أيلول/سبتمبر 12
   
 
يدب الرعب مدني الحبيبات/ ويسري الويل في طرق وحاراتي
         
 
يتجسد في قصائد مجموعة (رائي العراق) للشاعر على شبيب ورد البحث عن معنى الحياة وقيمتها الروحية وما لها من مساحة وجودية كبرى، والوقوف في المسار المشاكس لجشع وبربرية النزعات المادية السائدة في استلاب وتهديد انسانية الإنسان. ففي فضاء الخطاب الشعري لهذه النصوص لم يُختزل معنى الحياة في الركون إلى اللذة والنفعية بل يظهر جليا من خلال التوتر الجدلي بين الروح والواقع وبين النزعة الحيوانية في الإنسان ونزعته العقلية الأخلاقية على حد تعبير (رودولف كريستوف اويكن). في قصيدة (لهاث الفصول) يقول:
"منفيون في نفوسنا
من هول ماحولنا،
عيوننا ترى جنة هاربة
من نيران امطارهم الجافة"
ويشفعه بمقطع اخر من القصيدة ذاتها يقول:
"نحن سفن بلا بحار
واشعار بلا جدوى،
اشرعتنا نسجتها العناكب
نبحر بلا بوصلات،
نهاراتنا ليال، وليالينا مرعبة،
أسرار مهولة حياتنا،
لا تطيقها أبداننا الآيلة للضمور"
... أضف إلى ذلك، تنشد قصائد هذه المجموعة في بنيتها الظاهراتية وامتداداتها الدلالية والإشارية وانساقها الثقافية المضمرة، والعمل التشاركي بين الكفاءة اللغوية والتواصلية أعلى تحقق عبر الالتزام بالقيم العليا كالحقيقة والحرية والمحبة والتفاني من أجل حياة حافلة بالجمال والعدالة لوطن مزقته الحروب والأزمات بشتى اساليبها وتداعياتها، وما سينتج عنها من مرارات الحياة وشظف العيش، واغتراب روحي ونفسي وجسدي ليتجاوز الكائن الإنساني ذاته الطبيعية، ويستخلص للإنسان في مشاركته الحرة الفاعلة بأن يصبح مشروعا أخلاقيا وروحيا عند سعيه لاكتساب القيّم و تفعيلها.
...فعلى وجه العموم، تمثل قصائد المجموعة الشعرية (رائي العراق) صرخة مدوية في أفق وطني مأزوم، يشهد تناقضات فجة بين الحياة الذاتية والحياة الموضوعية وتراجعات بتجريد عمل الإنسان من روحه، فتعطي شعورا بالعزلة كما تتجلى فيها ثيمة رؤية للحياة في كليتها ليضع الفرد وحريته كاساس لكل تصور والكفاح من أجل الوجود الروحي وادراك وحدة الحياة الروحية داخل المسار البشري الصاعد والعودة الأصيلة وتجديد السؤال عن معنى الحياة وقيمتها وتحقيق غاية سامية رافعة للنفس في كليتها، والتمكن من الارتقاء فوق مستوى النفس، وإنجاز ثيمات الحياة للدفع بها نحو الإمام، وتنشيط إمكانيات الكفاح والعمل بشجاعة واثقة على الرغم من كون كل ما حولنا يحول بيننا وبين ادراك المعنى، ويهدد بتبديد كل سعي حثيث نحو التجاوز والتغيير. يقول في قصيدة "طائرٌ وكرهُ النص":
"بعد الف عبوة من رحيله
اتهمني طيفه بالخيانة
لصمتي عن رثائه"
ويعزز في موضع اخر لهذه القصيدة من منطلق الرائي البصير في إدارة بوصلة الهم الإنساني متجاوزا الذات الغريزية باتجاه كينونة أعلى وحياة أسمى قائلا:
"وحده يكتبُ
تاركا الإغواء والأضواء،
قاصدا معضلة.
