أيلول/سبتمبر 12
   
 
      تجاوزا لكل ما كتب أو قيل عن حياة شاعرنا الكبير بدر شاكر عبد الجبار السياب وتقلباته الفكرية وعن الريادة وكثير من الموضوعات التي لم تعد هناك جدوى من إعادتها، لذا سأنتقل مباشرة إلى فضاءات الحب في شعره والتي تتضمن فضاءات الكره أيضا، ابتداء من حبه للمرأة حيث كانت له تجربة كبيرة في هذا الجانب بغض النظر عن عدم نجاحه في أي تجربة من تجاربه. لأنه لم يكن وسيما أو غنيا كما وصفه كثير من الكتاب والباحثين وكان عصبيا في تعامله(1). ووصفه الشاعر بلند الحيدري بأنه "انسان حساس لحد المرض، تثيره أبسط الأشياء وتقلقه أقل المظاهر إثارة"(2). هذه مقدمة مقتضبة جدا، للدخول في موضوعنا الأساسي ...
أولا: فضاء الحب الرومانسي.
      ضم ديوانه (أزهار وأساطير) تسعا وعشرين قصيدة، ست عشرة قصيدة من العمود الشعري المتعدد القوافي وثلاث عشرة قصيدة من الشعر الحر ويبدو أن السياب كان مؤمنا بأن الجديد يولد في رحم القديم ثم يتجاوزه... وهذا المنهج مكنه من تزعم التجديد الشعري ونجح فيه نجاحا جليا. وكل هذه القصائد قديمها وحديثها تناولت موضوعة الحب الرومانسي كثير من القصائد لم تذكر أسم أي امرأة منهن وذكر بعضهن فيما بعد.
     ونأخذ هذا المقطع الشعري مثالا يتساءل فيه عن شكوك يظن فيها أنها عرفت غيره قبل أن تلتقيه(3):
                   آهِ لو لم تعرفي، قبل التلاقي، من حبيب!
                  أيُّ ثغرٍ مسّ هاتيك الشَّفاها
                  ساكباً شكواهُ آهاً..  ثم آها؟
        ثم يستغرب من تساؤله هذا ويصفه بالجهل وكأنه سؤال لا معنى له(4):
                غير أني جاهل معنى سؤالي عن هواها؟
                أهو شيءٌ من هواها يا هواها؟
         وهذا التشكك في عواطفه والفشل الدائم في كل خطوة يخطوها باتجاه العلاقة مع فتاة أحلامه ليست طارئة، كانت سائدة في حياته، وبقيت حتى مماته وسائدة في أغلب قصائده لا تجد فيها (حياةً ويرددها ميتان)(5):
                      أساطيرُ من حشرجات الزمان
                      نشيج اليد البالية،
                     رواها ظلام من الهاوية
                     وغنّى بها ميتان.
تعبير عن غياب الجدوى فيما يكتب، وهي جزء من اليأس والتردد وضعف الشخصية، المتأتية من أكثر من سبب في أولها الفقر وفيما بعد المرض.  
" ثم أن مرارة فشله في الحب كانت ما تزال تملأ فمه وقد قال في "أساطير" عن هذا الفشل كل ما يمكن أن يقال، فلمن يكتبُ قصائدَ التأسي بعد ذلك، وبماذا تجديه؟"(6)
   ومع ذلك لم يترد ولم ييأس في البحث عن علاقات جديدة وعندما يجد ضالته تنتابه حالةٌ من الانبهار الذي يدفعه للغزل بكل شيء فيها بما فيه الضوء الصادر من رباط شعرها الذي يحسده فيقول(7):
                     أحسدُ الضوء الطروبا
                    مُوشكاً، مما يلاقي، أن يذوبا
                   في رباطٍ أوسع الشَّعرَ التثاما،
                   السماءُ البكرُ من ألوانه آناً وآنا،
                  لا يُنيلُ الطرفَ إلا أرجوانا.
                  ليتَ قلبي لمحة من ذلك الضوءِ السجين؛
                 أهو حبٌ كلُّ هذا؟! خبريني. 
       وهو في جانب الحب أيضا يعتقد أن "الأسطورةَ هي نقيضُ الواقعِ، هي الحبُّ والحياةٌ والحريةٌ والغنى. أما الواقع فهو الكرهُ والموتُ والاضطهادُ"(8) وهذه نظرةٌ سوداويةٌ إنماز بها السياب. مع العلم " كان بدر مدركاً لأسرار صناعته الشعرية، كما يدركها أكثر زملائه من المحدثين"(9).
