
كان من المخطط له ان تخصص جل أبواب هذا العدد، 440، للاحتفال بالذكرى الــ 70 لصدور العدد الأول من (الثقافة الجديدة). ولكن، بسبب جسامة وهول ما يحدث في فلسطين عموما، وفي غزة على وجه الخصوص، منذ أسابيع؛ ارتأت هيئة تحرير (الثقافة الجديدة) ان تطلب من الدكتور (ماهر الشريف) ان يقدم لقراء المجلة عرضا تحليليا اوليا للأحداث، وقد استجاب مشكورا وزودنا بالمادة في أدناه. علما أننا تسلمنا المقالة يوم 7 تشرين الأول 2023. وبالتالي هي لا تتضمن العديد من الأحداث التي استجدت لاحقا.
في يوم الجمعة الموافق فيه 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أشارت هيئة الأمم المتحدة إلى أن الجيش الإسرائيلي، الذي يشن عدوانه الواسع على قطاع غزة، أبلغها مساء الخميس بأن ما يقرب من 1.1 مليون فلسطيني يقيمون في شمال قطاع غزة، سيتوجب عليهم التوجّه إلى جنوب القطاع خلال 24 ساعة. وفي تغريدة نُشرت باللغة العربية بعد بضع دقائق، دعا أفيخاي أدرعي، المقدم في الجيش الإسرائيلي، سكان قطاع غزة "إلى التوجه جنوب وادي غزة، وحثهم على الابتعاد من إرهابيي حماس الذين يستخدمونهم كدروع بشرية"، مضيفاً أنه "لن يُسمح لهم بالعودة إلى مدينة غزة إلا إذا صدر تصريح بذلك، ويمنع الاقتراب من منطقة السياج مع دولة إسرائيل"(1). وأثار هذا التصريح مخاوف من أن يكون الهدف الإسرائيلي إرغام قسم كبير من سكان غزة على التوجّه نحو الحدود المصرية وإحياء مشاريع توطينهم في صحراء سيناء، وخصوصاً في ضوء التصريحات التي أدلى بها نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، داني أيالون، لقناة الجزيرة، والتي ورد فيها: "توجد مساحات لا نهاية لها تقريباً في صحراء سيناء على الجانب الآخر من غزة ويمكنهم (الفلسطينيون) أن يتركوا (قطاع غزة) إلى تلك المساحات المفتوحة حيث سنعدّ نحن والمجتمع الدولي للبنية الأساسية ومدن الخيام وسنمدهم بالماء والغذاء" (2).
مشاريع التوطين في سيناء
ليس الامر جديدا ولا هو رد فعل انتقامي على ما قامت به حماس، انما له تاريخ طويل. فمنذ نكبة فلسطين، كانت الحركة الصهيونية، التي أرادت الأرض من دون شعبها، ترى في صحراء سيناء مساحة واسعة يمكن تهجير الفلسطينيين إليها وتوطينهم فيها. الحكومة المصرية، التي انبثقت عن ثورة 22 تموز/ يوليو 1952، لا تزال تبحث عن طريقها على صعيد السياسة الخارجية ومشدودة لقضاياها المحلية، عندما وافقت في سنة 1953، عقب شهور من المفاوضات التي أجرتها مع وكالة "الأونروا"، على مشروع يقضي بتوطين نحو 12 ألف أسرة من لاجئي قطاع غزة على أراض في شمال غرب صحراء سيناء بعد جعلها صالحة للزراعة، عبر إيصال نسبة من مياه نهر النيل سنوياً إليها، وخُصص لتنفيذ هذا المشروع، الذي حظي بدعم الإدارة الأميركية آنذاك، 30 مليون دولار. وقد انطلقت التحركات الشعبية في قطاع غزة ضد هذا المشروع منذ قيام الصحف المصرية بالتلميح إليه في أيار/ مايو سنة 1953، ثم اتخذت هذه التحركات أبعاداً جديدة عقب العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة في 28 شباط/ فبراير 1955، إذ انطلقت، في الأول من آذار/ مارس، تظاهرة حاشدة من