في هذا العام، 2024، تحل الذكرى السادسة والستون لاندلاع ثورة الرابع عشر من تموز 1958 والجدل الذي ثار، خصوصا في العقود الأخيرة، هنا وهناك، في اللقاءات العامة، كما في المجالس والأحاديث الخاصة ما زالت نيرانه مشتعلة ولم ولن تنطفئ. يتمحور هذا الجدل، أساساً، حول موضوعات عديدة من بينها موضوعتا العنف والثورة، التحالفات والقوى المحركة للثورة والقوى المضادة لها، طبيعة تركيبة القيادة العسكرية للثورة ودور الزعيم عبد الكريم قاسم في اندلاع الثورة وفي انتكاسها، التأثيرات الإقليمية والدولية والصراعات بين "الأقطاب الكبار"، وأخيراً وليس آخراً ما إذا كان الذي حدث في 14 تموز 1958 انقلاباً أم ثورة بل حتى وصل الامر الى التشكيك في اعتبار يوم اندلاعها يمثل العيد الوطني للعراق، بل تجرأ المتنفذون الى حذف يوم 14 تموز من قانون العطل الوطنية في محاولة لشطب ثورة الرابع عشر من تموز من الذاكرة الجمعية للعراقيين والعراقيات، فيما أضيفت أعياد جديدة، متناسين ان هذا اليوم المجيد كان بمثابة الفتيل الذي أطلق النهوض الثوري لملايين العراقيين والعراقيات، الذين كانوا متحفزين ينتظرون التغيير السياسي والتحول الاجتماعي العميق.
قانون العطلات الرسمية مثير للانقسام
ويمكن القول دون تردد إن مشروع قانون العطلات الرسمية لسنة 2023 الذي أحالته الحكومة اخيراً إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره مثير للانقسام اجتماعياً وسياسياً، ويتجاهل واحداً من أهم الأحداث في تاريخ الدولة العراقية الحديثة: يوم انبثاق وميلاد العراق الجمهوري في أعقاب ثورة 14 تموز عام 1958. ومما يثير الاستغراب أن يصدر مشروع العطلات الرسمية بهذه الصيغة من حكومة تؤكد أنها تسعى إلى إعلاء شأن الهوية الوطنية وتكريم رموزها والاحتفاء بالمناسبات الوطنية. فالإهمال المتعمد ليوم 14 تموز يعكس في واقع الأمر مساعيَ لطمس معالم الثورة ومحوَ ذكراها الراسخة في وجدان بنات وأبناء شعبنا، إذ ما زالت ملامح إنجازاتها الكبيرة شاخصة تشهد على أصالتها المعبرة عن إرادة ملايين العراقيين والعراقيات الذين استقبلوها بفرح غامر.
ثورة 14 تموز ليست حدثاً، بل ضرورة موضوعية
فلم تكن ثورة 14 تموز حدثاً عابراً، أو رد فعل انتقامي او إرادوي، بل جاءت كضرورة موضوعية، وحاجة أملتها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهيمنة أقلية حاكمة مستبدة ربطت العراق بالأحلاف العسكرية وانتهجت سياسة معادية ليس لشعبنا فقط، بل ولمصالح وشعوب المنطقة.
إنّ ما يثير الاستغراب أن لا تحتفي الحكومة الحالية بهذه الثورة الكبرى التي حررت البلاد من القيود الاستعمارية وأخرجت العراق من حلف بغداد، وصفّت القواعد العسكرية الأجنبية في الحبانية والشعيبة وحررت بلادنا من قيود الإسترليني، واستعادت السيادة والاستقلال الوطنيين. وهذه الثورة لا غيرها هي ما سن قانون رقم 80 لسنة 1961، محررة بذلك 99,5 في المائة من الأراضي العراقية التي كانت خاضعة للشركات الأجنبية النفطية الاحتكارية.
جوهر النزاع بين المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز
وبالمقابل، قبل فترة قصيرة فاجأت محكمة التمييز الاتحادية العراقية الأوساط الإعلامية والقانونية والسياسية والرأي العام عموما في بلادنا بقرار أبطلت فيه قراراً للمحكمة الاتحادية العليا واعتبرته أنه غيرُ نافذ ولا يرتب أثراً قانونياً.