" أعجب بوفيقة ابنة صالح السياب ابن عم جده وكانت صبية جميلة وقد خاب أمله بزواجها ونظم بذلك شعرا رثى به عاطفتَه وظلت هذه الصبيةُ تصحب خاطرَه طوال عمره، وقد فجع بموتها بعد نحو عشرِ سنين"(10) وكتب فيها أكثرَ من قصيدةٍ ومنهن قصيدةُ (على الشاطئ 1941) لكنني بحثت في ديوانه ولم أجدها. فأخذت من قصيدة (شباك وفيقة) هذا المقطع، ولاحظ كيف يُسّكن الحرف الأخير من الكلمة(11):
              شباكُ وفيقةَ في القرية
             نشوانُ يُطلّ على الساحة
                     ....
             شباك وفيقةَ يا شجرة
             تتنفّسُ في الغَبَش الصاحي
             الأعين عندك منتظرة
             تترقَّب زهرةَ تفاحِ،
            وبُوَيب نشيد
            والريح تُعيد
            أنغام الماء على السَّعَفِ
      والسياب أحب عددا من زميلاته من طرفه وهذه المعلومات تؤكد مدى غرابة سيرة السياب العاطفية وهي حالة مرض مستعصي وهي حالة شاذة جدا خاصة بعد أن تزوج ورزق بثلاثة أطفال (غيداء، غيلان وآلاء). ولكن ربما هذا السلوك متأتي من شعوره بعدم محبة زوجته إقبال له بل كانت تعطف عليه وقد أورد تلك المشاعر شعراً(12):  
           آهِ.. زوجتي، قَدَري. أكان الداء
           ليقعدني كأني ميّتٌ سكران لولاها؟
            وها أنا ... كلُّ من أحببتُ قبلك ما أحبّوني.
            وأنتِ؟ لعلّه الإشفاق!!
                           ......
            آهِ، هاتي الحُبَّ، روّيني    
            به، نامي على صدري، أنيميني ...
            أحبيني
            لأني كلُّ من أحببتُ قبلك لم يُحبّوني. 
       وقد " شعر بمودة خاصة لإحدى زميلاته في دار المعلمين العالية وتدعى (لبيبة) وكانت أكبر منه بنحو سبع سنوات واستمالته زميلةٌ أخرى كان يسميها الاقحوانة، وكانت تستعير منه دفتر شعره وتقرأه في سائر الزميلات"(13).  
" نظم مطولةً عنوانَها " ما بين الروح والجسد" عبر فيها عن تجاربه مع البغايا وقد افتقد المطولةَ فيما بعد إلا فلذات قليلة عثر عليها مؤخرا"(14).
عام 1945" شغف ... بإحدى زميلاته التي سماها " ذات الغمازتين" وقد نظم فيها شعرا، لكنها ما عتمت أن صدت عنه وتزوجت ثريا عراقيا. وقد أذكى ذلك في نفسه مشاعرَ الحقدِ الطبقي"(15).
وقبل عودته إلى البصرة في 8 أيلول 1962 وبينما كان يتعالج في المستشفى الأمريكي في لبنان حيث انتقل إلى عيادة طبيب ألماني ونزل في فندق سانبول وكانت في خدمته ممرضة جميلة تدعى ليلى، شغف بها وبثها شعره وحبه واحتفظ بخصلة من شعرها(16).
 
   وكتب عنها قصيدةً طويلةً بعضَ أبياتِها من الشعر العمودي وغالبية الأبيات الأخرى تنتمي إلى الشعر الحر(17):
   ليلى! هواي الذي راح الزمان به       وكــاد يفلـت من كـفـــي بالـداء
   حـنانهــــا كحنان الأم دثّرنـي          فأذهب الداءَ عن قلبي وأعضائي
 
ثانيا: فضاء حب الوطن.