مدرسة "فلسطين الرسمية" في مدينة غزة، بمشاركة معلمي المدرسة وطلابها وسائقي السيارات والباصات وأصحاب الدكاكين، الذين راحوا يهتفون: "لا توطين ولا إسكان/ يا عملاء الأمريكان"، "كتبوا مشروع سيناء بالحبر/ وسنمحو مشروع سيناء بالدم"، فواجهتهم قوات الشرطة المصرية بالرصاص الحي، وسقط أول شهيد وهو حسني بلال عامل النسيج في مدينة المجدل واللاجئ إلى مدينة غزة. لم يقتصر التظاهر على مدينة غزة، بل انتشرت التظاهرات في بقية مدن القطاع وقراه ومخيماته، بحيث امتدت من بيت حانون شمالاً وحتى رفح جنوباً، وتشكّلت من ممثلي الشيوعيين والإسلاميين والقوميين والمستقلين "اللجنة الوطنيَّة العليا" للإشراف على الحراك الشعبي وتأطيره، وجرى اختيار مندوبين عنها في كل مخيم من مخيمات القطاع، وتشكّلت لجان لحراسة التظاهرات، الأمر الذي أجبر السلطات المصرية على تفويض مدير المباحث في القطاع سعد حمزة بالتفاوض مع ممثلين اثنين عن "اللجنة الوطنية العليا"، كانا الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة الشاعر معين بسيسو وعضو قيادة جماعة الإخوان المسلمين فتحي البلعاوي؛ وإثر تلك المفاوضات، قررت السلطات المصرية إلغاء مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء، واتخذت قراراً بتدريب وتسليح الفلسطينيين في المخيمات(3).
بعد قيام إسرائيل باحتلال قطاع غزة، خلال عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967، طرح الوزير يغال آلون مشروعاً لنقل أعداد من اللاجئين من قطاع غزة إلى ثلاث مناطق في منطقة العريش المصرية، بتمويل إسرائيلي، على أن تبدأ المرحلة الأولى بـ 50 ألفاً منهم؛ بيد أن ذلك المشروع رفضته مصر رفضاً مطلقاً. فعاد قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، أريئيل شارون، الذي كان يشن، في سنة 1971، حملة دموية لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة وطرح مشروعاً لاقتلاع 12 ألف لاجئ من مخيمات القطاع ووضعهم في محطات لجوء أخرى في صحراء سيناء؛ لكن مصر رفضت بشدة هذا المشروع كذلك، و"أصبح رفض التوطين في سيناء جزءاً راسخاً من العقيدة الأمنية والسياسية للدولة المصرية"(4).
عشية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في خريف سنة 2012، برزت مخاوف من قيام إسرائيل بتنفيذ خطة "تهدف إلى ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء كوطن بديل"، و"تحويل الأزمة الفلسطينية نحو الجارة المصرية، في مواجهة تفاقم حالة الفشل الأمني في سيناء". وذكرت تقارير أن الخطة الإسرائيلية تقضي "بترحيل نحو 1.5 مليون فلسطيني من غزة إلى سيناء والعريش". وتعليقاً على تلك الخطة، قال رئيس مؤسسة تنمية سيناء محمد شوقي رشوان للصحافيين إن "مشروع سيناء كوطن بديل للفلسطينيين يمكن أن يتحقق إذا لم نمضِ قدماً في تنمية المنطقة". بينما صرّح عادل سليمان، مدير المركز الدولي للدراسات الاستشرافية والاستراتيجية"، بأن "مشروع الوطن البديل يشجعنا على مراجعة خطة التنمية طويلة المدى لسيناء واختيار خطة عاجلة تهدف إلى تطوير الطرق المؤدية إلى سيناء، وتسهيل انتقال سكانها إلى مناطق مصر الأخرى"(5).
