أيلول/سبتمبر 12
   
 
 يمثل الذكاء الاصطناعي بكل تقنياته وتطبيقاته الإجرائية مظهراً من مظاهر التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في العصر الحديث، ويجسد قدرة العلم في التحكم بالمجتمعات الحديثة وتفعيل دوره في كل حقول وميادين الحياة بكل أبعادها وتجلياتها، وقدرته الفاعلة ذات النسق التطبيقي في العلوم الصرفة وفي العلوم الإنسانية وفنون التعبير، وجعل النسق التقني ومعايير الدقة العلمية وسيلة من وسائل الخلق والاكتشاف وتقديم الخرائط والبرامجيات والخوارزميات لصياغة المعرفة والابتكار واستثمار قوانين العلم في رسم مسارات النظم المعرفية وهيمنة المنطق العلمي والسيطرة التكنولوجية في كل أشكال الإنتاج والإبداع والتأسيس والاكتشاف.
ويُعدُّ الذكاء الاصطناعي على وفق هذه المعطيات تحولاً من التحولات الكبرى والنوعية في تطور العقل العلمي وقدرته على الهيمنة وتوظيف قوانينه وجعلها معياراً مرجعياً ووسيلة من وسائل المعرفة الحديثة في الاستقراء والاستدلال واكتشاف القيم الفاعلة والدالة ويمثل الذكاء الاصطناعي علماً أو منهجاً تطبيقياً يوظف التقنيات والوسائل الحديثة في تحليل وإنتاج وتأسيس النظم المعرفية بالارتكاز على لغة ومعادلات ولوغارتمات النسق العلمي وعلى وفق هذا الفهم فانه منهج ومجموعة من المعارف والتقنيات والاستدلالات تمتلك القدرة على الاكتشاف وخلق المحتوى المعرفي ودلالاته وصياغة منظومات ومسارات تختزل الكثير من الجهد وتفعيل عناصر وقواعد مبتكرة تتجاوز سمات التفكير التقليدي وصولاً الى منظومة من الخلق والاكتشاف الذي يتناغم مع طبيعة الحياة المعاصرة ووتيرتها المتسارعة.
وشمولية وقدرة التفاعل والتأثير الذي تتسم به منطلقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي جعلت منه منهجاً ومرجعية معرفية والإبداع الإنساني والتوكيد على أن المنطق العلمي التجريبي وقوانين الحقائق العلمية باتت هي المتحكمة والقادرة على رسم واستشراف أي نشاط انساني وإعادة صياغته وفق النسق القائم على التحليل واستثمار كل الوسائل والمعطيات والاكتشافات التكنولوجية في تأسيس الفضاء المعرفي بوصفه خلاصة نوعية لتراكم الخبرات والممارسات العقلية وصنع وإقامة المجتمعات التي تتسم بالمعرفة العلمية المطلقة والتمركز حول نوع من العقلانية المنتجة وخلق قطيعة ابستمولوجية مع كل قواعد وتجليات النسق التقليدي في نظم التأسيس والخلق والاستقراء ما يسهم في وضع استراتيجية فاعلة تؤسس لمرحلة جديدة تنتمي الى منطق العلم والتكنولوجيا وقدرتها في إعادة صياغة الحياة ومسارات المعرفة، واختزال الدور البشري وأنماطه باتجاه نمطية آلية قائمة على السرعة والاختزال وفاعلية التوظيف وجعل الحقيقة أو القاعدة العلمية هي العنصر المرجعي المؤثر، وتقديم نسق خوارزمي وخرائطي لكل المعضلات والمشكلات القائمة وتحليل الظواهر والأبعاد وتوظيف معطيات العلوم في خلق النسق المعرفي الحديث والمتطور باستثمار قوانين الرياضيات والهندسة والفيزياء وكل الموروث العلمي لجعل الحياة انموذجاً لجدل الحقائق العلمية وعالماً قائماً على انساق ومعطيات وقوانين تجسد منطق القياس والاستدلال المطلق بعيداً عن كل المؤثرات والاستراتيجيات غير العلمية واختزال كل الأدوار وتجسيد كل الرؤى وجعل التفكير اللاعلمي يتحرك في مسارات التأطير الكلي ووصف الماهيات والظواهر بوصفها البعد الظاهري والشكلاني للحقيقة الإنسانية.
