثقافته الجامعية. وان تنظم الجامعة المحاضرات التثقيفية العامة وتحسن للطلاب حضورها والمشاركة في مناقشتها، وان تنظم الحلقات الجدلية، والجمعيات العلمية، وتحبب للطلاب المساهمة فيها، على أن تعودهم على اصول الجدل العلمي والالتزام بقيوده و شروطه، وان تنظم السفرات القصيرة والطويلة الأمد، داخل البلاد وخارجها، فتعود الطالب على الحياة الكشافية وتربي فيه روح الاعتماد على النفس والثقة بها. وفوق كل ذلك تعني الجامعة بتنظيم الطلاب ضمن اتحاد الطلبة العام وتشارك في إرشادهم ومعاونتهم وتقترح عليهم بعض أوجه نشاطهم وتشجيع صحافتهم ونشراتهم، حتى تنضوي معظم أوجه النشاط الجامعي الطلابي تحت لواء اتحادهم. ومجمل القول في هذا الواجب الثاني أي واجب التربية، انه تنتظم فيه كافة أوجه الحياة التي لا تتناولها المناهج الدراسية.
أما الواجب الثالث للجامعة فهو واجب البحث العلمي. وهنا لا بد لنا ان نقرر ان الكثير من جامعات العالم الراقية، تسلم بان البحث العلمي هو واجبها الرئيس، وتعتبر التدريس واجبا ثانوية يتأتی عرضا اثناء القيام بهذا الواجب.
وهذا هو الفارق الأساسي بين الجامعة وبين مجموعة من الكليات والمعاهد، فالمفروض في الكليات والمعاهد المهنية ان تتخصص بالتدريس وتتفرغ له، اما ما يقوم به بعض أعضاء الهيئة التدريسية من بحوث فانما يتأتی عرضا، وربما كان مرده الى رغبة فردية تنشأ في الباحث نفسه. ومن هنا نشأ السبب في ان بعض الدول قد اخذت عزل المعاهد والكليات المهنية من الجامعات، وقصرت الجامعات عندها على الكليات المتفرغة للعلوم الحرة، التي تؤهل الطالب للبحث العلمي.
والبحوث العلمية عموما على نوعين، بحوث اساسية وبحوث تطبيقية.
فاما البحوث الاساسية فهي التي يتوخى منها الاضافة الى معلوماتنا العلمية البحتة. وتحصل بتطوير النظريات القائمة وتقديمها وابتداع نظريات جديدة، واستخلاص النتائج الجديدة من النظريات القائمة. والجامعة هي الموطن الأول لهذا النوع من البحوث، فالعلاقة واضحة بين تعليم النظريات وبين ابتداعها، غير أن ما نسميه (بالحقائق العلمية) ليست حقائق ثابتة مطلقة قد بلغت صفة الكمال النهائي، بل الصفة الغالبة عليها كونها حقائق نسبية معرضة للتغيير والتبديل. ولذلك كان لزاما على الجامعة أن تفحص هذه (الحقائق) وتعرضها الى التجارب الدقيقة ثم تحاول إصلاحها حينما يتضح الخطأ فيها، ونبذها متى بان فيها الانحراف عن مستدلات التجارب العلمية.
وربما كان هذا سببا في ان الكثير من الجامعات قد جعلت شعارها “البحث عن الحقائق وفحصها والدعوة اليها وتلقينها”.
وأما البحوث التطبيقية فالغرض الأول منها اخذ النظريات العلمية القائمة، واعتبارها حقائق نسبية مفيدة، ومحاولة وضعها في صيغ البحوث التطبيقية انما تنبثق عن المتطلبات الفاشلة في المجتمع. وكثيرا ما يحصل ان ترصد الظاهرة وتنشأ الحاجة الى الاستفادة منها قبل ان يهتدى البحث الاساس الى حل معضلتها والتوصل الى نظرية مقبولة بشأنها. ولذلك كان من واجب البحث التطبيقي أن يفتش عن فرضية تجريبية تخضع الظاهرة لها، ثم يستغل تلك الفرضية ويصف طرق الاستفادة منها ريثما يهتدي القائمون على البحث الاساس الى حل الغازها كما انه كثيرا ما يحصل ان يأخذ الباحث التطبيقي نظرية قد اعتبرت كانها نظرية صالحة، ثم يضعها حيز التنفيذ العلمي، فيبان له خطأها وعدم صلاحها، عند ذلك ينبه الى مواطن الضعف فيها. ومن هذا نرى ان للبحوث التطبيقية ثلاث غايات رئيسية هي:
(1) دراسة حاجات البلد ومشاكله القائمة وتشخيصها ووصف افضل الطرق العلمية لتأمينها في ضوء النظريات العلمية المعروفة.