مصر والموقف الدولي
تباينت مواقف المحللين الغربيين إزاء مشروع توطين قسم من سكان قطاع غزة في سيناء، عقب إعادة طرحه في هذه الأيام، إذ رأى بعضهم أن هناك أسباباً تشجع مصر على قبول هذا المشروع، الذي قد يعني "زيادة المساعدات العسكرية الأميركية والدعم الغربي إليها، والتمويل من وكالات الأمم المتحدة"، بينما قدّر آخرون أن الثمن الذي ستدفعه مصر، مقابل قبولها هذا المشروع، سيكون: "سمعة مصر في العالم العربي والإسلامي"، فضلاً عن "التحدي من الشارع المصري"، ناهيك عن أن مصر "دولة مكتظة بالسكان واقتصادها هش، وهي لا تريد، في الواقع، أن ترى كتلة جديدة من الفقراء تدخل أراضيها"(6). وإذ عبّر سكان قطاع غزة، على الرغم من معاناتهم الشديدة جراء العدوان الإسرائيلي المستمر، عن تخوفهم من أن تلحق بهم نكبة جديدة في حال نجاح ترحيلهم إلى سيناء، فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كان حازماً عندما دعاهم إلى البقاء على أراضيهم، وأعلن، يوم الخميس في 12 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أن سكان غزة يجب أن يظلوا "حاضرين في أراضيهم"، معرباً عن مخاوف مصر من سعي إسرائيل إلى "إفراغ غزة" من سكانها(7). وخلال استقباله المستشار الألماني أولاف شولتس في القاهرة، ألقى الرئيس المصري، يوم 18 الشهر الجاري، خطابه "الأكثر شمولاً وعنفاً" حول هذه القضية، إذ قدّر أن دفع الفلسطينيين إلى مغادرة أراضيهم هو "طريقة لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار"، وقال: "إن فكرة إجبار سكان غزة على الانتقال إلى مصر ستؤدي إلى تهجير مماثل للفلسطينيين من الضفة الغربية، الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وهذا سيجعل إقامة دولة فلسطين مستحيلا... ومن شأنه أن يجر مصر إلى حرب مع إسرائيل"، فضلاً عن أنه "من خلال نقل الفلسطينيين إلى سيناء، فإننا ننقل المقاومة والقتال إلى مصر، وإذا انطلقت هجمات من أراضيها، فعندها سيكون لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها (...) وستضرب الأراضي المصرية"، ليخلص إلى أن السلام الموقع بين إسرائيل ومصر سنة 1979 "سوف يذوب بين أيدينا"، وإلى أنه "إذا كانت الفكرة هي التهجير القسري، فهناك النقب...ويمكن لإسرائيل بعد ذلك إعادتهم (إلى غزة) إذا أرادت ذلك"(8). ومن جهته، حذر العاهل الأردني عبد الله الثاني، يوم الجمعة في 13 الشهر الجاري، من "أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من كافة الأراضي الفلسطينية أو التحريض على تهجيرهم"، مضيفاً أنه "يجب ألا تمتد الأزمة إلى الدول المجاورة وتؤدي إلى تفاقم قضية اللاجئين". وعاد وأعلن أن إجلاء سكان غزة: "هو أمر غير مقبول وسيدفع المنطقة نحو كارثة أخرى ودورة جديدة من العنف والدمار"، مؤكداً أنه "لن يكون هناك لاجئون في الأردن ولا لاجئون في مصر"، وأن من الضروري معالجة "الوضع الإنساني في غزة والضفة الغربية". كما حذر الرئيس الفلسطيني محمود عباس وزير الخارجية الأميركي، الذي التقاه في عمان، من أن تهجير وطرد المزيد من الفلسطينيين من غزة "سيكون بمثابة نكبة ثانية"(9).
