يمثّلُ صعودُ الأحزاب والشخصيات المتطرفة في الانتخابات، سواء على مستوى أوروبا أو الولايات المتحدة، وبدرجة أقل على مستوى بقية العالم تهديدا حقيقيا للسلم العالمي. هذا التهديد يتفاعل عبر المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية. يعكس هذا الصعود أزمة بنيوية عميقة اجتماعية - اقتصادية تعيشها الأنظمة الرأسمالية، وخيبة أمل شرائح واسعة من المواطنين من تراجع دولة الرفاه الاجتماعي وارتفاع معدلات البطالة والتضخم وضبابية المستقبل. هذه الظروف تُهيئ التربة الخصبة لنمو هذه الأحزاب والقوى ذات التوجهات القومية الفاشية التي توظف شعاراتها الشعبوية عبر اساليبها الديماغوجية لكسب الشرائح الاجتماعية اليائسة.
جاء فوز دونالد ترامب للمرة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024 ضمن هذا السياق، إضافة إلى تراجع دور الولايات المتحدة على المستوى العالمي اقتصاديا وسياسيا بعد صعود أقطاب دولية قوية خصوصا الصين. هذا الفوز يعكس في الواقع في جانب منه محاولة لوقف هذا التراجع ولـ "استعادة أمريكا عظيمة"! كما يردد ترامب، خدمة للشركات الاحتكارية الكبرى. والملاحظ، تميزت الفترة الثانية من حكمه _ مقارنة بالفترة الأولى _ بزيادة حدة التوجهات العدوانية الشوفينية، متمثلة بتهديده بضم بلدان ذات سيادة إلى الولايات المتحدة مثل كندا، وأقاليم مثل غرينلاند التي هي جزء من الدنمارك والسيطرة على قناة بنما واحتلال غزة وتهجير سكانها. هذه التهديدات المستفزة بقوة للمشاعر الوطنية، والتي تتسم بالغرور وبالبلطجة وغير المسبوقة في العلاقات الدولية حتى في حالة عدم تنفيذها فإنها ستُسهم في خلق بيئة عالمية غير آمنة وستشيع عدم الثقة بين الدول حتى في أوساط الحلفاء الغربيين. ويمكن أن تُستخدم للمساومة وعقد الصفقات على غرار طريقة ترامب في عقد الصفقات التجارية. كذلك محاولة الإدارة الأمريكية فرض تسوية للحرب الروسية - الأوكرانية دون إشراك أوكرانيا والدول الأوروبية والأمم المتحدة في المفاوضات التي جرت بينها وبين روسيا. هذا النهج بحد ذاته وسّع الانقسام الأمريكي - الأوروبي، وجعل الاتحاد الأوروبي يخطط لزيادة إنفاقه العسكري. وهو لا يُسهم في النهاية في تحقيق سلام عادل بين طرفي الحرب على المدى البعيد.
وهناك جبهة أخرى تنعكس على السلم العالمي متمثلة بالحرب التجارية التي يخوضها ترامب ضد بعض الدول، من خلال فرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على الواردات القادمة من كندا والمكسيك، ورفع هذه الرسوم بنسبة 20 في المئة على السلع الصينية. وقد ردت كندا والصين بفرض رسوم جمركية مضادة على عدد من السلع الأمريكية. كذلك التهديد بفرض هذه الرسوم على الاتحاد الأوروبي. كل ذلك سيُسهم في تراجع نمو الاقتصاد العالمي، ويرفع الأسعار التي يدفع ثمنها المستهلك سواء في الولايات المتحدة أو في البلدان المستهدفة بفرض هذه الرسوم. وسيُسهم ذلك في ارتفاع وتيرة التوترات الأمنية على المستوى العالمي. ولأهمية هذا الموضوع وخطورته خصصنا في هذا العدد مقالتين تعالجان هذا الصعود المقلق لليمين المتطرف.
المطلوب جبهة عالمية تضم الأحزاب والقوى والمنظمات اليسارية والديمقراطية في مختلف البلدان، للتصدي لهذا النهج العدواني لليمين المتطرف، والضغط على الحكومات كي يكون موقفها مستقلا وقويا، وأن لا تقدم التنازلات للإدارة الأمريكية.
على مستوى الداخل الأمريكي، فإن نهج ترامب يعزز نزعة الاستبداد في الحكم ويُضعف من الديمقراطية، ومن صلاحيات الكونغرس الأمريكي، ما يسهل عليه الانخراط في مغامرات عسكرية ضد هذا البلد أو ذاك، تحت ذرائع مختلفة منها الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة الحيوية .
انعكاس هذا الصعود على العراق
أما على صعيد منطقتنا والعراق خصوصا، فقد أشرنا في كلمة سابقة إلى أن هناك محاولات لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل خصوصا. وها قد سقط النظام السوري بسرعة وأضعف حزب الله اللبناني، ودمرت غزة على نطاق واسع وتراجع النفوذ الإيراني كثيرا. وعدّ كثير من المراقبين أن الوجهة القادمة ستكون العراق، وذلك من خلال طلب الإدارة الأمريكية من العراق دمج الفصائل المسلحة في الجيش وقوى الأمن. وقد أعلن السيد رئيس مجلس الوزراء أن الحكومة سائرة على هذا النهج، لكن يبدو أن هذه العملية لم تحقق نجاحا يُذكر حتى هذه اللحظة. وهذا ما يشكل خطرا بأن يفرض الحل عسكريا من الخارج، مما ينتج عنه تداعيات تمس أمن بلدنا وشعبنا.
إن عقلية مؤسسات الدولة البعيدة عن نهج المحاصصة الطائفية - الإثنية يفترض هي التي تسود، وأن يترك خيار الحرب والسلم للدولة لا أن يقرره هذا الفصيل العسكري أو ذاك، بناءً على توجهات تخدم مصالح أطراف خارجية وتضحي بمصلحة الوطن والشعب. ولعل هذا الوضع الحرج يكون حافزا للشروع بتبني مشروع وطني جامع لبناء الدولة والذي غاب عن أهداف الكتل والقوى المتنفذة طيلة أكثر من عشرين سنة، لأنه لا يخدم مصالحها الفئوية الضيقة، قائم على مفهوم المواطنة لا على فكرة المكونات التي تمزق نسيج المجتمع، وتحوله إلى كانتونات تخدم المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأمراء ما يدعون تمثيل هذا المكون أو ذاك .