
يقتضي التوسط استحضار معنيين متضادين ليتوسط بينهما، فهو "اسم لِمَا بين طرفي الشيء"، وقد وسمَ أرسطو الاعتدال بين الإفراط والتفريط، وضبط النفس بينهما بالمتوسط الذهبي، وجعله معيارًا تقاس به الفضائل، فالفضيلة تتوسط بين رذيلتين متضادتين، فالشجاعة فضيلة تتوسط الجبن والتهور [الأخلاق: 1/ 229]، التوسط عند الفلاسفة لا يجاوز معنى التوازن بين المبالغة والتقصير، وعلى ما في هذا الحال من مثالية إلَّا أنَّه نادر التحقق، يصعب ضبطه وتحديده ومع هذا احتفظ هذا الاعتدال بذهبيته، فبات قاعدة أخلاقية قارّة، قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) .[الإسراء: 29]
لكنَّ المُعطى اللساني ينفي قابلية التوسط في كلِّ الثنائيات المتضادة، فالتضاد عند اللسانيين إمَّا تضاد متدرج يضمن مسافة بين الضديدين تسمح بوجود أحوالٍ تتوسطهما، فلا يكون الساخن باردًا إلا بعد أن يمرَّ بمراحل من السخونة والبرودة يتوسطهما الاعتدال، ومثله (سهل/ صعب)، (جميل / قبيح)، أو تضاد حادٌّ لا يمنح مسافةً للتوسط كالتضاد بين: (حياة/ موت)، (متزوج/ أعزب)، (ذكر/ أنثى) وهذا الأخير نفى أرسطو التوسط فيه، فلا توسط بين (الحق/ الباطل)، و (الحقيقة/ الزيف)، بيد أنَّ الطبيعة الإنسانية لا تستسيغ هذه الطرفية الصارمة؛ لذا آثرت التمرد عليها بدءا من افلاطون، إذ قرَّر تصنيف الناس، وسلوكياتهم إلى: خير، وشر، وما ليس خيرًا ولا شرًّا [المحاورات الكاملة: 492]، حيث يكون الحياد وسطًا بين هذين الضديدين .
فأنتج الفكر الإنساني صورًا شتى لوسطية من هذا النوع، لعلَّ أهمها ما أوجده الفكر الديني من صور تتصل بالمسافة بين الحياة والموت، والجحيم والفردوس، بخلق فضاء متوسط يتموضع بين جملة متضادات، منها:
الحياة / الموت:
ينفي اللسانيون وجود مسافة بين الحياة والموت، يمكن لمتوسط لساني احتلالها، فهو تحرك بين وجوبين (من الضرورة إلى الامتناع ،أي من الوجود إلى العدم)، لكنَّ تشبث بني الإنسان بالأمل دفعهم إلى تصوّر حياة وسطية، حياة برزخية تتمفصل بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فالبرزخ (( حاجز بين الأجسام الكثيفة وعالم الأروح المجردة )) [التعريفات :35] فيكون الانتقال من وجود واجب إلى وجود محتمل، بعد أن كان الانتقال من الوجود إلى العدم عند غياب التوسط، فيمنّي الإنسان نفسه بحياة برزخية تتوسط بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة خشية الموت.
الفردوس / الجحيم:
يتسلل الرجاء بوجود فضاء محتمل إلى ثنائية (الجنة والنار)؛ إذ تعتقد معظم الأديان بالبعث والحساب، الذي يفضي إلى طريقين متضادين: إمَّا النعيم لِمن آمن وعمل صالحًا في الحياة الدنيا، وإمَّا الجحيم لمن كفر وحاز الذنوب والخطايا، وفي مفترق هذين السبيلين يستيقظ رجاء الاحتمال ثانية، حيث يتوسط بين النعيم والجحيم الأبديين عذاب مؤقت، تناله الأرواح الخاطئة لتتطهر من خطاياها لتأخذ طريقها إلى النعيم من بعد هذا التطهر، نجم عن هذا المحتمل صور لمتوسطات، منها:
- جبل الأعراف: نُقل عن ابن عباس أنَّ الأعراف (( تلٌّ بين الجنة والنار حُبس عليه ناس ... استوت حسناتهم وسيئاتهم )) ولا يدخلوا الجنة حتى يكفِّروا عن سيئاتهم.
- المَطْهَر في العقيدة الكاثوليكية، إذ يتوسط المطهر بين السماء والجحيم تتطهر فيه الأنفس قبل دخولها الجنة [لماذا نرفض المطهر: 10]، وصفه دانتي بقوله: (( سأتغنى بتلك المملكة الثانية، حيث تتطهر الروح الإنسانية وتصبح جديرة بالصعود إلى السماء )) [المطهر : 56]
يمثل المطهر والبرزخ بوصفهما حالة توسطٍ الأمل الذي يتعلق به الإنسان، وفرصة ثانية لدخول الفردوس في الاعتقاد بالمطهر، والأمل بحياة برزخية، لنفي الموت، فلا موت في ضوء هذا الأمل .