ولم يعد الذكاء الاصطناعي فاعلاً في ميادين العلم والتكنولوجيا فحسب بل هو علم ومنهج تكنولوجي إجرائي شمل كل مسارات وموضوعات وحقول الحياة المعاصرة وأسس المجتمع الوفرة العلمية والمطلق التكنولوجي "فهو علم حديث اكتسب أهمية بالغة في السنوات الأخيرة لتطبيقاته العديدة في مجالات حيوية كالدفاع والاستخبارات والحاسوب والترجمة الآلية وغيرها ويتميز الذكاء الاصطناعي بأنه علم تعددي يشارك فيه علماء الحاسب الآلي والرياضيات وعلم النفس وعلم اللغة والفلسفة(1). ووفق هذا فانه ينهج منهجاً موضوعاً صرفاً في التعامل مع الظواهر والعينات والموضوعات بعيداً عن نظم التفكير البشري التي تتسم أحياناً بالمعرفة النسبية والانبهار والتحيز بكل أشكاله. ذلك لأن التفكير البشري غالباً ما يؤطر الحقائق بكل أشكالها ومنها الحقائق العلمية باتجاه تأطير براغماتي ويجرها باتجاه الاستثمار الأيديولوجي أو الفهم الضيق المنتمي الى أنساق التفكير الأحادي.
لقد مثل الذكاء الاصطناعي على وفق هذه التوجهات ثورة معرفية ومرحلة لهيمنة العقل التكنولوجي وجعل الحياة والمجتمعات الإنسانية تقوم على الحقيقة والفاعل التقني في تأسيس النسق المعرفي بكل أبعاده وصوره وتجلياته.
ويمكن بطبيعة الحال أن يقدم الذكاء الاصطناعي الكثير من الرؤى والخوارزميات والحلول الاحداثية في مختلف العلوم وميادين المعرفة وبدأ يستثمر في علم الاجتماع وعلم النفس والفيزياء والفنون البصرية وعلم الساسة والتخطيط وعلم الجمال والعلوم العسكرية الجغرافية والطب ووفق هذه التوجهات فانه علم وتوجه بدأ يغزو كل مظاهر الحياة ونظم التفكير الإنساني وأصبح وسيلة لصنع مجتمعات ما بعد حداثية مجتمعات الوفرة المعرفية القائمة على الصيرورة التكنولوجية المتجسدة على الرغم من أنه يواجه بعض الإشكاليات وبعض الأسئلة وبعض الصعوبات ومازالت تجربته في مرحلة التأسيس والتجريب ضمن البداهة أن تبقى الصورة أو الرؤية غير مكتملة وغير منتجة انتاجاً مطلقاً.
ان الذكاء الاصطناعي يذكرنا بأسطورة إغريقية تسمى (سرير بروكست) وبروكست هو لص أو قاطع طريق كان يمسك بضحاياه أو من تطاله يده ويضعهم وفق مقياس وحجم سرير أعدّه لذلك وقد لجأ الى قطع الأيدي أو الأطراف لكي يتسع السرير لهم فكان يطبق مقياس ومساحة السرير على حجم وطبيعة أجسادهم. وهذا ما نجده في تطبيقات الذكاء الاصطناعي الذي يضع قوانينه وتقنياته على شكل فرضيات تطبق على العينات والظواهر وقد تنجح هذه الممارسة أو ينتج عنها بعض الأعراض أو النتائج وبذلك يصبح المنطق النسبي هو الحقيقة، أو الميكانزم المهيمن.