خيارات ما بعد الحرب
بينما يستمر القصف الوحشي لقطاع غزة، الذي أودى (حتى كتابةً هذا التقرير) بحياة نحو 4200 فلسطيني وفلسطينية، بينهم عدد كبير من الأطفال، وتسبب في سقوط نحو 16000 جريح وتدمير ما يقرب من 5500 بناء، وبينما يستعد الجيش الإسرائيلي للانتقال إلى المرحلة الثانية من عدوانه، قد تشهد توغلاً برياً في شمال القطاع، صار سؤال: وماذا بعد؟ أي ما هي خيارات إسرائيل بعد وقف هذا العدوان، يشغل بال الكثير من المحللين الأجانب والإسرائيليين الذين يجمعون، تقريباً، على أن خيارات حكومة الحرب الإسرائيلية، ليست واضحة، وقد تكون سيئة أو سيئة جداً. وهنا لابد من العودة إلى الموقف الإسرائيلي السابق. فمنذ سيطرة حركة "حماس"، في حزيران/يونيو 2007، على قطاع غزة، ظلت حكومات إسرائيل المتعاقبة، راغبة في إدامة الانفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة والحؤول دون توفر قاعدة موضوعية لقيام دولة فلسطينية، ترى أن حركة "حماس" هي الخيار الأنسب لحكم القطاع، الذي صُنّف "كياناً معادياً"، وتمّ فرض حصار خانق عليه. وفي هذا السياق، وبعد نحو عشرة أشهر على العدوان الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة، في صيف سنة 2014 واستمر 51 يوماً، قال قائد المنطقة الجنوبية للجيش الإسرائيلي، الجنرال شلومو "سامي" ترجمان، في 12 أيار/مايو 2015، إن "حماس" تظل، عملياً، "الخيار الوحيد" لحكم قطاع غزة، وإن إسرائيل التزمت، بعد انسحابها من داخل القطاع سنة 2005، "استراتيجية الوقاية والردع فيما يتعلق بقطاع غزة"، داحضاً الادعاء الذي طرحه عدد من كبار الوزراء الإسرائيليين خلال الحرب، ومفاده أنه كان يتوجب على الجيش الإسرائيلي "الإطاحة بحماس وإعادة السيطرة على القطاع الساحلي"، ومقدّراً أنه "في الوقت الحالي لا يوجد بديل لحماس" وأن البديل الوحيد "هو الجيش الإسرائيلي أو الفوضى"، ذلك إن "معظم مواطني قطاع غزة ينظرون إلى حماس على أنها العنوان الوحيد لمشاكلهم"، وأضاف أن السلطة الفلسطينية، التي "تحكم الضفة الغربية، ليست بديلاً لحماس قابلاً للتطبيق في غزة، ولكن من دون أن يوضح السبب"(10).
ما هي فرص نجاح التوغل البري؟
بعد بدء عدوانها على قطاع غزة في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، اختلفت مقاربة حكومة الحرب في إسرائيل لمستقبل الحكم في قطاع غزة، إذ أعلن القادة الإسرائيليون أن حركة "حماس" سوف "تُمحى من على وجه الأرض"، وأن غزة "لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه"، وذهب بنيامين نتنياهو إلى حد القول: "إن كل عضو في حماس هو رجل ميت". وحالياً، يستعد الجيش الإسرائيلي للقيام بعملية توغل بري، أطلق عليها اسم "مناورة"، في شمال قطاع غزة، بمجرد انتهاء القوات الجوية من "تمهيد الأرض" من خلال القصف المكثف الذي تقوم به، وقام بنشر آلاف الجنود والمعدات العسكرية على حدود القطاع. وينطوي الهجوم البري على مخاطر كبيرة، إذ يرجح أن يكون مقاتلو حركة "حماس" قد استعدوا لمواجهة مثل هذا الهجوم، وقاموا بزرع العبوات الناسفة والتخطيط لنصب الكمائن، واستخدام شبكة الأنفاق لمهاجمة القوات الإسرائيلية. ولا يُستبعد أن يجري قتال من منزل إلى منزل في المناطق الحضرية، وهو ما سيؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا بين السكان المدنيين. ففي سنة 2014، تكبدت كتائب المشاة الإسرائيلية خسائر فادحة بسبب الألغام المضادة للدبابات والقناصين والكمائن، بينما قُتل مئات المدنيين الفلسطينيين في القتال في أحد الأحياء الشمالية لمدينة غزة. ويبدو أن احتمال حدوث مثل هذا الأمر، هو ما دفع حكومة الحرب في إسرائيل إلى المطالبة بإجلاء 1.1 مليون فلسطيني من النصف الشمالي من قطاع غزة. ومن ناحية أخرى، فإن وجود عدد كبير من الرهائن الإسرائيليين ومزدوجي الجنسية في أيدي حركة "حماس"، الموزعين على أماكن مجهولة في أنحاء القطاع، سيخلق مشكلة أمام الوحدات البرية الغازية، وخصوصاً أن العديد من الحكومات، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، لديها مصلحة في إطلاق سراحهم بأمان(11).