      عرف السياب بحبه لوطنه ووقف مع معاناة شعبه وكتب الكثير من القصائد في هذا الصدد وربما زاد شوقُه وحبُه الذي لم يتوقف يوما عندما اضطر للعيش بعيدا عنه وفي هذا المجال جاءت قصيدته (لأني غريب)(18):
                 لأني غريب
                لأن العراقَ الحبيب
                بعيدٌ، وأنّي هنا في اشتياق
                إليه، إليها... أنادي: عراق
                فيرجع لي من ندائي نحيب
    وقد ورد في المقطع أعلاه عبارة " أشتاق إليه، إليها... أنادي: عراق" ولعله يقصد هنا جيكور، لأنني لم أجد في القصيدة ذكراً لفتاة ولأن قريتَه رمزٌ للعراق كلّه فلم ينساها يوما وبعد كلّ رحلاته خارج وطنه بحثا عن علاج لمرضه المزمن بينما يرى طراد الكبيسي أن "(العودة إلى جيكور) مثل عودة الأبن الضال.. ولكن إلى بيت أصابه الخراب فهو خرائب وأطلال.. أو عودة الولد إلى أمه، فإذا هي لا رحم يدفئ ولا ثدي يرضع.. أو عودة المرتد إلى ربه، ولكن بعد أن قامت القيامة"(19). بينما يراها السياب مقصده الأبدي الذي يرمم كل شيء ولهذا تعددت القصائد التي تناول فيها جيكور بشكل مباشر؛ ( مرثية جيكور، تموز جيكور، جيكور والمدينة، العودة لجيكور، أفياء لجيكور، جيكور شابت، جيكور وأشجار المدينة، جيكور أمي، وبعد عتابها وتذكيرها بالأيام الجميلة ينادي جيكور من القلب(20):
               جيكورُ لُمي عظامي، وانفضي كفني
               من طينه، واغسلي بالجدوَل الجاري
               قلبي الذي كان شبَّاكاً على النارِ.
               لولاكِ يا وطني،
               لولاكِ يا جنتي الخضراءِ، يا داري
               لك لم تَلقَ أوتاري
               ريحاً فتنقل آهاتي وأشعاري.
      وقد بات مقنعا وواقيا أن قريته جيكور هي العراق وحين يجمع بين حبهما يؤكد هذه الحقيقة مثل ما ورد في قصيدة (سفر أيوب)(21).  
                  أحِنُّ لريفِ جيكورِ
                  وأحلم بالعراق: وراء بابٍ سدّت الظلماء
                  باباً منه والبحر المزمجرُ قام كالسورِ
                 على دربي.
                 وفي قلبي 
     ولكن اللجوءَ إلى جيكور ليس حنينا للماضي الجميل وهذا موجود طبيعيا، لكنها كانت ملاذا آمنا لما لاقاه من أضرار في المدينة وبالتحديد بغداد العاصمة، التي تَمسّكَ بها وكانت رمزَه للوطن الأكبر، لكنه لم يتأقلم أبدا. ربما ما صبّره عليها هو مرضُه وبحثه الدائم عن العلاج الناجع الذي لم يجده أبدا.
     وفي قصيدة (وصيةٌ من محتضرٍ) يتجلى حبُه للعراق بهذا المقطعِ الشعريّ، تتجسدُ فيه مصداقيةَ المشاعرِ والانتماءِ المتجذرِ في أعماقِهِ للوطنِ(22).  
               إن متُّ يا وطني فقبرٌ في مقابرك الكئيبة
               أقصى مناي. وإن سلمتُ فإن كوخاً في الحقولِ
              هو ما أريد من الحياة.
                           ........
              يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمالِ
             بين المعابر والسهول وبين عالية الجبالِ
             أبناء شعبي في قراه وفي مدائنه الحبيبه...
            لا تكفروا نِعَمَ العراقِ ...
ويشجب خيانة الوطن في قصيدة (غريب على الخليج) ويؤكد حبه المطلق له، أثناء غربته في الكويت عام 1953، مستذكرا كل تفاصيل حياته في العراق بحلوها ومرها دون أن يفكر بأرضه رافضا بشكل مطلق أي بديل لتلك البقعة من الأرض التي ولد عليها وسوف يدفن فيها ولنقرأ هذا النص ومن خلاله نرى مقارنة بين من يخون العراق وبين من يحبُهُ بصدق(23).
            إني لأعجبُ كيفَ يمكنُ أن يخونَ الخائنون!
            أيخونُ إنسانٌ بلادَه؟
            إن خانَ معنى أن يكونَ، فكيف ممكنٌ أن يكونَ؟
            الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
            -حتى الظلام – هناك أجملُ، فهو يحتضن العراق.
 
ثالثا: فضاء حب السياسة:
        بدايات بدر شاكر السياب منذ طفولته وصباه " كانت عربية إسلامية متأثرة باتجاه مجلة (الرسالة) آنذاك"(24).