وقد وجدنا ضرورة هذا الاستهلال أو الفيض الاستدلالي لكي نصل الى السؤال المركزي والمهم:
- الى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتفاعل ويتناغم تناغماً منتجاً مع السرد الروائي..؟ وهل سيكون بديلاً للمخيلة البشرية في خلق الشخصيات والزمكانية (الكرونوتوب) والأحداث والحبكة والمفارقة والصراع والاستهلال والنهاية والتوتر والتشويق وحيوية الراوي وجمالية الاستطراد والخروج بالفكرة والمضمون والاشارة والإحالة الى الحياة وتعقيداتها ومشاكلها وأزماتها؟
.. وهل يمن للحاسوب أن يكون بديلاً عن الإنسان؟
.. وهل يمكن للخوارزميات واللوغاريتمات أن تعبر عن المشاعر الحيوية المتفوقة وهواجس الانسان الداخلية وصراعاته المتوقدة بينه وبين ذاته وبينه وبين الآخر؟
وهل يمكن للخريطة أو الأرقام والرموز أن تخلق لحظة من لحظات التجلي واستحضار طاقة التأمل والتوهج في ذاكرة وروح وعقل الانسان؟ وتصبح التقنيات والشفرات التكنولوجية بديلاً للسرد والوصف والاستطراد وتوظيف العاطفة والمشاعر وتقنيات استدعاء الذاكرة والارتداد او الاستشرافات الزمنية، وكيف يستطيع الحاسوب أن يقرأ الهواجس الوجدانية وصراعات الذات وأسرار النفس البشرية وبذلك تختفي أو الصيرورة الإنسانية باتجاه والصيرورة التكنولوجية والفرق بينهما كبير كالفرق بين الانسان الحقيقي والروبوت الاصطناعي.
"فالنمذجة الحاسوبية تتضمن استخدام الشبكات العصبية التكرارية تتبع تطور الشخصيات مع مرور الزمن ويتطلب هذا التكامل إعادة صياغة بعض المفاهيم النقدية والفنية مثل: الانزياح السردي بلغة رياضية قابلة للقياس الكمي..(2) . ووفقاّ لهذا المنحى فان كتابة رواية بطريقة الذكاء الاصطناعي ولغة الحاسوب والمنطق الرياضي تتطلق تغيير المفاهيم ودلالة العناصر والمكونات المؤسسة للسردية باتجاه مفاهيم وشفرات وفضاءات تحمل سمات التفكير التكنولوجي الصرف.
وهل تتمكن الخوارزميات التقنية أن تخلق عالماً روائياً يكون الإنسان بكل احساساته وتوقعاته وصراعاته وتحولاته متجسداً فيها ؟ وبذلك تتحول المشاعر والهواجس الى كميات ومعادلات وكيانات جامدة.
إنها أسئلة وتأملات واستبصارات للوقوف على الظاهرة ومشكلاتها وتداعياتها ومن أبرز المعضلات أو المشكلات الجوهرية ما يمثله توظيف اللغة وتحقيق مجازاتها واستعاراتها وتشبيهاتها وعدم قدرة الحاسوب على الاشتقاق أو تجسيد الترادف وانتقاء المفردة المتسقة مع السياق. فعملية الكتابة الحاسوبية تشبه عملية الترجمة وإيجاد المفردات القاموسية دون أي اهتمام أو رؤية اتساقية وتناغم مع السياق والنظام والتبئير.
فاللغة العربية تمتلك وفق الاشتقاق الصرفي ما يقارب (10,000) جذر لغوي بكمية انتاج آلاف الكلمات والصياغات من خلال الزيادات والتصرف ببناء الكلمات وتقليب جذرها اللغوي (3).