هل تقدم إسرائيل على إعادة احتلال قطاع غزة؟
تريد حكومة الحرب الحالية في إسرائيل إلحاق هزيمة حاسمة بحركة "حماس"، من دون أن يكون لديها بدائل واضحة لمستقبل هذا القطاع الذي يبلغ تعداد سكانه نحو 2,2 مليون نسمة. إن قيام إسرائيل بإعادة احتلال قطاع غزة بكامله هو أمر مستبعد، وخصوصاً بعد التحذير الذي أطلقه الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارته قبل أيام إلى إسرائيل واعتباره أن مثل هذا الخيار هو "فكرة سيئة". وبحسب جاكوب إريكسون، المتخصص في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في جامعة يورك الإنكليزية، فإن فكرة إعادة احتلال قطاع غزة "ربما تكون على جدول أعمال بعض العناصر الأكثر تطرفاً في الحكومة الحالية الذين يتصورون أن غزة جزء من أرض إسرائيل الكبرى بالمعنى التوراتي"، لكن الأصوات "الأكثر عقلانية في تل أبيب سوف ترغب في الخروج في أسرع وقت ممكن" من القطاع، كما يؤكد، من جهته، أهرون بريجمان، أستاذ العلوم السياسية والمتخصص في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في جامعة كينجز كوليدج في لندن، وخصوصاً أن الاحتلال الإسرائيلي لغزة "سيعني أنه سيتعين على إسرائيل إدارة كل شيء، بدءاً من تأمين حسن سير عمل المدارس والمستشفيات وحتى نظام الصرف الصحي؛ وبما أن سكان غزة لن يقبلوا أبداً مثل هذه الإدارة، فسرعان ما ستصبح الاشتباكات مع السكان المحليين أمراً لا مفر منه"، و"سيكون من الضروري توفير جنود لتأمين غزة وسيكلف ذلك ثروة"، ناهيك عن "التداعيات الدبلوماسية لإعادة احتلال غزة"، وعن "الضرر الذي سيلحق بعلاقات إسرائيل مع الدول العربية الأخرى، كما أن مثل هذا القرار سيتعارض مع الرغبة الأميركية في حل الدولتين"، كما يعتقد جاكوب إريكسون. بينما يخلص أهرون بريجمان إلى القول: "يحتاج الإسرائيليون إلى التفكير في اليوم التالي؛ ولكن في الوقت الحالي، يبدو أنهم غاضبون للغاية-وهذا أمر مفهوم-بحيث لا يمكنهم التفكير بعقلانية"(12).