        وبعدها اتجه إلى الشعر الرومانسي، ثم تجاوزه منتقلا إلى الشعر الواقعي ويذكر سامي مهدي أن انتقاله إلى الواقعية عند صدور ديوان أساطير 1950 وأتفق معه بأن تاريخَ ارتدادِه مختلفٌ عليه بين الباحثين(25)، وهذا الانتقالُ ليس بعيداً عن انتمائه الفكري والسياسي، وهو ما دفعه لدراسةِ الواقعيةِ وشعرائِها (لوي أراكون، بول ايلوار، وغارسيا لوركا، ونيرودا، وناظم حكمت)(26) ولم يكن هذا بعيداً عن قناعاتِه الجديدةِ اليساريةِ وثقافتِه العامةِ المتشعبةِ بعد أن كان مشدوداً لشعراء أخذَ منهم كثيراً أمثال: أدث ستويل، ت. س. اليوت، وشلي وكيتس(27) وهذا الانتماء الجديد وبسبب نشاطاته السياسية، ومنها مشاركته في مظاهرات 1948 تأييدا للشعب الفلسطيني، وانتفاضة تشرين 1952، ووقوفه ضد سياسة عبد الكريم قاسم مما جعله يتعرض لكثير من المضايقات فقد فصل من وظيفته أكثر من مرة، وزج في الحبس، وهرب إلى إيران والكويت...
      ووجدت في ديوانه الأول (أزهار وأساطير) الذي تصدر المجموعة الكاملة لديوان بدر شاكر السياب الصادر عن دار العودة - بيروت والذي طبع عام 1971 وكانت كلُّ قصائدِه عموديةً وحرةً كتبت فيما بين 1946-1948 ماعدا قصيدة واحدة عنوانها (ديوان شعر) كتبت عام 1944 وكلُّ قصائدِ الديوانِ غزليةٌ رومانسيةٌ وتفردت قصيدةٌ واحدةٌ هي (في ليالي الخريف) حيث أنتقل في نهايتها إلى موضوعِ سياسيّ متطرقاً إلى حالةٍ ومفرداتٍ لا تقالُ إلا في السياسةِ(28):
          "سوف أمضي.. وما زال تحت السماء
           مستبدون يستنزفون الدماء،
           سوف أمضي وتبقى عيون الطغاة
           تستمد البريق
           من جُذى كل بيت حريق
           والتماع الحراب
           في الصحارى، ومن أعين الجائعين،
          سوف أمضي.. وتَبقي فيا للعذاب!" 
  
رابعا: فضاء حب العائلة:
      لم ينشأ السياب في عائلة طبيعية مستقرة فقد ماتت أمه وهو طفل صغير فخسر حبّها وحنانَها، ولم يحظَ بعلاقةٍ أبويةٍ طيبةٍ وقد ذكر ذلك في بيتٍ شعريّ(29):
              أبي منه جردتني النساءُ       وأمي طواها الردى المعجلُ 
  ورغم سرعة الفراق خاطب والدتَه بعد رحيلِها مؤكداً وجودَها في ذاكرتِه، متسائلاً عن سماعِها لصرخاتِ قلبِه تعبيراً عن حبه للعراق(30):
       أماه ليتك ترجعين
       شبحا. وكيف أخافُ منه وما أمحت رغم السنين
      قسمات وجهِك من خيالي؟
      أين أنتِ؟ أتسمعينَ
      صَرخاتِ قلبي وهو يذبحه الحنينُ إلى العراقِ؟
            ويذكر أمّه في قصيدة (نسيم من القبر) لكي يعبر عن معاناة ابنتيه وابنه وكذلك ما تعانيه العائلة في تلك الأيام الصعبة(31).
            أما حَملت إليكِ الريحُ عَبرَ سكينة الليلِ
            بكاءَ حفيدتيكِ من الطوى وحفيدك الجوعان،
            لقد جعنا وفي صمتٍ حملنا الجوع والحرمان.
         وقبل وفاته بمدة قصيرة كتب قصيدة (ليلة انتظار) ذكر فيها طفلتيه(32):
           خفوقٌ فوق وجهي، كفُّ طفلتي الصغيرةِ، كفُّ آلاءِ!
          وهمسٌ حول جُرحي: كفُّ طفلتي الكبيرةِ، كفُّ غيداءِ 
        وخياره للزواج من إقبال لم يكن زواج حب وقناعة إنما هو سد لفراغ امتد طويلا بعد محاولات كثيرة مع أخريات لم تتحقق واحدةٌ حسبَ قناعتِه أو نتيجة حب، بل جاء بعد فشل كل المحاولات الجادة. ولكنه بعد الزواج والعشرة كتب أجمل القصائد بحقها ومنها قصيدة (اقبال والليل)(33).
