أيلول/سبتمبر 12
   
  
 لم يمثل انتخاب دونالد ترامب عام 2024، في خطوطه الدراماتيكية العريضة، تتمة قاتمة لانتخابات 2016 فحسب، بل شكل العودة الاكثر رعبا في المخيلة المعذبة للبراليين الأمريكان. مرة أخرى، يظهر ترامب بدور المتمرد والمتحدي، ذابح الجمهوريين المؤسساتيين (Establishment Republicans)(1) والورعين الثابتين، فنان الهراء السافر والمتحدث بما لا يصح ذكره من الحقائق. لقد كان هذا إنجازا استثنائيا من الخداع لرجل كان قد خدم سابقا بوصفه رئيسا الولايات المتحدة مدة أربع سنوات، لرجل لم يتغير جوهر برنامجه السياسي - تخفيض الضرائب، وزيادة التعرفة الكمركية، وحدود صارمة - منذ ان كان هو وجماعته يتولون الرئاسة وكلا غرفتي الكونغرس قبل ثمانية أعوام.
  بالطبع، لقد تلقى مساعدة جديرة بالاعتبار في هذا الإنجاز، ليس فقط عبر طلقة طائشة من قاتل متمرس محتمل. لقد ساهم الديمقراطيون بشغف في استعادة هالة التمرد الأسطورية لترامب، محولين إياه من رئيس سابق الى شقي مارق، يستدعي جحافله مرة أخرى للإطاحة بالدولة العميقة. لقد تبعت الحملة الديمقراطية، في كل شيء، نسخة 2016، وما تم تغييره كان فقط لرفع الرهانات. وهكذا، بينما تحدثت هيلاري كلينتون وحلفاؤها عن "الشخصية" و"التعصب" وتفكيك "المعايير"، كانت الكلمات الرئيسية هذا العام "الإجرام" و"الفاشية" والخطر على "الديمقراطية". في حين حاكم الليبراليون المؤسساتيون في عام 2016 على سلوك ترامب الفظ، أدانته مؤسسات ليبرالية فعلية في عام 2024 بأربع وثلاثين جريمة جنائية لإخفائه مدفوعات أموال لممثلة إباحية، ووجهت إليه اتهامات في اثنتين وخمسين تهمة أخرى على المستوى الفيدرالي والولاياتي.
شهدت الانتخابات الأخيرة مشاركة رئيس ديمقراطي فيها، وكما حدث في عام 2016، فرضت قيادة الحزب [أي الحزب الديمقراطي] مرشحها المفضل، وهذه المرة لم تكلف نفسها عناء إجراء عملية أولية ذات مغزى؛ وعندما تبين أن الرئيس بايدن غير لائق بشكل واضح، استبدلوه بنائبة الرئيس كامالا هاريس، التي توجت هي الأخرى بدلاً من انتخابها. ومثل كلينتون (وبايدن في عام 2020)، تفوقت هاريس على ترامب في سباق المال، وحصلت على دعم قوي من وول ستريت، ووادي السيليكون ومعاقل أخرى للرأسمالية في الولايات الزرقاء؛ ومثل كلينتون، اختتمت حملتها بالدفاع عن النظام القائم ضد التحدي الخطير الذي فرضه ترامب.
في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وفي فيلادلفيا، نددت كلينتون، وهي محاطة بأوباما وزوجته، بتعليقات ترامب "المهينة والمهينة"، وتفاخرت بخدمتها في حكومة أوباما، ووصفت الانتخابات بأنها خيار "بين قيادة قوية وثابتة أو بين خطر لا يمكن السيطرة عليه، كمدفع مفكك، يمكنه تعريض كل شيء للخطر"(2). بينما تمسكت هاريس بالوضع الراهن بقوة أكبر، فاختارت إلقاء خطابها الرئيسي الأخير في حديقة ذا إيلابس the Ellipse في واشنطن، خارج البيت الأبيض الذي يسيطر عليه الديمقراطيون والذي خدمت فيه خلال السنوات الأربع الماضية. وإذا كانت كلينتون قد أصرت على أن "أميركا لم تتوقف أبدًا عن كونها عظيمة"، فإن هاريس ذهبت إلى ما هو أفضل: "الولايات المتحدة الأمريكية هي أعظم فكرة ابتكرتها البشرية على الإطلاق". قدمت نائبة الرئيس نفسها كوصي على الحرية الأمريكية ضد "من يطمح ان يكون دكتاتورا" و"طاغية صغير"، وشخصية من فوضى، وزعيم لغوغاء مسلحة "غير مستقر، مهووس بالانتقام، مستغرقة بالظلم وتسعى إلى السلطة غير المقيدة ... أمريكا، أنا هنا الليلة لأقول إن هذه ليست طبيعتنا! هذه ليست طبيعتنا! هذا ليست طبيعتنا!"(3)
 
التفكك  
في الجوهر كما في الشكل، أعادت انتخابات 2024 تشكيل السمات الأساسية لعام 2016. فاز ترامب بأول انتصار له من خلال الحفاظ على قاعدة الجمهوريين، التي عززها جورج دبليو بوش، الناخبون البيض في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة والضواحي الخارجية، مع إضافة شريحة استراتيجية من الدعم في الغرب الأوسط الخالي من الصناعة. ومع ذلك، إذا كانت حملة (جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) الأولى قد ألهمت حماسة حقيقية في بعض الأماكن، بما في ذلك ساحل الخليج في فلوريدا ومنطقة الفحم الأنثراسايت في بنسلفانيا، الا إن نجاح ترامب الحاسم في حزام الصدأ (Rust Belt)(4) في عام 2016 تحقق إلى حد كبير بسبب انهيار معدل مشاركة الديمقراطيين.