يردأ التيه والعمى،
عن رؤية البوصلة"
مما يجعل لغة قصائد هذه المجموعة تفضي إلى إنجازات فعلية اكثر مما هي مجرد جهد تأويلي للفكر بل تكثيف للحياة.
 
ويتخذ الشاعر من العناصر الأسطورية كفضاء رمزي للتعبير عن الواقع الراهن، محاولا بذلك استنهاض الهمم كعاَمل فاعل في التغيير المجتمعي. وفي هذا التوظيف، يدفع إلى الكشف عن الصلة بين النتاج الشعري وطبيعة تجربة الشاعر في وطنه العراق، سيما، ما بعد التغيير عام ٢٠٠٣م، إذ تأتي رموز الادب والأساطير السومرية كانعكاس  لما يعتمل في داخله من أحاسيس، فيأتي اقتباسه للنص الأسطوري السومري وما يوحي به من إشارة إلى مذهب التوحيد، وحياة الإنسان الآمنة كمدخل استهلالي لكل المتون الشعرية لمجموعة (رائي العراق) وكصرخة احتجاجية واستفزاز حضاري أصيل لواقع معيش، يستشري فيه الفساد ويختل التعايش الإنساني السلمي. وبهذا الاستحضار، يتم بقصدية واعية تفعيل الحراك الشعري في مسارات انتقاله من النص إلى الفعل بل والى فعل التاريخ على حد تعبير (بول ريكور). وبوسعنا القول بأن الشاعر يوظف مضامين الأسطورة بطريقة لافتة واقتصاد لغوي للتعبير عن الرؤى التي يبثها. حيث يمتلك قدرة الوصول إليها، مشكلا نظاما رمزيا واحدا باتحاد الشعر بالأسطورة حين يموضع تجربته الانفعالية في اتحاد الشاعر بالكون.
تحت قصيدة (طارئون) نقرأ:
(نص مفتوح لا يخضع لاية مقاييس صوتية لكنه يومئ لما قبله و لما بعده من طغيان)
"هم اشواك تحبو لتلحق الورود
يقضمون الق النجوم
باضراس الليل، قصيدة أولئك
اذ تتوفر على اهتمام الشاعر بالإيجاز والتخطيط في الحركة الخيطية للقصيدة من دون الوقوع في الترهل أو التبذير اللغوي. وينسحب هذا الامر على القصائد العمودية. فقد اتسمت هي ايضا بالاقتصاد اللغوي في الصور الشعرية والتناظر والتوازي الموفق بين ابياتها على الرغم من وقوع بعض مواضعها بشيء من المباشرة، وربما يعود ذلك بتسلل تأثيرات الناقد ـــ الشاعر إلى مشغله الشعري، يقول في قصيدة (( رائي العراق)) :-
"يدب الرعب في مدن الحبيبات
ويسري الويل، في طرقي وحاراتي
وتنهش في كياني نار قارعة
وغيم أسود يغزو فضاءاتي
أنا وجع الزمان يدور في جسدي
ليروي هول كارثتي ومأساتي، قصيدة رائي العراق "
فجاءت طبيعة البناء خاضعة للتفاوت في التجربة ودرجة حساسيتها ونضجها وتفاوت أشكالها الشخصية تماشياً مع طبيعتها الذاتية. مما يجعل هذا المنجز يحمل كياناً بنائياً خاصاً في النظر إليه وفحصه استناداً لهذه الخصوصية، فضلاً عن أن تقانة البناء التوقيعي تسهم بحيوية في تعزيز استراتيجية البحث عن المعنى كثيمة رئيسة لهذه القراءة لما لهذه التقانة من تمكين إجادة التكتيف واختيار اللقطة المناسبة واعتماد الصدمة والمفارقة. كما تمنح لغة القصائد ضمن بنائها التوقيعي إضاءات تشكل في ذهن المتلقي خطوطاً احتمالية لمقترح المعنى، لظلال المعنى وطبقاته وتموجاته. إذ ينجح في إيراد احتمالات المعنى بطريقة إيحائية في تركيز شدة الإضاءة نحو منطقة التلقي. فتعمل النصوص هنا على تنشيط خلايا اللغة وتطوير مستوى فاعليتها.