           يا أمَّ غيلان الحبيبة صوّبي في الليل نظره
           نحو الخليج. تصوّريني أقطع الظلماء وحدي
           لولاكِ ما رمتُ الحياةَ ولا حننت إلى الديار
           حبّبتِ لي سٌدَف الحياة مسحتها بسنا النهار
     " عقد بدر زواجَه في 1 حزيران 1955 على اقبال بنت (طه عبد الجليل)، وهي معلمة من قريته تحمل شهادة التدريس الابتدائية"(34) أنجبت غيداء في 24 كانون الأول 1956، وفي 23 تشرين الثاني 1957 وضعت صبيا سمي غيلان، فرح به والده فرحا عظيما وفي 7 تموز 1961 وضعت زوجته طفلة سميت آلاء(35). وكان مولعا بهم وكتب عنهم قصائد منها قصيدة (مرحى غيلان)(36):
            "غيلان ُ يصعد فيه نحوي، من تراب أبي وجدي
            ويداه تلتمسان، ثَمَّ، يدي وتحتضان خدّي
            فأرى ابتدائي في انتهائي.
           " بابا... بابا... "
          جيكور من شفتيكَ تولَد، من دمائِكَ، في دمائي
          فتُحيل أعمدةَ المدينه
          أشجارَ توت في الربيع. ومن شوارعها الحزينه"
   وعلى هذا النمط كان مضمون القصيدة الذي جمع بين حبه لولده غيلان وربط بينه وبين حبه لوطنه من الصور الشعرية الجميلة التي وصف فيها جيكور محملا إياها رمزية
العراق منطلقا من مسقط رأسه.
    وفي قصيدة (رسالة) جاءت من زوجته (اقبال) ورد في نهايتها مقطع خاص بابنته (آلاء)(37):
           ويا حديثكِ عن "آلاء" يلذعُها
           بعدي فتسأل عن بابا "أما طابا"
          أكاد أسمعها
          رغم الخليج المدوّي تحت رغوتهِ
          أكاد ألثم خدّها وأجمعُها
         في ساعديَّ ...
                كأني أقرع البابا
         فتفتحين...
      كتب هذه القصيدة في الكويت في 3/8/1964 بعد أن أخذ المرض منه مأخذا كبيرا ودخل في تشعباته المتعددة، وقبل وفاته بأربعة أشهر وواحدٍ وعشرين يوما. ومع ذلك عبر بدقة عن مشاعره اتجاه آخر العنقود طفلته (آلاء).
    والغريب أن السياب كتب قصيدة تحت عنوان (الوصية) أرسلها من بيروت، خاطب فيها زوجته إقبال من سرير مرضه ولم يذكر في وصيته سوى غيلان ناسيا أن لديه غيداء البكر وآلاء آخر العنقود التي لم تتجاوز سنتها الأولى عندما أرسل وصيته(38):
           إقبالُ يا زوجتي الحبيبة
           لا تعذليني ما المنايا بيدي
           ولستُ، لو نجوتُ، بالمخلّدِ
           كوني لغيلان رضىً وطيبه
           كوني له أباً وأماً وارحمي نحيبه
    ويرد اسم غيلان في قصائد كثيرة مثل قصيدة (سفر أيوب) ويذكره في قصيدة أخرى بعنوان (أسمعه يبكي) وفيها اعتذار لعدم رعايته رعاية يطلبها أبنٌ من أبيه(39):
          أسمعُهُ يبكي، يناديني
          في ليليَ المستوحد القارس،
          يدعو: " أبي كيف تخلّيني
         وحدي بلا حارس".
        غيلان، لم أهجركَ عن قصد...
        الداء، يا غيلان، أقصاني. 
 
خامسا: فضاء حب المطر:
          هناك من وجد في حب المطر عند السياب، تعبيراً عن تراكم الصعوبات والنائبات على الفرد في الحياة، وخاصة الفقراء والتكرار في هذه الكلمة تعبير عن عدم التوقف واستمرارية المأساة، والسياب دائما يجمع بين الجانب السلبي للمطر وجانبه الإيجابي(40):
            أكاد أسمع النخيل يشرب المطر
             وأسمع القرى تئن والمهاجرين
             يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع عواصف الخليج والرعود منشدين:
             مطر ...
             مطر...
             مطر...
             وفي العراق جوع.