في أوهايو، وميشيغان، وويسكونسن، وأيوا، ومينيسوتا، حيث انخفض معدل المشاركة الإجمالي، كان عدد الناخبين الذين صوتوا لصالح كلينتون أقل بنحو 1.3 مليون ناخب عن إجمالي عدد الناخبين الذين صوتوا لصالح أوباما في عام 2012. وقد استقطب ترامب نحو 400 ألف ناخب من هؤلاء الناخبين، معظمهم من البيض ومن العمال؛ ولكن الحصة الأكبر، التي بلغت نحو 900 ألف ناخب، انسحبت ببساطة من جمهرة الناخبين(5). ولم يكن الدعم غير المسبوق الذي اكتسبته كلينتون، بين سكان الضواحي المتعلمين تعليماً جيداً وبين الموسرين، كافياً للتعويض عن هذه الانشقاقات والتلاشيات. في الأساس، كان فشل الديمقراطيين في تحفيز الطبقات المتدهورة اقتصادياً في ائتلاف أوباما التصويتي سبباً في تسليم الرئاسة الى ترامب، كما هو واضح في وسط مدينة ديترويت أو في ميلووكي، او ساندوسكي أو ساجينو(6).
من النظرة الأولى، تبدو خريطة انتصار ترامب الثانية مختلفة إلى حد كبير عن الأولى. فلم تأت "الانتقالات الحمراء" الأكثر دراماتيكية هذا العام في حزام الصدأ، بل، وبشكل غير متوقع، في مجموعة من المواقع البعيدة:  منطقة الحدود المكسيكية في جنوب تكساس (حيث تحولت مقاطعة هيدالغو، التي يسكنها 92٪ من الهسبان، لصالح ترامب بفارق 20 نقطة)، المنطقة الخارجية لمدينة نيويورك (حيث تحولت الدوائر الانتخابية ذات الأغلبية الآسيوية في كوينز بفارق 34 نقطة)، والحزام الأسود في ألاباما (حيث تحولت مونتغمري، مهد حركة الحقوق المدنية، بفارق 16 نقطة)، ومقاطعات يوبيك في ألاسكا على طول بحر بيرنغ (16 نقطة أيضًا)(7). وفي ولاية كارولينا الشمالية المتأرجحة الحاسمة، لم يحدث أكبر تحول لصالح ترامب في بيدمونت الريفية التي يقطنها البيض، او من ضواحي شارلوت الصاخبة، بل في مقاطعة روبسون في الجنوب الشرقي المليء بالمستنقعات، موطن أكبر قبيلة أمريكية هندية شرق نهر المسيسيبي. دخلت روبسون، التي تتكون من حوالي أربعين في المائة من السكان الأصليين من الـ (لومبي) وعشرين في المائة من السود، بهدوء المصوتين الى ترامب في عام 2016؛ وفي هذا العام تضخمت هوامشه بمقدار تسع نقاط أخرى، أي أربعة أضعاف التغيير على مستوى الولاية.
في منافسة تهيمن عليها بطاقات الاقتراع بالبريد والتصويت المبكر، أصبحت استطلاعات الرأي عند الخروج من مراكز الاقتراع أقل موثوقية من أي وقت مضى. وكان أفضل تحليل ديموغرافي مبكر هو استطلاع Vote Cast الذي أجرته وكالة أسوشيتد برس، والذي أجرى مقابلات مع أكثر من 120 ألف ناخب أمريكي في الأسبوع الذي سبق الانتخابات. لقد أكدت الأرقام فرضية التحول المتعدد الإثنيات نحو الحزب الجمهوري. حيث كان الناخبون البيض في حقبة MAGA(8) متسقين بشكل ملحوظ: أيد 55٪ ترامب في عام 2016، و55٪ في عام 2020، والآن 56٪ في عام 2024. بينما من الناحية العرقية والإثنية، جاءت مكاسب ترامب الحاسمة هذا العام بين الأمريكيين من أصل إفريقي، حيث قفز دعمه من 8% إلى 16٪، واللاتينيين، حيث نما من 35% إلى 43٪. وتشير مجموعة من التحليلات الإضافية إلى أن ترامب حقق أيضًا تقدمًا وطنيًا كبيرًا وإن كان غير متساوٍ بين الناخبين الآسيويين والأمريكيين الأصليين(9).
إن هذه الأرقام تمثل الحفنة الأخيرة من التراب فوق التابوت المهشم لتحالف قوس قزح الذي شكله أوباما. وبصورة نموذجية، فإن منظري المنتصرين الذين كانوا ينظرون "الأغلبية الديمقراطية الناشئة"، حيث تضمن التركيبة السكانية العرقية جيلاً من القوة الحزبية، إلى منتقدين لاذعين للغطرسة الديمقراطية(10). ومع ذلك، ليس من الواضح كثيرا إذا ما كان عام 2024 يمثل "إعادة اصطفاف عرقي". فمقاطعة روبسون ليست مجرد "اغلبية لأقلية"، بل إنها ثاني أفقر مقاطعة في ولاية كارولينا الشمالية من حيث متوسط ​​الدخل(11). تشير الأنماط السائدة في بيانات الانتخابات، التي تم النظر فيها على مدى العقد الماضي، ليس إلى إعادة تشكيل عرقية ثقافية بل إعادة تشكيل اقتصادية للناخبين الأميركيين.
إن صعود الاستقطاب التعليمي، حيث يكسب الديمقراطيون المزيد من الناخبين من حاملي الشهادات الجامعية، في حين يكتسب الجمهوريون الدعم من الأقل تعليما، أصبح الآن عنصرا أساسيا في الصحافة السائدة والتحليل اليساري. وهذا الاستقطاب لا يعد ميزة فريدة للولايات المتحدة فقط. فكما أظهر توماس بيكيتي وآخرون، فقد شهدت كل دولة ما بعد صناعية تقريبا في العالم تحول حزب يسار الوسط الرئيسي من حزب يستند الى العمال المنظمين إلى حزب قائم على "جزء متأهل تخصصيا من الطبقة العاملة"، أي المهنيين المتعلمين(12). واستمر هذا الاستقطاب بوتيرة سريعة في عام 2024، مع احتفاظ هاريس إلى حد كبير بالدعم التاريخي الذي تحصل عليه بايدن بين خريجي الجامعات، وتوسيعه بين أولئك الذين يحملون درجات علمية متقدمة. وفي الوقت نفسه، حصل ترامب على المزيد من الأصوات من أولئك الذين لا يحملون شهادات جامعية، من البيض وغير البيض على حد سواء.