ونجد في السرد الروائي تعدد البيئات والكيفيات والأمزجة المرتبطة بتكوين الشخصية لكن المنطق الحاسوبي لا يستطيع التوغل الى هذه العوالم ونقل مساحاتها ودلالاتها الدقيقة، إذ انه لا يستطيع أن يخلق عالم الشخصية وأبعادها الفسيولوجية والسايكولوجية والوجودية بل يستطيع أن يصنعها ويقدمها كنموذج كياني مجرد عن هذه الأبعاد وإذا لم يتم استحضار الشخصية وأبعادها وأزماتها وعمقها الوجداني فان البنية السردية تتحول الى وصف عياني وتقرير انموذجي ووصف مجرد.
ومحورية الشخصية في السرد الروائي وجوهرها الدلالي يجعلها من المصطلحات أو المدلولات الغامضة والفضفاضة وصعبة التحديد وهي تملك بعداً دلالياً وظلالاً وأبعاداً متداخلة ومتعددة فكيف يستطيع الحاسوب ان يرصد هذا العالم العميق والمتنوع والمتدفق.
"ويرى فيليب هامون أن الشخصية (مورفيم فارغ) في الأصل سيمتلئ تدريجياً بالدلالة فكلما تقدمنا في قراءة النص. أما مدلول الشخصية فيتشكل من التعارضات والعلاقات التي تقيمها الشخصية داخل الملفوظ الروائي الواحد، ومعنى هذا من وجهة نظر بنيوية ألا نسعى دائماً الى المطابقة بين الشخصية ومدلولها، فهي وإن كانت متوافرة على مدلول بارز، لا نزاع فيه، إلا أنه من غير الطبيعي اختزالها الى مجرد مدلول، ومن هنا يدرس هامون الشخصية الروائية من حيث الدال والمدلول على حد سواء... وكما أشار الناقد سعيد بنكراد في مقدمة ترجمته لكتاب (سيميولوجيا الشخصية) لفيليب هامون: الى أنه استناداً الى اللسانيات تكون مقولة الشخصية مقولة سايكولوجية تحيل الى كائن حي يمكن التأكد من وجوده في الواقع (4).
فهل يمكن للنسق الخوارزمي وخرائط الحاسوب أن تعبر عن جوهر وكينونة الشخصية بوصفها الدال المركزي في السرد وترصد أبعادها وظلالها وأعماقها السجينة المندثرة؟
وهذا ملمح من ملامح الإشكالية بين السرد الروائي وتقنيات وقوانين الذكاء الاصطناعي وفرضياته التقنية المحض.
ووفقاً لهذا المفهوم تتجلى حقيقة أن تقنيات الحاسوب وخوارزميات التكنولوجيا التي يستخدمها ويوظفها الذكاء الاصطناعي لا تمتلك التماثل او التفاعل أو التوظيف مع كل العلوم وميادين المعرفة وتتجلى هذه الإشكالية بشكل جلي وواضح في التطبيقات أو التقنيات التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي في خلق النسق السردي.
وبتصورنا القائم على التحليل والمقارنة ودراسة انساق السرد. تبين أن هذه التقنيات والميكانيزمات التكنولوجية يمكنها أن تحقق نتائج عملية مبهرة في ميدان العلوم الصرفة كالطب والهندسة والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء وعلوم الفضاء وميادين الصناعة والنقل وثورة الاتصالات لكنها تجد عوائق وإشكاليات كثيرة في ميدان الأدب تحديداً مع الناقد الأدبي وقد تنجح وتحقق النتائج الإجرائية في علوم إنسانية أخرى مثل علم الاجتماع، وعلم النفس وغيرها.
وتتسع الفجوة الإشكالية بين النسق التكنولوجي والنسق الإنساني في خلق النصوص المرتبطة بالكينونة الإنسانية والجوهر الوجداني وتشابك العقل والعاطفة والمشاعر والهواجس في منظومة معقدة ومتداخلة يصعب على الوصف الاجرائي وتطبيقات التكنولوجيا من الإمساك بها، مثلما يستطيع الروائي أن يلتقط ويتمثل مثل هذه التدفقات والصور والإحالات والظواهر.