    ولا أدري ماذا يقصد السياب بكلمة منشدين هل تعني أنهم فرحون بالمطر أم أنهم مستاؤون وأظن أن الكلمة الأخيرة تعبر عن حالتهم المأساوية. وربما أفضل تفسير للمطر طرحه السياب(41):
             أتعلمين أيَّ حُزن يبعث المطر؟
             وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
             وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟
            بلا انتهاء – كالدَّم المراق، كالجياع،
            كالحب، كالأطفال، كالموتى- هو المطر!
وقد جمع السياب في الشطر الأخير المتناقضات تفسيرا لمعنى المطر. ولكنه في جانب آخر يرى أن الفرحة تملأ العراقيين بهطول المطر(42):
            كأنَّ جميعَ قلوبِ العراق
            تنادي، تريد انهمارَ المطر.
 وما يؤكد أن السياب كان محبا للمطر ولذا وظفه في عدد كبير من القصائد ولكن ليس بمعنى واحد وإنما حسب ما يريده من معنى وحسب الحبكة الشعرية وما تطلبه القصيدة أو بعض مقاطها ومن استعمالاته الإيجابية ما ورد في القسم الرابع من قصيدة (مدينة السندباد)(43):
           يا أيها الربيعُ ما الذي دهاك؟
          جئتَ بلا مطر
          جئتَ بلا زَهَر،
          جئتَ بلا ثَمر،
         وكان منتهاكَ مثل مبتداكَ
         يلفّه النجيع...
     من خلال هذه النماذج المنتخبة والتي عكست أهمية المطر عند السياب وكيفية توظيفها سلبا وإيجابا لخدمة الجانب الفكري والسياسي والاجتماعي للقصيدة وقد وفرت القناعة الكاملة للمتلقي بنجاحه في معالجة كثير من الظواهر السلبية والخلل في عدم استثماره لحل المشكلات.
   الهوامش 
  1. أنظر جلال الخياط، الشعر العراقي الحديث، مرحلة وتطور، دار صادر بيروت، 1970: ص 170
  2.  جلال الخياط م. ن: ص 170
  3.  ديوان بدر شاكر السياب دار العودة – بيروت، 1971: ص 102
  4.  ديوان بدر: م. ن: ص 102
  5.  ديوان بدر شاكر م. ن: ص 33
  6.  سامي مهدي، وعي التجديد والريادة الشعرية في العراق، الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية، وزارة الثقافة والإعلام: ص 150- 151.
  7.  ديوان بدر شاكر السياب م. ن: ص 102- 103
  8.  ناجي علوش، ديوان بدر شاكر السياب، المقدمة، دار العودة- بيروت، 1971: ص 555.  
  9. ناجي علوش، م. ن: ص ط ط ط.
  10. إليَّا الحاوي، الشعر العربي المعاصر، بدر شاكر السياب، دار الكتاب اللبناني – بيروت، ط3، 1983
  11. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن : ص 117ـ 118.
  12.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 642
  13.  إليَّا الحاوي، م. ن: ص 6-7
  14.  إليَّا الحاوي، م.ن: ص 7
  15.  إليَّا الحاوي، م. ن: ص 7
  16.  انظر إليَّا الحاوي م. ن: ص 10
  17.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص721
  18.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 195
  19.  طراد الكبيسي، كتاب المَنزِلات، الجزء الثالث، منزلة القراءة، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام العامة، بغداد 1997: ص 99
  20.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 189- 190
  21. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 269
  22. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 282
  23. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 320
  24. عبد الجبار عباس، السياب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام. ص 104. نقلا عن خالد الشواف: مجلة الكلمة. كانون الثاني 1968.
  25.  أنظر سامي مهدي، م. ن: ص 150
  26. أنظر سامي مهدي، م. ن: ص 155
  27. أنظر عبد الرضا علي، الأسطورة في شعر السياب، دار الرائد العربي، بيروت- لبنان،ط1وط2 -1978-1984ص 72
  28.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 68- 69
  29. أنظر عبد الجبار عباس م. ن : ص 16
  30. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 616- 617
  31. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 674
  32. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 710
  33. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 718
  34.  أنظر إليَّا الحاوي، م. ن: ص 9
  35.  انظر إليَّا الحاوي، م. ن: ص10
  36.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 326.
  37.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 709
  38.  ديوان بدر شاكر السياب، م. ن:ص 221-222 .
  39. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص287
  40. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن:ص 478 .
  41. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 476
  42. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص613
  43. ديوان بدر شاكر السياب، م. ن: ص 468