أن صياغة بيكيتي تضع "اليسار البراهمي" المعاد تشكيله في مواجهة "يمين التجار" المؤيد للأعمال التجارية في جميع أنحاء العالم(13). ان هذه الصياغة ربما توضح رؤية ترامب السياسية بصورة كافية، والتي أصبحت الان أكثر من أي وقت مضى في قيامها على عالم الاعمال والتجارة، وبدعم من أشهر رأسمالي احتكاري في العالم ولكن ليس ائتلافه الذي تم تجديده. وحتى وقت قريب في عام 2012، ظل الجمهوريون الحزب الرئيسي للأميركيين الأثرياء، ليس فقط المانحين الكبار في لجنة العمل السياسي (PACs)، بل والقطاع العريض من الناخبين الذين يكسبون أكثر من 100 ألف دولار سنويا والذين فضلوا بوش ورومني بهامش مزدوج الرقم. ولكن هذا لم يعد الحال. ففي عام 2016، جمعت كلينتون أموالا خارجية أكثر كثيرا من ترامب، ونجحت في جذب حتى الأسر التي يتكون دخلها من ستة ارقام، وتفوقت عليه في الضواحي الثرية من شمال فيرجينيا إلى جنوب كاليفورنيا. وبحلول انتخابات التجديد النصفي لعام 2018، احتفظ الديمقراطيون بمقاعد في كل واحدة من أغنى عشرين منطقة انتخابية في البلاد. وبعد عامين فاز بايدن بأصوات أصحاب الدخول المكونة من ستة أرقام على الفور؛ في هذا العام، كانوا من بين الفئات السكانية القليلة جدًا التي تحولت نحو هاريس. إن اليسار البراهمي في الولايات المتحدة اليوم ليس متعلمًا تعليمًا عاليًا فحسب، بل إنه أيضًا مرتفع الأجر؛ ولا يزال نفوذه مستمرا داخل أقوى الصناعات والمؤسسات في البلاد: صناديق التحوط، وشركات الذكاء الاصطناعي، وشركات الأدوية الكبرى، وصحيفة نيويورك تايمز، ورابطة ايفي (Ivy League) للجامعات(14).
من ناحية أخرى، فإن اليمين التجاري الأميركي يعتمد بشكل أساسي ليس على الأقل تعليماً فقط ولكن أيضاً على الجزء الأقل دخلاً من الطبقة العاملة. لقد تراجعت الميزة التاريخية التي يتمتع بها الديمقراطيون، وهي دعم الثلث الأدنى من توزيع الدخل، أي الاسر التي تكسب أقل من 50 ألف دولار سنوياً، منذ عام 2012 (انظر الشكل المرفق). في هذا العام، ومع اندفاع الناخبين من ذوي الدخل المرتفع نحو هاريس، أعطت المجموعة ذات الدخل المنخفض أفضلية ضئيلة لترامب. وإذا نظرنا إلى سلم الدخل ككل، فإن المكاسب الجمهورية كانت الأكبر من قاع السلم، حيث تضاءلت مع كل درجة صاعدة: اثنتي عشرة نقطة من الناخبين الذين يقل دخلهم عن 25 ألف دولار، وعشر نقاط من أولئك الذين يكسبون بين 25 و50 ألف دولار، وسبع نقاط من أولئك الذين يكسبون بين 50 و75 ألفا، وخمس نقاط من أولئك الذين يكسبون بين 75 و100 ألف(15).
 
 
 حتى مع هذه المكاسب، فإن الميزة الإجمالية التي يتمتع بها ترامب لا تزال ضئيلة: ذلك أن الجزء الأعظم من الطبقة العاملة الأميركية منقسم بشكل شبه كامل بين الحزبين. وكما لاحظ تيم باركر، فإن التصويت "دليل على التفكك dealign­ment ، وليس إعادة التنسيق realignmentك"(16).  ومع ذلك، ان هذه التقلبات، التي تصدرت عقدا اتجاها دام عقدا من الزمان، لا يمكن ان يتم تجاهلها. وفي الوقت الحالي، لا يوجد سبب يذكر للاعتقاد بأن أيا من الحزبين لديه القدرة، أو حتى الرغبة، في منع التحول المزدوج للتعليم والدخل من الاستمرار، في كلا الاتجاهين.
 
أزمة الديمقراطيين
أعاد سباق 2024 تمثيل عام 2016 في بُعد أكثر أهمية: حيث لم يتميز بموجة عالية لــ MAGA بقدر ما تميز بانخفاض غير متوقع في الإقبال الديمقراطي. على الصعيد الوطني، أدلى حوالي 64 في المائة من الناخبين المؤهلين بأصواتهم، وهي نسبة عالية جدًا وفقًا للمعايير الأمريكية الأخيرة، على الرغم من الانخفاض الطفيف عن أعلى مستوى في عام 2020 (17). في الغالب، ماثل ترامب الدعم الذي تحصل عليه قبل أربع سنوات، بينما أضاف بشكل كبير إلى مجموع اصواته من تكساس وفلوريدا وشمال شرق البلاد. وقد ساعدت الجهود التي قادها الديمقراطيون لتوسيع نطاق الوصول إلى بطاقات الاقتراع في الولايات المتأرجحة، وهي ساحة المعركة الفعلية، الجمهوريين عن غير قصد، الذين يفوزون الآن بأكبر حصة من الناخبين غير المنتظمين. قال أحد خبراء استطلاعات الرأي في حملة ترامب لصحيفة نيويورك تايمز: "كانت الاستراتيجية تشبه إلى حد كبير عام 2016، وهي جذب الناخبين العاديين الذين اعتقدوا أن البلاد تسير على المسار الخطأ"(18).
ولكن، على المستوى الوطني، ان أصوات ترامب الإضافية التي بلغت 2.5 مليون صوت لا تمثل شيئا مقارنة  بـ 7.1 مليون ناخب لبايدن لم يصوتوا لهاريس. وكان هذا الانهيار الديمقراطي أكثر وضوحا داخل القاعدة الحضرية للحزب. ففي المدن الكبرى في جميع أنحاء البلاد، حصلت هاريس على أصوات أقل بكثير من بايدن، 1.1 مليون صوت أقل في مدينة نيويورك ولوس أنجلوس وحدهما. وفي بوسطن، سجلت أدنى إجمالي تصويت للديمقراطيين منذ عام 2008؛ وفي ميامي وكليفلاند وسانت لويس وهونولولو، كان الأدنى منذ حملة جون كيري المحكوم عليها بالفشل في عام 2004. وفي نيويورك وشيكاغو، تأخرت هاريس حتى عن كيري في كل من إجمالي الأصوات وحصة الناخبين.