ولا يتوقف الأمر او طبيعة الإشكالية على خلق الشخصية والتعمق في تجسيدها بل يمتد هذا الأثر الى مكونات وعناصر وتقنيات وتجليات البنية السردية بأسرها.
فالذكاء الاصطناعي يرتكز على صنع وتقديم "الأنظمة الخبيرة على المستوى الاقتصادي والعلمي فهي تحفظ خبرة العلماء في شكل برامج متاحة بسهولة، كما يمكن تطويرها وتجديدها، وبالتالي لا تضيع خبرة ومعرفة الخبير البشري..(5). وبهذا تتمكن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من تقديم البرامج والخطط والخرائط الحاسوبية وتزويد الخبير أو العنصر البشري بهذه المعطيات والأرقام والرموز والمنظومة الاختزالية والاحصاء والمنطق الرياضي لاستثمارها في معالجة الظواهر وتكوين النتائج والاستشراف العلمي للعينات وهذا التوجه قد لا يتناغم بصورة مطلقة مع طبيعة الأدب وعوالمه ونسقه التعبيري.
ولعل إشكالية الذكاء الاصطناعي مع الأدب عموماً ومع السرد تحديداً تعكس الفجوة أو نقطة الافتراق بين الأدب والعلم وقد حاولت الكثير من الفلسفات والمناهج الحديثة على ردم هذه الهوة وتقليل حجم الفجوة أو المساحة الفارقة وفي النهاية ظلت الحدود بينهما قائمة ولا يمكن تحقيق نظرية التطابق او التماهي المطلق بينهما، وهي نتيجة أقرب الى المنطق الإنساني والعلمي نفسه فالحياة والوجود والانسان قائم على ثنائيات لا يمكن دمجها أو إدغامها بشكل مطلق أو مماثلة تامة، فقوانين الطبيعة والكون والحياة تقوم على مبدأ الثنائيات بكل صورها ودلالاتها ولا يمكن أن تتحقق هيمنة مطلقة قائمة على البُعد الأحادي.
ان هذا التنوع مظهر طبيعي وكوني وينعكس هذا المنطق على الكثير من الظواهر الحياتية والمعرفية ولا يمكن إدماج الأدب والعلم في بوتقة واحدة فلكل منهما عوالمه وطبيعته وخصائصه تمكنها من إقامة علاقة جدل أو تشاكل أو تماثل أو إفادة وتوظيف محدود لكنه لا يمكن التطابق والاندغام الكلي فتشكيل "الثنائيات الضدية جزءاً من الإيقاع الكوني والبشري (6) الذي صاغته الكثير من الفلسفات والمعتقدات والميثولوجيات والايديولوجيات وغيرها من مظاهر الفكر الإنساني التي تتماهى وتتماثل مع الكثير من تجليات الطبيعة والتناغم الكوني.
ونجد على سبيل المثال ما سعت اليه البنيوية من خلق صيرورة علمية وكشوفات تنتمي الى التجريب والنسق العلمي المحض وتحويل النص الى نسق أو عينة علمية أو ظاهرة معزولة لكن هذا التوجه قادها وأوقعها الى الغاء الصيرورة الإنسانية وإلغاء النسق السياقي مما جعلها تقع في الرؤية الأحادية والتعسف الإجرائي.
ولقد ثارت عليها الكثير من المنهجيات التي تلتها بل ان الكثير من البنيويين حاولوا تصحيح المسار وإلغاء الرؤية الأحادية وهيمنة النسق العلمي ومنطق العينات ومنهم لوسيان غولدمان الذي سعى لإعادة دور النسق السياقي والنظر الى التشكل الإنساني والاجتماعي في تقديم الرؤية المتكاملة وإلغاء فكرة هيمنة النسق وحده.