خيارات كلها غير واضحة
يعدّد مراسل صحيفة "Les Echos" الباريسية في تل أبيب، باسكال برونيل، في مقال نشره في 19 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، الخيارات الأخرى المطروحة أمام إسرائيل، فيقدّر أن "من الممكن أن يتم نقل السيطرة على غزة مرة أخرى إلى السلطة الفلسطينية"-وهو خيار يتبناه زعيم المعارضة يائير لبيد-لكنه يعتقد أن هذه السلطة "ضعيفة للغاية" ولا "تحظى بشعبية"، وينبغي لها أيضاً أن تقبل بدخول الجيش الإسرائيلي إلى القطاع كي "ينفذ عمليات "مكافحة الإرهاب" كما يفعل بانتظام في مناطق الضفة الغربية التي من المفترض أن تكون تحت السيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينية". أما الخيار الآخر، في رأيه، فهو "نشر قوة سلام دولية تحت رعاية الأمم المتحدة"، لكن المسؤولين الإسرائيليين "مترددون للغاية" إزاء هذا الخيار، وهم "يؤكدون أن قوات الأمم المتحدة المنتشرة في جنوب لبنان لم تمنع حزب الله، حليف إيران والعدو الأول للدولة اليهودية، من التهديد المستمر لحدود إسرائيل الشمالية". ويخلص الصحافي نفسه إلى أنه ليس أمام إسرائيل، بالتالي، "أي سيناريو جدي"، مقدّراً أن الجيش الإسرائيلي سيبقى، في جميع الاحتمالات، بضعة أشهر في قطاع غزة "لإنهاء المهمة" من خلال القضاء فعلياً على أكبر عدد ممكن من المسؤولين التنفيذيين السياسيين والعسكريين في حماس وإغلاق جميع الوزارات والمؤسسات العامة الأخرى التي يسيطر عليها الإسلاميون" (13).
من ناحية أخرى، يقدّر بعض المحللين والخبراء العسكريين الإسرائيليين أن إسرائيل لن تكون "قادرة على تفكيك كل أعضاء حماس"، لكن "يمكنها إضعاف الحركة قدر الإمكان حتى لا تكون لديها قدرات تشغيلية"، وهو هدف "أكثر واقعية"، وخصوصاً أن إسرائيل "خاضت أربع حروب ضد حماس، وباءت كل المحاولات الرامية إلى وقف هجماتها الصاروخية بالفشل". وعن سؤال إلى متى تستطيع إسرائيل أن تستمر في حملتها العسكرية من دون تعرضها لضغوط دولية للانسحاب، يشير يوسي ميلمان، أحد أبرز الصحفيين الإسرائيليين المتخصصين في الصراع، إلى أن الحكومة والجيش الإسرائيليين "يعتقدان أنهما يحظيان بدعم المجتمع الدولي، على الأقل من القادة الغربيين"، لكنه يعتقد أن حلفاء إسرائيل سيتدخلون، عاجلاً أو آجلاً، "إذا رأوا صوراً لأشخاص يتضورون جوعاً"، كما أن "من الممكن أن يؤثر رد فعل جيران إسرائيل أيضاً على مدة الهجوم البري ونتيجته"؛ بينما يعتبر أوفير وينتر، من المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي، أنه "كلما زادت معاناة سكان غزة من الحملة العسكرية الإسرائيلية، كلما زاد الضغط الذي تتعرض له مصر لإعطاء الانطباع بأنها لم تدر ظهرها للفلسطينيين"، مقدّراً "أن تغيير الحكم (في غزة) يمكن أن يمهد الطريق لعودة تدريجية للسلطة الفلسطينية". وبينما يرى الرئيس السابق لجهاز الأمن "الشاباك"، يورام كوهين، أنه ستكون هناك حاجة إلى "منطقة عازلة بطول كيلومترين" لتحل محل المنطقة الحالية، وذلك بغية حماية المستوطنات في "غلاف غزة"، يتوقع ألون ليل، المدير العام السابق لوزارة الخارجية والسفير السابق لدى جنوب أفريقيا، أن تغيّر الحرب الحالية "الوضع في إسرائيل بالكامل، وأن تنهي الفترة التي تم فيها تجاهل الفلسطينيين من قبل إسرائيل والمجتمع الدولي"، مؤكداً أنه "في حالة هزيمة حماس، فإن المفاوضات حول حل الدولتين سوف تستأنف بعد الحرب الحالية"(14).