وبفضل صندوق الحرب الذي تبلغ قيمته مليار دولار الذي قدمته هاريس، صمد الدعم الديمقراطي في أتلانتا وبيتسبرغ وغيرهما من مدن الولايات المتأرجحة بشكل أفضل من أي مكان آخر. وفي ميلووكي، تحت قيادة المنظمة الديمقراطية الأكثر كفاءة والأكثر إثارة للضجة في البلاد، ارتفعت معدلات المشاركة (19). ولكن في فيلادلفيا وديترويت، تراجعت أصوات الديمقراطيين إلى مستويات عام 2004، الأمر الذي ساعد في إبقاء بنسلفانيا وميشيغان خارج المنافسة.
وكما حدث في عام 2016، كان هذا التراجع الحضري العام ذا طابع طبقي واضح. فبينما احتفظت هاريس بمكانتها في أحياء بروكلين الثرية والمتعلمة مثل بوروم هيل وبارك سلوب، اختفت عشرات الآلاف من أصوات بايدن، من مناطق ذوي الياقات الزرقاء في بينسونهورست وبراونزفيل. وفي مختلف أنحاء الجانب الجنوبي المضطرب من شيكاغو، انخفضت معدلات الدعم الديمقراطي والإقبال الإجمالي بشكل حاد. وينطبق نفس الشيء على الدوائر الانتخابية الفقيرة، تلك التي يقطنها السود في الغالب، في غرب فيلادلفيا وجنوب شرق واشنطن وشمال سانت لويس وأكرون في ولاية أوهايو.
في نيويورك وعدد قليل من مراكز الولايات الزرقاء [أي الديمقراطية] الأخرى، امتد إحباط الطبقة العاملة تجاه الديمقراطيين إلى اندفاعة صغيرة الى الـ MAGA، حيث فاز ترامب بأصوات أكثر في برونكس من أي جمهوري منذ ريغان في عام 1984. وفي الدائرة التي تضم أكبر مجمع سجون في شيكاغو، وصل التحول نحو ترامب إلى 45 نقطة(20). ومع ذلك، في معظم المدن والضواحي الأقل ثراء والمناطق الريفية الأكثر فقراً، كان العامل الرئيسي مرة أخرى هو تلاشي أصوات الديمقراطيين. كما هو الحال في مترو سياتل، ومعظم السهول الكبرى، وولاية ميسيسيبي بأكملها، حيث انخفضت حصيلة هاريس في 81 من أصل 82 مقاطعة. في فيرجسون بولاية ميسوري، مسقط رأس حركة (حياة السود مهمة) قبل عشر سنوات، لم يكتسب ترامب أي دعم جديد لكن هاريس حصلت على أصوات أقل بنسبة 25 في المائة من بايدن أو كلينتون.
الفجوات بين الجنسين
في أعقاب فوز ترامب، ركزت التعليقات السريعة على العوامل الظرفية التي أدت إلى انخفاض مكانة الديمقراطيين. ان ارتفاع الأسعار بعد الوباء ارتد بالفعل ضد الحكومات القائمة من هولندا إلى نيوزيلندا. ومع قيام ثلثي الناخبين الأميركيين بتقييم الاقتصاد دون المستوى، لم يكن هناك سبب يذكر لإعفاء نظام بايدن-هاريس من رد الفعل العنيف العام. ساهمت الصراعات بالوكالة المزعزعة للاستقرار في أوكرانيا وإسرائيل/فلسطين، والتي تم تمويلها بسخاء من قبل دافعي الضرائب الأميركيين ولكن بدعم ضئيل خارج النخبة السياسية، في إثارة القلق العام. وقد كلفت الديمقراطيين دوائر انتخابية رئيسية، بما في ذلك الأميركيون العرب في ميشيغان والناخبين الأصغر سنا في كل مكان. وكما حدث في عام 2016، عندما ترشح ترامب ضد سجل كلينتون التدخلي في العراق وليبيا وسوريا، سمحت له خلفية الحروب التي يدعمها الديمقراطيون بالتظاهر بأنه مرشح "السلام".
وقد زاد الطين بلة على الديمقراطيين، الارتباك الذي حصل في عملية حصول بايدن الناعمة على ترشيح الحزب، والذي أعقبه انهياره المفاجئ واطاحته الفوضوية، حيث كانت هاريس نفسها غير مستقرة وربما مميزاتها وقدراتها لا يمكن معرفتها: خلال حملتها التمهيدية في عام 2019، تحت شعار "كامالا من أجل الشعب" وراية حمراء صفراء أرجوانية متوهجة، وهي الألوان التي تم رفعها من غلاف طبعة ورقية من كتاب "معذبو الأرض"، اتهمت بايدن بالدفاع عن الفصل العنصري ودعمت نسخة صديقة للصناعة من "الرعاية الطبية للجميع"، ما أدى إلى تنفير كل أنواع الديمقراطيين تقريبًا قبل انسحابها قبل انتخابات أيوا التمهيدية. اما حملتها الرئاسية لعام 2024 فقد تمت ادارتها بصورة أقرب للحزب، كما كانت أكثر وفاء لعقيدته في كل تفاصيلها من الأسلحة لحرب نتنياهو على غزة (المطلوبة بشكل عاجل) إلى "بودكاست تجربة جو روجان" (غير مقبول على الإطلاق). لقد جلبت القليل من الأصول التنافسية إلى السباق. وفي الوقت نفسه، حقق ترامب، بفضل الحظ الذي حالفه بسبب جرح في شحمة أذنه وصداق عروس كبير من أغنى رجل في العالم، ارتفاعات شخصية في شعبيته في استطلاعات الرأي، وكانت رياح الحظ تحيط به.