ولعلنا لا نجافي الصواب إذا قلنا: يبقى الإبداع رهين الجانبين أو الاتجاهين وهما النسق (صيرورة النص) والسياق (نسق الخارج والعامل المحيط) وهذا ما سعى إليه البنيوي غولدمان وقد استلهم أفكاره من أستاذه ذي المرجعية الماركسية جورج لوكاتش في تطوير نظرية الانعكاس وصياغة مصطلح أو منهج البنيوية التكوينية التي تؤكد.
"ان من يبقى رهين البنية اللغوية المنكفئة على ذاتها يبقى أسير عالم وهمي مخادع انه لوهم كبير أن نظن أن كل المعطيات التاريخية والفكرية والفنية تقع خارج النص، انها روح النص ومادته وقوامه(7) ، وهذا ما نجده أيضاً وفق المقارنة في تجارب الذكاء الاصطناعي في خلق سرديات منمطة تكنولوجيا وتعبيرية ترتكز على نظم الحاسوب والآلية والتي تفتقد الى روح التعبير عن الوجدان والكينونة الإنسانية ، انه اختزال الأدب وتحويله الى منطق علمي وخرائط ووصف مجرد من الأحاسيس والمشاعر والتدفق الإنساني، وتعلمنا التجربة الى صناعة نص وفق آليات وعمليات حاسوبية ورياضية لكنها لا تنتج نصاً سردياً قائماً على استلهام الانسان روحاً وعاطفة وتشكيلاً، انها تحوله الى عينة معزولة يجري رسمها وفق الوصف الرقمي المجرد وتلك هي الخطورة في هذا الاشتباك التعسفي بين حقلين متباعدين.
ولعل عمليات وتقنيات الذكاء الاصطناعي والهندسة الخوارزمية ستؤدي الى اختراع وابتكار نصوص بلا روح وبلا تدفق انساني وهي تذكرنا أو تحيلنا الى ثنائية (المطبوع والمصنوع) وهو ينتج نصوصاً أشبه بالشعر القائم على النظم ويخلو من التدفق الشعوري وتوهجات العاطفة التي تتصف بها المخيلة البشرية وسيقدم النظام التكنولوجي نصوصاً باهتة أشبه بخريطة قائمة على التقريرية العلمية والوصف أو التمثل المجرد وهي تنتمي الى كتابة كمية تعني بالكم والعينة ولا تهتم بالنوع والتجسيد الإنساني وبذلك فانها كتابة تسعى الى إماته الانسان في النص واختزال وجوده وتصبح غائية علمية بوسيلة أدبية. وهذا التمركز العلمي يحول الأدب الى لغة أخرى غير لغته وعالم آخر غير عالمه انه نوع من الاغتراب الداخلي ووفق هذا المنحى تتحول الكتابة السردية – التكنولوجية عبارة عن صناعة قائمة على أسس ومعادلات ومعايير وقوالب جامدة خالية من روح الانسان وصراعاته وعواطفه وأسرار كينونته الداخلية ومعزولة عن توجهاته وتوقه وأحلامه وتطلعاته وغياب الصورة الشعرية والمجاز وجماليات البلاغة في إقامة نسق جمالي جاذب وينطوي على متعة التلقي والاستقطاب التشويقي ووفرة الخيال الذي يُعد أهم عناصر البنية السردية والنسق الثقافي وهو يحيلنا الى مقولة مبتكر النسبية ومكتشف قوانين الفيزيائية الحديثة (البرت انشتاين) حين قال: ان الخيال أهم من المعرفة.