وكانت الصحافة الإسرائيلية قد خصصت مقالات عديدة تمحورت حول سؤال: وماذا بعد؟، نقلت بعضها إلى العربية نشرة الصحافة العبرية اليومية التي تصدرها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، من بينها مقال للمحلل عاموس غلعاد، نشره في صحيفة "معاريف"، في 17 الشهر الجاري، بعنوان: "مَن سيكون مسؤولاً بعد الحرب: مَن سيحكم قطاع غزة بعد تفكيك "حماس"؟"، رأى فيه أنه "لا خيار أمامنا سوى ضرب "حماس"، التي يجب ألا تكون موجودة"، وأن "لا شيء أهم هنا من إعادة النساء والأطفال والجنود والجنديات، وباختصار، جميع الرهائن"، مقدّراً أنه "فيما يتعلق باليوم التالي لِما بعد القضاء على "حماس"، سيحلّ فراغ محلها، ويوجد الكثير من البدائل، لكن يبدو أن المصريين لن يدخلوا إلى هناك، كما أن الجيش الإسرائيلي والقوات الدولية لن يتمكنا من الأمر، في حين أن دخول الفلسطينيين (في السلطة) مرتبط بتسوية سياسية، وهو أمر يتّسق مع توقيع معاهدة سلام مع السعودية، وخلق تحالُف استراتيجي بين الولايات المتحدة والسعودية، وهو ما سيوفر طاقة دافعة لأبو مازن لكي يتمكن من فرض سيادة ما هناك، لكن الأمر لن يتم من دون وجود أفق سياسي يضمن له القيام بذلك"(15).
أما المحلل ياغيل ليفي فدعا، في مقال نشره في صحيفة "هآرتس"، في 17 الشهر الجاري كذلك، إلى عدم الوقوع "في وهم إسقاط حماس"، ذلك إن قطاع غزة هو، في تقديره، "دولة بكل معنى الكلمة، حتى لو لم يتم الاعتراف بها، واستقلالها محدود؛ هذه الدولة تسيطر عليها حركة "حماس" منذ 15 عاماً، وتستند إلى بنية سياسية متطورة"، وإلى "ذراع عسكرية"، وهي "تعمل بصفتها قيادة الدولة بكل معنى الكلمة"، معتبراً أن محاولات "تغيير النظام من الخارج، كما حدث في العراق وأفغانستان وليبيا، فشلت فشلاً ذريعاً، حتى أنها ساهمت في حروب أهلية"؛ وأضاف من الصحيح أن إسرائيل، وبعكس الحالات السابقة، "لا تنوي بناء ديمقراطية في غزة، إنما فقط إيجاد نظام بديل يمتنع من مهاجمة إسرائيل، إلّا إن هذا لا يزال يُعتبر تغييراً للنظام، وسيفشل بغياب مركز قوة بديل؛ فحركة "فتح" هُزمت سياسياً في القطاع قبل 15 عاماً، ومحاولاتها ترميم مكانتها، عبر خطوات مصالحة مع "حماس"، أفشلتها إسرائيل"، ليخلص إلى "أن العبرة ليست فقط في التفكير في اليوم التالي، بل في وضع أهداف أكثر تواضعاً للعملية البرية منذ اليوم، والتي من المفضل الامتناع من القيام بها أصلاً"(16).