 إن الرياح وان كانت تموج سطح النهر، إلا أنها لا تحدد اتجاه التيار. ان التكرار الدقيق لأعمق أنماط عام 2016، وتفكك الطبقات قبل كل شيء، يشير إلى أن القصة الحقيقية لانتصار ترامب الثاني لا يمكن اختزالها في الظروف المباشرة لعام 2024. ومن المفارقة، أن بعض الأدلة الأكثر وضوحًا هنا يمكن العثور عليها من خلال النظر فيما اعتبره الكثيرون الحدث السياسي الأمريكي الأكثر أهمية بين الانتخابات الأخيرة، وهو حكم المحكمة العليا في قضية دوبس في يونيو/ حزيران 2022. ووفقًا للرأي المتفق عليه، كان قرار المحكمة التاريخي بإلغاء قضية روي ضد وايد (Roe vs Wade)(21)، السابقة القديمة التي كرست حقوق الإجهاض الدستورية، انتصارًا أيديولوجيًا للجمهوريين ولكنه هدية انتخابية للديمقراطيين، نظرًا لأن حوالي ثلثي الجمهور الأمريكي يؤيد الإجهاض القانوني. في الاستفتاءات على الولايات حول هذه القضية منذ القرار، كانت الأغلبية دائمًا لصالح حقوق الإجهاض، حتى في الولايات الحمراء مثل أوهايو وميسوري. بالنسبة للعديد من المعلقين الليبراليين، بدا "عالم ما بعد دوبس" متحيزًا هيكليًا لصالح الديمقراطيين، ما عزز قبضتهم على الناخبات. وبدا أن هروب الحزب من "الموجة الحمراء" في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022 يبرر هذه الثقة.
كان نقض حكم روي ضد وايد بمثابة نعمة خاصة لهذا النوع من الديمقراطيين، حيث سمح للحزب بتبني موقف من الغضب الأخلاقي الشديد دون الدعوة إلى أي شيء أكثر جرأة من العودة إلى الوضع السابق. جعلت هاريس حقوق الإجهاض محور حملتها، حتى أنها اقترحت أن الديمقراطيين قد يتجاوزون عرقلة مجلس الشيوخ من اجل تدوين قرار روي في القانون الفيدرالي. في غضون ذلك، كان التهديد بحظر الإجهاض على المستوى الوطني بمثابة خط هجوم رئيسي ضد ترامب والجمهوريين.
ولكن كان لهذا تأثير قليل. حيث تصرف ترامب، الذي أظهر براعة تكتيكية أكثر من أي ديمقراطي، بسرعة لتحييد القضية. طارحا، في المؤتمر الجمهوري، برنامجا حزبيا يفتقر بشكل واضح إلى المزيد من الالتزامات بتقييد حقوق الإجهاض؛ وفي وقت لاحق، تحدى العقيدة اليمينية وتعهد باستخدام حق النقض ضد أي حظر فيدرالي للإجهاض يصل إلي مكتبه كرئيس(22). وعلى الرغم من الثرثرة الليبرالية حول "القومية المسيحية"، يبدو أن عددا كافيا من الناخبين صدقوه أو راهنوا على إمكانية تأمين الإجهاض على مستوى الولاية، بغض النظر عن السياسة الفيدرالية. وفي ساحة المعركة في ولاية أريزونا، هزم ترامب هاريس بسهولة، حتى مع تأييد 60% من الناخبين لإجراء يحمي حقوق الإجهاض في دستور الولاية. وعلى الصعيد الوطني، أدلى ثلث الناخبين المؤيدين لحق الاجهاض بأصواتهم لصالح ترامب(23).
لا ينبغي ألا يمثل هذا مفاجأة كبيرة، نظرًا لعقم الدعم الديمقراطي لما يسمى "الحقوق الإنجابية". كالعادة، كان هذا يمثل في عام 2024 الإجهاض وتنظيم النسل وقليلًا غير ذلك. لكن، لا إجازة أبوة، أو رعاية صحية عامة، أو احتياط اجتماعي ديمقراطي أوسع للحياة الأسرية. كان الائتمان الضريبي للأطفال الذي اقترحته هاريس أقل سخاءً في الواقع من الدعم الذي طرحه نائب الرئيس المنتخب جيه دي فانس(24). لقد فشلت سياسات الحقوق الإنجابية، والتي تركز على تهديد رد الفعل اليميني بدلاً من الإصلاح الحقيقي، في تحريك الناخبين. في عام 2020، فاز بايدن بتأييد الامهات لأطفال في سن المدرسة بفارق اثنتي عشرة نقطة؛ هذا العام، وفقًا لـ Votecast، أعطت "الأمهات" ترامب اصواتهن بفارق بنقطتين(25). بل وحتى النساء دون سن الـخامسة والأربعين، اللاتي تم الترويج لهن باعتبارهن مجموعة انتخابية أساسية داعمة حقوق الإجهاض، قد تحولن للتصويت بقوة لترامب. وحتى الشباب الذين حاول الديمقراطيون اجتذابهم بإعلانات شبه إباحية تحذر من ان الحزب الجمهوري سيقوم بحضر حبوب منع الحمل البعدية (morning-after pill)، اثبتوا انهم اقل تقبلا لهذه التحذيرات، فلقد بلغت نسبة تأييدهم لترامب اثنتين وعشرين نقطة بشكل ملحوظ.
 
 
بايدنوميكس؟(26)
 وفوق كل شيء، وكما حدث في عام 2016، تحولت الانتخابات إلى فشل الحزب الديمقراطي الحاكم في الاحتفاظ بدعمه داخل الطبقة العاملة المتدهورة اقتصاديا: الذكور والإناث، والبيض والسود واللاتينيين والآسيويين والسكان الأصليين. ومع غياب الثقة بأن كلينتون/هاريس قادرتان على تغيير الوضع الراهن لأوباما/بايدن، فقد اختارت نسبة كبيرة من الناخبين البديل الملموس الذي اقترحه ترامب، مهما كان كاذبا وغير كاف في الممارسة العملية، وهو حماية التجارة ومراقبة الحدود، بينما ظلت نسبة أكبر منهم في المنزل.