الكينونة الأخلاقية المائعة:
قَرَنَ هاملت وجوده بالحق، إذ قال: (أكون أو لا أكون) حين وجد نفسه بين خيارين لا ثالث يتوسطهما: إمَّا أن ينتصر للحق أو يهادن الباطل، فقرن كينونته باختيار الحق. تُعد الاختبارات الأخلاقية محكًا لا يخيب في كشف زيف الكثيرين، فلا خيار بين الحق والباطل، والوسطية هنا خطيئة كبرى، كتب دان براون مطلعًا لروايته الجحيم ما نصّه: ((الأماكن الأسخن في الجحيم محجوزة لأولئك الذين يظهر حيادهم أثناء الأزمات الأخلاقية)).
وبالرغم من هذا فقد وجد بنو البشر في التوسط حلًا سحريًا للنجاة من طرفية مُهلكة، إذ يحتال المرء على ذاته والآخرين باختلاق وسط متوَّهم عند انزلاقه في امتحان اخلاقي يضعه في الخيار بين الحق والباطل، أو الخير والشر، وسط آخذٌ بالاتساع إلى حدٍّ تكثر فيه الاحتمالات، ويغيب فيه الاعتدال الذهبي – على حدِّ تعبير أرسطو – كتب فان كوخ في رسالته الأخيرة لأخيه : ((عزيزي ثيو للرمادي احتمالات لا تنتهي))، فلا تضاد حادّ في أخلاق ما بعد الحداثة، إذ يتوسط الكذب الأبيض بين (الصدق/ الكذب) فينجي صاحبه من التزامات الصدق وتبعات الكذب، ويتموضع المتحول والمزدوج الجنس و...بين (الذكر/ والأنثى) فلا يخضع للقوانين الحاكمة لهما، وتكون المساكنة، والزواج المؤقت، و ...وسطًا بين (الزواج/ العزوبية) فتمنح صاحبها التحلل من أخلاقيات المتزوج وأخلاقيات الأعزب أيضًا.
الحبُّ الأبدي / الحبُّ العابر:
لطالما ذيَّل العُشاق رسائلهم بعبارة (المخلصُ إلى الأبد) إذ يقترن الحبُّ الحقيقي بالأبد، فلا يؤثر فيه الفراق أو المنع، واصطفى أرسطو الأبدية اختبارًا للحب الحقيقي، فالحب لانهائي، ومتى انتهى فهو ليس حبًّا، يقف وراء هذا النظر للحب هو القول بقدرية الحب على المرء، إذ لا يكون الوقوع فيه أو الخروج منه بإرادة بل هو قدر فُرض عليه من دون تعليل أو تسويغ مُقنِع، إنَّ الاشتراطات الصارمة للحب دفعت إلى البحث عن متوسط يشغل المسافة بين متطرفين (الحب واللاحب)، بعد أن كانت الوسطية منفية بينهما، فهو عاطفة لا تتغذى على الاتزان والتوسط، بل تنشد التطرف والافراط ، وليس ببعيد عن هذا قول نزار قباني: اختاري الحبَّ أو اللاحب
فجبنٌ أن لا تختاري
لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنارِ.
ولا تجد جزعًا من الوسط إن وُجِد كجزع محمود درويش منه، إذ قال:
((عندما لا تستطيع أن تقترب
ولا أن تبتعد، ولا تستطيع
أن تنسى، ولا تستطيع أن تتجاوز
فأهلاً بل في المنتصف المميت)).
أولى إمارات التوسط في الحب ظهرت في طرح إريك فروم في فرضية (الحبُّ فنٌّ) فنٌّ يستدعي المعرفة والاجتهاد، فلا يكون المرء، محبوبًا حتى يبلغ مبلغًا في هذا الفن. [فن الحب : 11] فهو صناعة تستلزم حرفية واجتهاد، ولكلِّ صناعة عمر مفترض أو تاريخ صلاحية ينتهي بنهايتها كسائر المصنوعات، لعلَّ بومان التقط هذا المعنى من فروم، إذ قال في كتابه الحبُّ السائل: إنَّ (( الاتساع المفاجئ والوفرة الواضحة في (تجارب الحب) ربَّما يعززان الاعتقاد بأنَّ الحبَّ ... مهارة يتعلَّمها المرء، وبأنَّ إتقانها يزيد كلَّما زادت التجارب والمواظبة على التدريب )). [المصدر : 39] يُدخل بومان الحبَّ دائرة السيولة في العلاقات الإنسانية المقترنة بالوقتية، فلا حبٌّ مستمر ولا صداقة دائمة. في المنتصف بين (الحب واللاحب) يتموضع الحبُّ السائل (العابر) متحللًا من اشتراطاتهما، إذ يقدّم الحبُّ اللذة شرط الأبدية والإخلاص، وغياب الحب يسقط اللذة والأبدية معًا، فيتوسط الحبُّ السائل بينهما متحللًا من شرط الإخلاص محتفظًا باللذة .
لا تُمسك العصا إلا من طرفها للدفاع كانت أم للهجوم، أمَّا حين تُمسك من المنتصف فلا تصلح إلا للرقص مع الراقصين على مسرح الحياة المائعة؛ لذا قيل: (مَن يمسك العصا من النص يرقص)!