ولا بد من الاشارة هنا الى ان النزاع بين المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز ليس نزاعا تقنيا صرفاً بل هو في جوهره نزاع سياسي ويتعلق بسعي قوى المحاصصة لاستخدام القضاء، للإطاحة بخصومها السياسيين او إخضاعهم. ولهذا يرى كثيرون ان هناك محاولات كثيرة من هذه القوى لتحويل القضاء في العراق الى جزء من الصراعات والصفقات السياسية.
ويبدو من التجربة المتراكمة ان الأزمة الحالية بين المحكمتين لن تقود إلى وضع الامور في نصابها التشريعي السليم. والسبب في ذلك ان الأزمات في عراق ما بعد 2003 لا تقنع المتنازعين بتبني الإصلاح المؤسساتي المطلوب، وإنما البحث عن تسويةٍ ما تنزع فتيل الأزمة الحالية فيما تترك اسبابها البنيوية دون علاج، لتظهر لاحقا في أزمة مستقبلية يُنزع فتيلها في حينه بالأسلوب ذاته. وهكذا تتناسل الازمات عبر سياسات الهروب الى الامام وتأبيد الواقع.
رغم كل محاولات طمسها، تبقى ثورة 14 تموز لحظة مضيئة في تاريخ العراق المعاصر
نعود الى ثورة تموز. ان حقيقة هذه الثورة لا سبيل الى تحديدها إلا عبر حركتها التاريخية العامة البالغة التعقيد بما حملته من تناقضات عاصفة وتضارب مصالح محلية وإقليمية ودولية وآفاق وآمال ومحاولات إفشال وتشويه مضمونها الاجتماعي - الطبقي. ولعل هذا هو مصدر السهولة، في محاولة تزييف حقيقتها ومهاجمتها من قبل خصوم هذا الحدث الكبير في تاريخ العراق المعاصر.
لقد كان الإيقاع السريع والعنيف للصراعات السياسية والطبقية المحتدمة خلال السنوات الأولى من عمر ثورة 14 تموز والأسئلة الجديدة التي طرحتها قد ألقت بثقلها على كل القوى السياسية محدثة صراعات فكرية وسياسية وجدلا صاخبا داخلها وفي ما بينها، حول أفق الثورة الوطنية الديمقراطية وإمكانيات الانتقال بها الى حدود جديدة تتجاوز الحل البرجوازي التقليدي.
وبالمقابل، كما هو الأمر بالنسبة لقانون الثورات الاجتماعية لم تواصل ثورة تموز صعودها، بل انتكست في لحظة حاسمة من لحظات تطورها لجملة أسباب، وذلك في الثامن من شباط المشؤوم عام 1963 الذي حدّد مسارا جديدا للصراع اتخذ طابعاً دموياً وحروباً داخلية وخارجية لا تنتهي توجت بانهيار النظام الدكتاتوري واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها.
ختاماً، لا بد من القول ان دروس ثورة 14 تموز 1958 غزيرة سواء في اندلاعها وتطورها وأيضا في انتكاسها. ومن بين كل دروس الثورة ثمة درس مهم هو ان هذه الثورة انتصرت لأنها اعتمدت على وحدة القوى الوطنية والديمقراطية التي ناهضت الحكم الملكي وناصرت الثورة وساهمت في نهوضها.. في حين كان من بين عوامل انتكاستها هو الصراعات التي نشبت بين هذه القوى حيث عجز العديد منها عن فهم طبيعة المرحلة التي دشنتها الثورة، وترتيب تناقضاتها ترتيبا خاطئا بتغليب الثانوي منها على الرئيسي، علماً ان النزعات الدكتاتورية لبعض قادة الثورة وعدم رهانهم على الجماهير الشعبية وتردداتهم كان من بين العوامل التي ادت الى انتكاسة الثورة وتتويج ذلك بالردة الفاشية في الثامن من شباط 1963، التي افتتحت عهدا جديدا للحروب العديدة، محلياً وإقليمياً.
ورغم كل ذلك، تبقى ثورة 14 تموز 1958 لحظة مضيئة في تاريخ العراق المعاصر لا يمكن تجاهلها، برغم محاولات طمسها من قبل خصومها القدامى و"المعاصرين" فالتاريخ لن يكون شاهدَ زورٍ أبداً.