وبالنظر إلى الأرقام القياسية المثيرة للإعجاب التي حققها الاقتصاد الأميركي، في التوظيف والأجور والإنتاجية والنمو، فقد وجد بعض الخبراء الليبراليين هذا الأمر محبطاً بشكل خاص. فقد سعى بايدن، بعد كل شيء، إلى الإعلان عن تغيير في نظام الاقتصاد السياسي لواشنطن، رافضاً، بشكل، واضح التركيز في عهد أوباما على خفض العجز. لقد استقبلت حزمته الضخمة من التحفيز لما بعد الجائحة، التي أعقبها إنفاق كبير، وإن كان ضئيلاً، على الطاقة الخضراء، والبنية الأساسية، وتصنيع أشباه الموصلات، بقدر كبير من الضجة حول "نهاية العصر النيوليبرالي". وعمل بايدن بجد لتسويق نفسه باعتباره "الرئيس الأكثر تأييداً للنقابات في تاريخ أميركا"، حتى أنه ظهر في خط اعتصام لعمال السيارات في ميشيغان. كما عززت تعييناته، في مجلس العلاقات العمالية الوطنية، ولجنة التجارة الفيدرالية، ولجنة الأوراق المالية والبورصة، الذي استقبله المعلقون اليساريون الليبراليون بإعجاب عام، فكرة أن هذه كانت رئاسة ديمقراطية من نوع مختلف.
ولكن على أرض الواقع في معظم أنحاء البلاد، لم يكن الأمر كذلك. في الحقيقة، كان التحفيز المباشر للوباء الذي أقره ترامب أكبر من حزمة بايدن؛ وكانت مشاريع القوانين الأخرى للإنفاق، مع آفاق ميزانيتها التي تمتد لعشر سنوات، متواضعة للغاية وموزعة بشكل ضعيف للغاية بحيث لا تحدث فرقًا كبيرًا في حياة معظم الأميركيين غير المنخرطين بشكل مباشر في حفنة من القطاعات المستهدفة. ومهما كان ما قاله بايدن أو فعله من أجل العمل المنظم، فقد استمرت كثافة النقابات في انحدارها المستمر منذ عقودًا في عهده (27). ومن خلال أذرعها التنظيمية، سجلت الإدارة عددًا من الإصلاحات المفيدة: خفض سعر المعينات السمعية، القضاء على الرسوم الاستهلاكية المخفية، وملاحقة الاحتيال في العملات المشفرة. لكنها لم تحقق أي شيء تقريبًا يترك بصمة بنيوية على الاقتصاد أو علاقات القوة، أو قد يولد كتلة انتخابية سياسية مستمرة.
وإذا كان البيت الأبيض قد روج لنجاح البايدنوميكس، واختارت حملة هاريس لشعار هو "الفرح"، وأيضا، احتفال بعض خبراء الاقتصاد التقدميين بـ "أعظم اقتصاد على الإطلاق"، الا ان معظم الأميركيين، الذين يكافحون خلال أيام صرف رواتبهم، شعروا بخلاف ذلك(28). ولم يتطلب الأمر مثقفًا يساريًا، أو ناخبًا متأرجحًا من حزام الصدأ، ليشم رائحة العوز المختبئة خلف عناوين اخبار الاقتصاد الكلي. وبينما ألقى الليبراليون باللوم على "المشاعر العدائية" للحزبية وللدعاية، حكمت الغالبية العظمى من الأميركيين من أصل أفريقي، والذين لا يزالون العنصر الديموغرافي الأكثر ولاءً للقاعدة الديمقراطية، على الاقتصاد بأنه مقبول أو سيئ (29). حتى ان مجلة الاطلنطي The Atlantic، بعد الانتخابات، وهي المعقل الرائد في عكس وجهة نظر واشنطن، تمكنت من إدراك، أن بايدن فشل ببساطة في تحسين حياة الطبقة العاملة: "لقد انخفض متوسط ​​دخل الأسرة الحقيقي مقارنة بذروته قبل وباء الكوفيد.. كما ارتفع معدل الفقر، وكذلك معدل البطالة. وارتفع عدد الأميركيين الذين ينفقون أكثر من 30% من دخلهم على الإيجار. وارتفع معدل التخلف عن سداد أقساط بطاقات الائتمان، وكذلك نسبة الأسر التي تكافح من أجل تحمل تكاليف ما يكفي من الطعام المغذي، وكذلك معدل التشرد... وانتهت صلاحية كل من زيادة قسائم الطعام، وتوسيع ائتمان ضريبة الأطفال، ومدفوعات التأمين ضد البطالة الكبيرة. ولم يمرر البيت الأبيض قط تدابير اقتصاد الرعاية الدائمة التي كان قد وعد ان يأخذها بعين الاعتبار"(30).
وكما في عام 2016، سيكون التضخم في عام 2024، هو المتهم الاقتصادي المباشر، بسبب ركود الأجور، وعدم المساواة، وفقدان الوظائف في قطاع التصنيع في حزام الصدأ(31). لكن الواقع الاشمل هو أن معظم الأميركيين من الطبقة العاملة لم يعودوا يرون الديمقراطيين كحزب يمثل مصالحهم. خلال نصف القرن بين أيزنهاور وكيري، كانت هذه هي السمة التي أحبها الناخبون أكثر من غيرها في الحزب، اي أنه يبدو وكأنه "حزب الطبقة العاملة"(32). ان هذا التصور، الذي كان دائما متساهلا من ناحية سياسية ومشكوكا فيه من ناحية اجتماعية، لم يبق كما هو في رئاسة أوباما. وعلى الرغم من تبنيه في بعض الأحيان لخطاب "شعبوي" خلال الحملة الانتخابية، وخاصة ضد المدير التنفيذي والمستثمر رومني في عام 2012، فإن الإنجاز الأكثر ديمومة الذي حققه أوباما في البيت الأبيض كان تأكيد الهوية الجديدة للديمقراطيين باعتبارهم حزب رأس المال المدن الكبرى: تشكيل سياسي يتسم بالقرابة الوثيقة مع وول ستريت ووادي السيليكون، وبسيطرة التكنوقراطي على الحكومة، والتعددية النخبوية في الثقافة. ان الهالة القديمة المتمثلة في أولويات وقيم "الطبقة العاملة"، تلك التي كانت لدى روزفلت وترومان وجونسون وهامفري، كانت قد اختفت منذ فترة طويلة؛ ولكن فقط في عهد أوباما تم استبدالها بشكل حقيقي بشيء آخر. ولم يتمكن كلينتون ولا بايدن ولا هاريس من إحيائها(33).