(2) دراسة النظريات القائمة وتفهمها وفحصها والتأكد من مطابقتها للنتائج التجريبية، فمتى تبين فيها شيء من الخطأ نبه اليه، واقترح حذفها او تبديلها او تحويرها.
(3) دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية وفحصها ومحاولة اشتقاق القواعد التجريبية التي تخضع لها ،ثم ربطها بالحياة العامة بغية الاستفادة منها.
ومن الجدير بالذكر ان البحث العلمي امر واحد لا حدود فاصلة بين نوعيه؛ فالباحث الاساس ينبغي له أن يتفهم الباحث التطبيقي ويبين نظرياته في ضوء نتائجه، كما ينبغي للباحث التطبيقي أن يستوعب نظريات الباحث الأساس ويتفهمها. وكثيرا ما يمارس الباحث الواحد نوعين من البحث في آن واحد، والى جانب النوعين المذكورين من انواع البحث العلمي، لا بد من وجود حلقة الوصل بين المفكر والعامل. وحلقة الوصل هذه هي التكنولوجي؛ فالباحث التطبيقي ياخذ النظريات من الباحث الاساس ويصف الطرق لاستغلالها والاستفادة منها في الحياة الاعتيادية ثم يعطيها الى الاخصائي في التكنولوجيا لكي يبين له الآلية التي تعمل بموجبها، أو الجهاز الذي ينفذ تصاميم الباحث، وعند انعدام الأخصائي بالتكنولوجيا تبقى دراسات الباحث مجرد خطط مرسومة على الورق .
أما ما يلزم توفره للنهوض بالبحث العلمي فيلخص بما يأتي:
1- توفر العلماء المجربين الذين مارسوا البحث واعتادوا على طرقه وتطبعوا بطباعه. فالعالم كالعامل لا يأتيه العلم بطريقة الوحي والتجرد، بل يتعلمه ويعتاد عليه ويمارسه ويزداد رسوخا به كلما ازداد ممارسة له.
2- توفر المختبرات والاجهزة اللازمة للقيام بالبحث. ومختبرات البحث تختلف عن مختبرات التعليم، واجهزته ليست اجهزة التعليم ، بل انها تتطلب الكثير مما لا تتطلبه اجهزة الدراسة.
3- توفر مراجع البحث في المكتبة وتداول المنشورات والمجلات التي تنقل نتائج ما توصل اليه العلماء في مختلف البلدان الأخرى الى العالم المحلي، بحيث يكون على اتصال دائم بالتيارات الفكرية العالمية، يتأثر بها ويؤثر فيها. فالعلم بطبيعته مظهر أممي شامل، والعالم الذي يعزل نفسه في برج عاجي لا يلبث أن يقضي على مواهبه ويقبر نفسه في برجه هذا.
4- توفر الجو العلمي الذي يساعد على البحث والانتاج ويشجعه ويحث العالم على شحذ مواهبه.
واما ما تستهدفه الجامعة للنهوض بهذا الواجب الرئيس فيتلخص في ما يأتي:
(1) تهيئة العلماء بإرسال البعوث الى الجامعات الخارجية للتدريب على البحث والممارسة واستقدام العلماء الأجانب ممن تضلعوا فيه، وتيسير العمل لهم في داخلها، وتدريب الموهوبين من شبابنا، طلابا كانوا ام مدرسين.
(2) اقامة مختبرات البحوث والعمل على استكمال نواقصها وإضافة ما تحتاج اليها.
(3) التأكيد على ضرورة انشاء مكتبة لائقة بالبحث والاشتراك بالمجلات العلمية المهمة والاتصال بمؤسسات البحث الخارجية وتبادل النشرات معها. وتشجيع النشر داخل الجامعة لنقل ما يتوصل اليه علماؤها الى الخارج وتشجيع النقد العلمي النزيه للتأكد من قيمة ما قد ينشر في الداخل والخارج.