وفي اليوم نفسه، نشر المحلل ميخائيل ميلشتاين في صحيفة "يديعوت أحرونوت" مقالاً بعنوان: "مَن سيحكم غزة؟ هذه هي الخيارات، وكلها سيئة"، رأى فيه أن توجيه ضربة قاضية لحركة "حماس" يعني التالي: "تحييد جميع أطرها القيادية، وتصفية واسعة النطاق لكبار مسؤوليها، والتدمير المادي لمؤسساتها، ولا سيما مؤسساتها المدنية ("الدعوة") التي تشكل وسائل تواصُلها مع الجمهور، وحرمانها من مصادرها الاقتصادية، وتنفيذ الاعتقالات الجماعية لعشرات الآلاف من نشطائها"، مقدّراً أنه "بعكس ما جرى لتنظيم داعش الذي هزمه التحالف الدولي، فإن الحرب لن تكون قادرة على إنهاء فكرة "حماس"، المتجذرة عميقاً في الوعي الجمعي الفلسطيني". ثم انتقل إلى عرض البدائل المطروحة، فاعتبر أنها "قليلة وضعيفة، فبعض هذه البدائل سيئ، أما البعض الآخر، فهو أسوأ"، ذلك إن خيار إعادة احتلال القطاع، وفرض سيطرة إسرائيلية مستمرة عليه، "سيكبد إسرائيل ثمناً باهظاً، أمنياً واقتصادياً وسياسياً، قد يجعلها تغرق في نموذج محلي يشبه نموذجيْ العراق وأفغانستان"، أما خيار تقويض حُكم "حماس" والخروج السريع من القطاع، فهو قد يخلق "فراغاً سلطوياً يستقطب الفوضى وعناصر الجهاد من جميع أرجاء الشرق الأوسط والعالم، وهؤلاء سيحاولون تحويل غزة إلى باحة مواجهة مع إسرائيل". ولدى توقفه عند الخيارين الأقل سوءاً، قدّر أن خيار إعادة بسط سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع، يتطلب "تخلّي إسرائيل عن تصوُّرها السخيف الذي يفترض أن السلطة هي عدوّ أسوأ من "حماس"، لكن من غير الواضح أصلاً أن تكون السلطة، التي بالكاد تسيطر على الضفة الغربية، معنية بتولّي مهمة شديدة التعقيد إلى هذا الحد"، في حين أن معقولية البديل الآخر المتمثّل "في خلق منظومة حُكم سياسية تعتمد على جهات محلية في القطاع (رؤساء البلديات، والعشائر، والشخصيات العامة البارزة)، بمشاركة مسؤولي السلطة الفلسطينية، وبدعم خارجي واسع النطاق، وخصوصاً من الجانب المصري"، هي "غير واضحة، بعد سنوات طويلة على قيام "حماس" بقمع أيّ قوة جماهيرية أو سياسية شكلت تهديداً لها"، ليخلص المحلل نفسه إلى أن النقاش بشأن اليوم التالي لإسقاط "حماس"، بما يشمل التسوية والنظام الذي سيطبَّق على الحدود المصرية الغزّية، "يستوجب مناقشة معمقة، ومخططات منظمة، حتى قبل إجراء المناورة البرية والشروع في محاولة تقويض حُكم "حماس"(17).
وهكذا، تعكس مقالات المحللين والخبراء الإسرائيليين تخبط حكومة الحرب التي تعرف، كما يبدو، أن عليها في عدوانها الجاري أن تسقط أكبر عدد من الشهداء والجرحى بين صفوف سكان قطاع غزة، وتدمر أكبر قدر من الأبنية والبنى التحتية والمرافق في القطاع، لكنها لا تعرف ماذا تفعل في اليوم التالي لوقف هذا العدوان!
المصادر
(2) https://www.alhurra.com/egypt/2023/10/15/غزة-سيناء-جدل-توطين-فلسطينيين-مقابل-حوافز-يعود-للواجهة
(3) https://www.palquest.org/ar/highlight/21229/هبة-آذار-مارس-1955-في-قطاع-غزة
(4) https://www.youm7.com/story/2023/10/19/أرشيف-الدستور-الأردنى-يفضح-المخطط-القديم-لتهجير الفلسطينيين-قصة-مانشيت/6344303
(10) https://fr.timesofisrael.com/tsahal-ne-voit-pas-dalternative-au-regime-du-hamas-a-gaza3-
(11) https://www.bbc.com/afrique/articles/cg60nx394gwo;
(14) https://www.bbc.com/afrique/articles/cg60nx394gwo;
(16) https://mukhtaraat.palestine-studies.org/ar/node/32683
(17) https://mukhtaraat.palestine-studies.org/ar/node/32684