والكتابة بصيغة الذكاء الاصطناعي هي كتابة علمية عبارة عن معادلات ومعايير مطلقة يتمركز فيها النسق المعرفي + التكنولوجي على حساب الانساق الأخرى ويغيب فيها الخيال والعاطفة والتوق الإنساني والتدفق الشعوري فالأدب هو في حقيقته الترجمة والبوح الحقيقي لجزئيات النفس البشرية بكل عمقها وأسرارها وأسئلتها الوجودية الكبرى وليست مجرد إحصاء وصفي ومعادلات باردة لذلك فأن عنصر الخيال المحلق في الكتابة المبرمجة يفقد الانسان أهم خصائصه إذ يفقده التواصل مع الانسان نفسه وخصائصه الفسيولوجية والروحية والوجدانية وبهذا يصبح النسق السردي وصفاً كمياً لكائنات تشبه الروبوت وتبتعد عن الانسان ومعالمه وعوالمه وتجعله خارج المعادلة لأن الوصف العلمي والتجسيد التكنولوجي يرصد الكميات ويرصد الظواهر ولا يتعمق في الاستلهام وتجسيد العالم الداخلي للنفس البشرية بوصفها المحور المركزي لكل الآداب والفنون والصياغات التي تعتمد التعبيرية الإنسانية.
ان الكتابة وفق هذه الخصائص العقلية المحضة تجعل الروائي والأديب عموماً يفقد مهمته وبوحه وقدرته على تجسيد الانسان وصوره وأحلامه وانتكاساته وصعوده وكما يشير الناقد عبد الله الغذامي الى هذه الإشكالية بقوله: "الخطر الماثل الذي يثير مخاوف الانسان من الذكاء الاصطناعي هو فقدان الوظائف ولا شك أن الوظائف بمفهومها التقليدي ستحتفي ومعها ستنشأ تحديات كبرى، لكل من يظل يفكر بالصيغة القديمة لكسب الوظيفة (8) .
وبذلك يصبح الروائي مجرد مشغل للحاسوب ولا يحتاج الى الخبرة الحياتية أو الخيال أو العاطفة أو التأمل أو إثارة الأسئلة الوجودية الكبرى ولا يستطيع وصف لحظات الضعف أو القوة في مسارات وتحولات الانسان، ويصبح الانسان مجرد نموذج يتم استحصال البيانات حوله وبذلك يختفي التوهج الجمالي في النصوص السردية ويصبح الانسان والإنسانية خارج حسابات الحاسوب، وتلك هي خصائص الكتابة الحرجة أو الكتابة في درجة التداول الكمي والوصف العلمي الذي يمثل انموذجاً من نماذج النصوص المغلقة بحسب مفهوم (امبرتو ايكو) في ثنائية (النص المفتوح والنص المغلق) ويصبح النص بعيداً عن كل الأبعاد الداخلية والدلالات والاحالات التي تجعله منفتحاً على طاقة التأويل والايحاء.. وتصبح الكتابة بذلك خارج النسق ودائرة التأويل لأنها كتابة في الكم والعينات والمعادلات وتصبح مجرد تقارير تفتقد الى الرمزية والتأثير الشعوري وجعل المتلقي مشاركاً في انتاج المعنى وإنتاج الإشارة وجماليات التعالق العاطفي والوجداني وإنتاج الرؤى وجماليات الخيال التي تؤسس شعرية النص وتحليقاته التعبيرية، وتصبح الكتابة تشبه وصفة علمية محايدة وتقريرية لا تملك روحاً أو تجسيداً قلقاً أو تصور أزمة وتآرجحاً انها تقوم الحقائق والخرائط والشفرات والمعادلات التي تختلف عن صيغة وجماليات الحقيقة الأدبية وتحولاتها وخصائصها وقدرتها على انتاج القيم المتعالقة والمتداخلة، قيم العقل والروح النبوية بعيداً عن المطلق الكمي والتوصيف الاحصائي المجرد ويصبح الإبداع عبارة عن جداول وخطوط بيانية وخرائط باهتة ويصبح النص السردي (التكنولوجي) مجرد عملية تقوم بها الحواس بدل العقل الإنساني ولا يتطلب الأمر المعاناة والمكابدة والقلق والاحساس الطافح والوعي والقلق الوجودي.