(4) اقامة المؤتمرات العلمية والحلقات الدراسية لمناقشة الانتاج الجديد وتمحيصه ومبادلة الرأي في المشاكل القائمة.
(5) تشجيع الاشتراك في المؤتمرات العلمية الخارجية وإرسال الوفود اليها وتلخيص اهم ما يعرض فيها ونشره بين أسرة الجامعة.
(6) منح الجوائز للباحثين المتفوقين والترفيه عنهم والاعتراف بقيمة مجهوداتهم.
وفوق كل ذلك لا بد من رسم الخطط العامة للبحوث العلمية، بحيث تنظم في مشاريع علمية تؤلف وحدات قائمة بذاتها، ويعمل في كل مشروع نخبة من الأساتذة والطلاب على شكل فرقة متضامنة واحدة يساعد كل منهم الاخر ويشارك في ارشاده. ولهذا فان الجامعة جادة في تأسيس مجلس علمي أعلى يقوم على وضع تلك الخطط وتحديد واجبات المشاريع وأعمالها، ولا بد من الاعتراف بالبحث العلمي كعمل مستقل يتطلب الانصراف عن سائر الواجبات الأخرى. فمن اهم ما يتطلبه الباحث ان يتوفر له الوقت وان لا يقطع علیه سلسلة أفكاره واجبات جانبية يضطر الى القيام بها لتطمين قوته اليومي.
والبحوث العلمية لا تزدهر وتتركز الا اذا نشأت في الجامعة دراسات عالية تجعل تلك البحوث من شروط الشهادة التي تمنحها وتفرضها فرضا وتعني بنتائجها. ولهذا فان الجامعة جادة في البدء بتنفيذ مشروعها بفتح دراسة الماجستير في الأقسام التي تتأكد من صلاحها لمثل هذه الدراسات.
ان جامعة بغداد، كما اسلفنا، ما تزال طفلة لم يمض على ولادتها الحقيقية أكثر من سنتين، والأهداف جسام لا يسهل تحقيقها بمجرد الرغبة وحسن النية. ولا بد من الانتظار مدة قد تطول قبل أن تبلغ تلك الأهداف النبيلة. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نسير على الطريق القويم المؤدي الى بلوغها وان نزود انفسنا بما تتطلب اليه من متاع. ومتی يتأكد لنا ذلك نستطيع ان نطمئن الى اننا واصلون الى تلك الأهداف عاجلا أو آجلا. ومتى تستكمل الجامعة نواقصها وتبلغ سن الرشد تتقدم في توجيه هذا البلد نحو المدنية العلمية السعيدة.
وأخيرا، لا بد من التأكيد على ان الاستقرار من اهم ما تتطلبه الجامعة للقيام بواجباتها. ولا يتأتى الاستقرار الا بالاستقلال. واذن فلا بد من ضمان استقلال الجامعة لتكون بعيدة عما قد يستجد من الأهواء والنزعات. ان احكام العلم كثيرا ما تكون قاسية وكثيرا تقابل لأول وهلة بالاشمئزاز والاستهجان؛ فاذا تعرض العلماء الى شيء من الضغط او الأذى وجدوا أنفسهم في جو لا يشجعهم على التصريح بما يتوصلون اليه من النتائج، وضاعت الفائدة منهم وتحولوا الى اتباع بعد ان كانوا قادرين مرشدين، واذن فالشرط الأساس لممارسة الحرية الفكرية هو الشعور بالحصانة القانونية واستمداد القوة والصلابة من ذلك الشعور. ونحن اليوم في الجمهورية العراقية، ننعم بالانسجام التام بين اهداف جمهوريتنا الشعبية وبين اهداف العلم والحرية الفكرية، ولذلك فإننا لنعتقد مخلصين بأننا قادرون على تحقيق أهداف الجمهورية وتطويرها وتقديمها عن طريق ممارستنا استقلالنا وضمان الحصانة لأعضاء أسرتنا. ومن أجل ذلك فالجامعة جادة في أن تتقدم بطلب سن قانون جديد يحقق لها هذا المطلب الأساس.
************
-
نشرت الماد في الثقافة الجديدة العدد 271 ، آب – أيلول 1996.