ولم يأتِ سعي الحزب الديمقراطي لاستبدال الناخبين من ذوي الياقات الزرقاء الذين فقدهم بمهنيين متعلمين دون ارباح: فقد أدى إلى تحسين أدائهم في انتخابات التجديد النصفي ذات الإقبال المنخفض، في حين عزز النفوذ داخل الحزب لوسائل الإعلام التابعة، وجماعات المناصرة وجماعات الضغط التجارية في الولايات الزرقاء [الولايات الديمقراطية]. وفي ظل ظروف مواتية، كما في عام 2020، عندما احتشد عدد كاف من العمال في الولايات المحورية تحت الضغط الهائل للوباء لدعم بايدن، كان ائتلاف الحزب المعاد تشكيله لا يزال قادرا على تحقيق النصر. ولكن مع تمثيل خريجي الجامعات لأقل من أربعين في المائة من الناخبين الأميركيين، فرض هذا التحول الكبير سقفا منخفضا وصعبا على مدى قدرة الديمقراطيين على الوصول الانتخابي. ولم يعد من الممكن تصور حدوث انتصار ديمقراطي على نطاق عام 1992 أو 2008 ــ ناهيك عن عام 1936 أو 1964.
بعد عام 2016، عزى الديمقراطيون أنفسهم بفكرة مفادها أنهم هُزموا بسبب اندفاعة قبيحة من التعصب الشعبي، تغذيها "معلومات مضللة" من قِبَل اليمين ووسائل إعلام ساذجة، وليس بسبب أي تغييرات أعمق في الناخبين. ولا شك أن هذا التفسير الجذاب سوف يضفي نكهة خاصة على العديد من التحليلات التي تلي الانتخابات في عام 2025. ولكن ينبغي للجميع خارج الفقاعة أن يبحثوا في مكان آخر.
   
   
* نشرت المادة في العدد 150 من دورية New left review وهو عدد شهري تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر 2024.
 
** ماثيو كارب (Matthew Karp): أستاذ مشارك متخصص يعمل في جامعة برينستون. حاصل على الدكتوراه في التاريخ عام 2011. وهو يدرس عدد من المواضيع من بينها: الحرب الاهلية، والعبودية، الغاء العبودية. بدأ اهتمامه بالاشتراكية وبالاشتراكية الديمقراطية مع ازمة عام 2008. نشر اول كتابه له عام 2016 تحت عنوان "هذه الإمبراطورية الجنوبية الشاسعة".
 
 الهوامش
(1) establishment Republicans الذين اخترنا لهم ترجمة "الجمهوريين المؤسساتيين"، او ربما الجمهوريين الراسخين، جناح من الحزب الجمهوري، يمثل باعتدال رؤى الحزب التقليدية المحافظة ماليا واجتماعيا. كان هو الجناح السائد لفترة طويلة منذ ان حلوا محل الجمهوريين المحافظين Conservative Republicans بعد عام 1992 ولغاية استلام ترامب السلطة اول مرة عام 2016. كانت أبرز التحديات التي واجهوها قبل وصول ترامب هو حركة حزب الشاي 2009 وكذلك اليمين المتدين من الجمهوريين. بسبب اعتدالهم في القضايا المحافظة يطلق عليه أحيانا الجمهوريين اللبراليين او "الجمهوريين بالاسم فقط". [المترجم]
(2) Clinton speech at a rally in Philadelphia; transcript available at cnn.com. 
(3) Katie Rogers and Reid Epstein, ‘In Closing, Harris Casts Herself as the Unifier and Trump as a “Petty Tyrant”’, New York Times, 29 October 2024. Full transcript of Harris’s Ellipse speech published in The Black Wall Street Times, 30 October 2024.
(4) حزام الصدأ (Rust Belt): مصطلح يشير الى منطقة تقع الى شمال شرق الولايات المتحدة، كانت هذه المنطقة معروفة سابقا باسم قلب المنطقة الصناعية الأمريكية، لكن الصناعة تراجعت في المنطقة منذ منتصف القرن العشرين لأسباب متعددة. وعانت المنطقة من التدهور الاقتصادي، الفقر، وانخفاض عدد السكان، واضمحلال المناطق الحضرية. بالتالي فإن المصطلح يشير الى هذا التدهور [المترجم]
(5) Nate Cohn, ‘The Obama–Trump Voters Are Real. Here’s What They Think’, nyt, 15 August 2017. All five states gained population from 2012 to 2016, so the 900,000 vanished voters cannot be accounted for in terms of demographic decline. On the Rust Belt wipeout see Mike Davis, ‘The Great God Trump and the White Working Class’, Catalyst, vol. 1, no. 1, Spring 2017.
(6)Two reported bulletins from Milwaukee remain essential reading for understand­ing this failure: Sabrina Tavernise, ‘Many in Milwaukee Neighborhood Didn’t Vote—and Don’t Regret It’, nyt, 20 November 2016; Malaika Jabali, ‘The Colour of Economic Anxiety’, Current Affairs, 3 October 2018.
(7)Matthew Thomas, ‘The Red Wave in Queens Was Years in the Making’, Vulgar Marxism, 18 November 2024. The Alaska figures are for state house districts 38, 39 and 40.
(8)MAGA مختصر شعار (جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى Make America Great Again). شعار حملتي ترامب الرئاسيتين 2016 و2024. نشأ عام 1979 وارتبط بحملة ريغان الرئاسية عام 1980. وضع ترامب له علامة تجارية وكان ذلك عبر ارتداء القبعات التي تحمل الشعار. [المترجم]
(9)Neely Bardwell and Marlon WhiteEagle, ‘Post-Election Survey Shows Trump-Harris Split, Reservation Divide’, Native News Online, 16 November 2024; Neetu Arnold, ‘Why Asian Americans Are Moving Right’, The Free Press, 22 November 2024.
(10)John Judis and Ruy Teixeira, The Emerging Democratic Majority, New York 2002; John Judis and Ruy Teixera, Where Have all the Democrats Gone? The Soul of the Party in the Age of Extremes, New York 2023.