       ولا تستطيع الكتابة الآلية والمكننة وبرامجية الحواسيب أن تنتج النسق التعبيري واللغوي الذي يكتبه الروائي وتبقى اللغة قاصرة عن التعبير عن مكنونات وتحولات وتجارب النفس البشرية وحركيتها الشعورية الداخلية فلغة الحاسوب لغة باردة تقريرية محايدة تهتم بالوصف الكمي التجريدي وتتحول الى شفرات وجداول تركز على النسق المعلوماتي ولا تستطيع التوغل والتجسيد للتوق الإنساني وتحليقاته وانكساراته وتمثلاته التي تعكس حركة الانسان ومشكلاته وأزماته وأسئلته وأحلامه وكوابيسه وتحولاته التي لا يمن وصفها وفق منطق أحادي.
ان الكتابة الآلية تجعل الكتابة تقترب من منطق صناعة السلع ويصبح مفهوم التسليع مهيمناً على هذا النوع من الكتابة التي تتحول وفق هذا التوصيف مجرد سلعة أو بضاعة تخضع لمقاييس علمية ومعايير كمية وبرامج ولوغاريتمات وبنية أحادية قائمة على الرصد المطلق والذكاء الاصطناعي يؤدي الى تسليع الكتابة وجعلها مصنعة لا تعكس خصائص او جوهر المنطق الفرداني بل تعكس خصائص النوع وفق هذه المعطيات الكمية مما يختفي التجريب أو البحث عن وسائل البحث عن الذات وعن الآخر، وتصبح الكتابة وصفة مشاعة لا تتطلب سوى ازرار وفضاء افتراضي وقوانين تكنولوجية بعيداً عن الحس الذاتي والقدرة على ابتكار عوالم جديدة من الخيال والعاطفة والتفكر والتأمل.
ان الضرورة الموضوعية تقتضي الإشارة الى القدرات التكنولوجية والنسق العلمي وخوارزميات الذكاء الاصطناعي التي يمكن توظيف معطياتها في النسق العقلي والنقدي فتصبح تلك المعطيات فاعلة ويمكن استثمارها في الدراسات النقدية فهي الأقرب الى العقل النقدي الذي يرتكز في الكثير من أنساقه وتوجيهاته على النسق الكمي والكشوفات أو الاستدلالات العلمية كجعل وجهة النظر والرؤية تقترب من روح العلم في الكشف والاكتشاف والاستنتاج والاحصاء ورصد العينات وتحليلها وفق المنطق العلمي التحليلي فالناقد والعقل المعرفي يمكنه الإفادة من معطيات ونتائج الذكاء الاصطناعي وفرضياته ومعادلاته وخرائطه لوجود المشترك العلمي والمعرفي مما يؤسس لرؤية نقدية علمية منتجة.
________________________________________
المصادر
  1. الذكاء الاصطناعي، واقعه ومستقبله، آلان بونيه، ترجمة: علي صبري فرغلي، علم المعرفة، الكويت – 1993: 27.
  2. الذكاء الاصطناعي وتحليل البنية السردية في الرواية العربية، مؤسسة العراقة للثقافة والتنمية (موقع الكتروني)، العدد 8، 16/2/2025.
  3. الذكاء الاصطناعي وتحليل البنية السردية:
  4. الشخصية في الرواية العراقية، فاضل ثامر، بغداد، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2024: 9.
  5. الذكاء الاصطناعي واقعه ومستقبله: 9.
  6. مجلة عالم الفكر، تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة والفنون، الكويت، العدد 1، 2019: 103.
  7. البنيوية التكوينية في النقد العربي الحديث، د.حيدر فاضل عباس، دار الجواهري للطباعة، 2015: 18.
  8. السردية الحرجة، العقلانية أم الشعوبية، عبد الله الغذامي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2023: 39.