إلى جانب ذلك، تعمل نصوص هذه المجموعة بلغة فاعلة في توظيف ناضج لآليات اشتغال البناء الدرامي، حيث تتوفر على مديات اتصال فاعلة في الأداء اللغوي لتحقيق توازن بين الوعي الفني والفكري في شخصية الشاعر الإبداعية. فيتجلى عنصر الحركة والتنوع وتداخل المرئي باللامرئي وتوهج الحدث بمخيال شعري يتفاعل في مديات المعنى، ما يحفز انطلاق مشروعه من نقطة حرجة تبدأ بالتناقض والتناحر والصراع والتحدي. ذلك يفضي إلى إشاعة فضاء النص الشعري توترا حادا في جمع التناقضات والاتجاه بذلك إلى الذروة  بما ينسجم مع تطور الأحاسيس ونمو العواطف والأفكار في نموذج البناء الدرامي، ففي قصيدة ( في ساحة التحرير) ، المشفوعة باستهلال مؤثر إلى مراجعنا الكرام فتيان ثورة تشرين . يقول فيه :
((بهاء الخصب لا يفنى، إذا ما أظلم القمر
ونهر الحب لا يذوي إذا ما دمدم الضجر
وَمَا وَهَنَتْ صَبَابَات إِذَا مَا الضَّيْمُ سَاوَرَها
وَيَبْقَى الْبَذلُ مِدْرَارًا إِذَا مَا الْحَقُّ يُحْتَضرُ
وَغُصْنُ الْحُب لَا تَخبو نَظَارَتُهُ فَإِنْ ذَبُلَت
وَرَيْقَاتٌ، يَظل الجَذْر حِيًّا لَيْسَ يَنْدَحْر))
وتتكشف فاعلية البناء الدرامي في قصائد هذه المجموعة عن قوة درامية متمظهرة في سياقاتها الشعرية بما تحمله من أساليب بلاغية وعمق بياني ينعكس بأداء شعري موفق. فترتكز عتبات عنواناتها على نقطة تبئير عالية تتمحور حول الفضاء الشعري فتتعمق بذلك الروح الدرامية منذ المظلة العنوانية (( لهاث الفصول، ما قاله النهر، لقطات ، زقزقة، الورد تأكله البنادق ،وما إلى ذلك من متوالية عنوانية)) تسهم في بث الإشارات المتنوعة باتجاه متن النص. فتخضع مشاهد القصائد إلى التحول الدرامي في سياق شعري يرتكز على أرضية مهيئة للاستمرار والديمومة فتأتي شبكات ملفوظاتها بسلسلة من المسارات ذات الطابع الدرامي كقوة محركة لفعل النص . ونتيجة لذلك تخلق الفعاليات اللسانية وما تملكه من طاقة تعبيرية دلالية ورمزية جواً درامياً كثيفاً في منطقة افتدائية من مناطق حركية النص وفعاليته وفيما بعد انتقالاتها إلى محاورها الدرامية
 
إشارات:
  • صدر كتاب رائي العراق عن دار الورشة الثقافية، بغداد ط1، 2025.
  • الشاعر علي شبيب ورد، تولد العراق – الناصرية - بكالوريوس فنون مسرحية/ بغداد.
  • صدرت للشاعر 14 كتابا منها (ناطحات الخراب)، شعر/ عن دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد، 2009.
كتاب (دهشة القراءة الاولى)، مقتربات نقدية في تقنيات الشعر/ دار رند للطباعة و النشر ؟ دمشق 2009.
كتاب دراسة نقدية عن الادب الكردي، مقالات نقدية/ اصدار مشترك/ منشورات اتحاد الادباء الكورد/ دهوك، 2010.
  • ولديه مخطوطات كتب تحت اليد.