(11)The median household income in Robeson County is $39,393, nearly half the nationwide median of $75,000, while the poverty rate is over 27 per cent: Samuel Stebbins, ‘These Are the Poorest Counties in North Carolina’, 24/7 Wall St, 10 April 2024, which draws on the us Census Bureau’s 2022 American Community Survey.
(12)Thomas Piketty, Capital and Ideology, Cambridge ma 2022, pp. 744–74; Dylan Riley and Robert Brenner, ‘Seven Theses on American Politics’, nlr 138, Nov–Dec 2022, p. 17.
(13) مصطلحي (اليسار البراهمي -Brahmin Left) و(يمين التجار -Merchant right) نحتهما الاقتصادي توماس بيكتي وزملائه. اشتق المصطلحان من النظام الطبقي الهندي. حيث يبدو بحسب بيكتي، ان الانقسام في الصراع السياسي الحديث في الديمقراطيات الغربية يتبع شكلا مشابها. اليسار البراهمي يصف انخفاض تصويت الطبقة العاملة لأحزاب اليسار الغربية مقابل الهيمنة المرتفعة لتصويت المصوتين ذوي التعليم العالي والنخب. وقد نشأ اليسار البراهمي عبر عقود طويلة. ومن بين احزابه/، بحسب بيكتي، الحزب الديمقراطي الأميركي. [المترجم]
للمزيد الاطلاع: 
Amory Gethin, Western Democracies, 1948–2020, The Quarterly Journal of Economics (2022), 1–48:Clara Mart´inez-Toledano, Thomas Piketty, Brahmin Left Versus Merchant Right: Changing Political Cleavages in 21
(14) The best guide to the relations between capital and party coalitions in the us today remains Dylan Riley, ‘Faultlines’, nlr 126, Nov–Dec 2020. For a cursory map of political fundraising by industry in 2024, see Matthew Karp, ‘Power Lines’, Harper’s, October 2024.
(15) According to VoteCast, Trump’s support among voters under thirty climbed from 36 to 47 per cent: this cohort seems likely to have driven much of the lower-income shift between 2020 and 2024.
(16)Tim Barker, ‘Dealignment’, nlr–Sidecar, 11 November 2024. The fullest statisti­cal portrait of the phenomenon in us politics is Jared Abbott, ‘Understanding Class Dealignment’, Catalyst, vol. 7, no. 4, Winter 2024.
(17) Turnout in 2020 was over 66 per cent; the pandemic election reforms of that year seem to have raised the floor of participation in national elections. Michael McDonald, ‘Turnout Rates in the 2024 General Election’, Election Lab at the University of Florida.
(18) Ashley Wu et al., ‘Key to Trump’s Win: Heavy Losses for Harris Across the Map’, nyt, 19 November 2024.
(19) Elena Schneider, ‘Wisconsin Democrats Built a Winning Machine. Now Comes Its Greatest Test’, Politico, 3 April 2022.
(20) Andrew Stanton, ‘Trump Beat Harris Among Pretrial Detainees in Chicago’s Biggest Jail’, Newsweek, 19 November 2024.
(21) قضية رو ضد وايد (Roe vs Wade) قرار من المحكمة العليا الامريكية عام 1973 قضت فيها بأن دستور الولايات المتحدة يحمي حرية المرأة الحامل في اختيار الإجهاض دون قيود حكومية. وقد ألغى القرار العديد من قوانين الإجهاض الفيدرالية والولائية في الولايات المتحدة. وقد نقضت ذات المحكمة هذا الحكم في يونيو/ حزيران 2022. وهي محكمة يغلب عليها اليمينيون الذين عينهم ترامب في فترة رئاسته الأولى. بموجب الحكم الأخير فإن ولاية أميركية باتت حرة في سنّ تشريع خاص بها للسماح بالإجهاض أو حظره. تعد قضية الإجهاض واحدة من أكثر القضايا إثارة للانقسام في المشهد السياسي الأميركي.
 
(22)They rolled us’, lamented one veteran anti-abortion activist at the rnc. It was the first time since 1992 that a Republican platform did not include ‘any pro-life language’: Matt Smith, ‘rnc Platform Committee Approves Trump-Backed gop Agenda in Milwaukee’, wisn 12 News, 9 July 2024.
(23) A Center for Working-Class Politics study of Pennsylvania found that Democratic appeals to abortion rights were considerably less effective than rhetoric with an economic populist bent: Jared Abbott et al., Populism Wins Pennsylvania, New York 2024, pp. 10–20. 
(24) A disingenuous suggestion, given congressional Republicans’ demonstrated opposition to such a credit, but indicative of the increasing muddiness around the politics of family welfare. The American Enterprise Institute, once the dominant think tank on the right but largely left in the cold by Trump, scoured both propos­als: Alex Brill, Kyle Pomerleau and Stan Veuger, ‘Presidential Candidates’ Duelling Tax Credit Expansions’, Tax Notes Federal, vol. 185, 7 October 2024.
(25) ‘Dads’, by contrast, shifted one point toward Harris.
(26) بايدنوميكس Bidenomics اختصار، خصوصا من قبل العامة، لـ: السياسة الاقتصادية لإدارة جو بايدن. وغالبا ما يتم التهكم عليها من قبل مناوئيه بتحريفيها الى   Badenomics 
(27) Andrea Hsu, ‘Union Membership Grew Last Year, But Only 10 Per Cent of us Workers Belong to A Union’, npr: All Things Considered, 23 January 2024.
(28) Dean Baker, ‘Joe Biden Has Given Us the Greatest Economy Ever’, Center for Economic Policy Research blog, 19 May 2023.
(29) ‘Cross-Tabs: October 2024 Times/Siena Poll of the Black Likely Electorate’, nyt, 12 October 2024.
(30)Annie Lowrey, ‘The Cost-of-Living Crisis Explains Everything’, The Atlantic, 11 November 2024.
(31) Dylan Riley, ‘American Brumaire?’, nlr 103, Jan–Feb 2017
(32)Mark Brewer, Party Images in the American Electorate, New York 2008.
(33) Perry Anderson, ‘Passing the Baton’, nlr 103, Jan–Feb 2017, pp. 62–4 and Matthew Karp, ‘Party and Class in American Politics’, nlr 139, Jan–Feb 2023.