أيلول/سبتمبر 12
   

وهو يعيد ترتيب كتبه وينفض عنها تراب مسكنه المهجور لسنوات، ويوزعها على رفوف خشبية داكنة اللون شغلت حيزاً واسعاً من جدران صالة الاستقبال في مسكنه الجديد، فجأة وقع بصره على دفتر بغلاف أسود سميك تأطّرت حاشيته بورق لاصق محكم لا يشبه الدفاتر الاخرى بقياساتها المعروفة، يوحي منظره بحرصٍ متناهٍ عليه خشية تلف وضياع مرتقب.
يترك المهمة التي أعيته كثيراً سيما بعد أن بدأت الشمس ترسل أشعتها قوية حارقة، منذ ساعات الصباح الاولى، فاحترقت النسمات الخفيفة التي كانت تداعب وريقات شجر قليلة في حديقة المنزل.
حدّق في السجل الذي ظل يبحث عنه طوال تلك المدة التي شهدت موجة من العنف والاحتراب موغلة في الوحشية، اضطر بسببها الى الهرب والافلات من الجحيم لينجو وعائلته، ليستقر بمأوى صغير.. بلا كتب، وذكريات وأسماء تركها محفورة على جدران منزله البيضاء، ومكتبته التي يأوي اليها في سنوات الحرمان والجوع والاضطهاد، كانت ملاذه الوحيد الذي يخفف عنه أحزان الزمن البغيض، أحسّ كامل بالعرق يتصبب من جبهته، من المؤكد وهو يتحاور مع نفسه، أن كل تلك الأحزان لا تعادل لحظة افتراق مع المكان الذي يشيّد بالدموع والهم وعسر الحال، لا تعادل حالة الانتزاع القسري من الوطن أو اكراه الإنسان بالمغادرة تحت ضغط التهديد، حاول كامل أن يتناسى تلك المشاعر المتضاربة التي يجدر به ان يكبحها لأنها تشكل وجعاً ممضاً في حياته.
كان مطمئناً بعض الشيء متمسكاً بخيط واهٍ من الأمل يعيد له السكينة بعودة كتبه إليه، ولعلّ إحدى المفارقات التي تدعو للسخرية، أن مكتبته هي الوحيدة التي ظلت محفوظة من دون أن تمتدّ لها أيادي التدمير المجنون.
يعرف جيداً أن القتلة والمجرمين لا يعنيهم الكتاب، ولا يكترثون لوجوده، انه بنظرهم ليس سوى كومة من الأوراق الجاهزة للحرق متى شاءوا، توفر الدفء لأجسادهم الملطّخة بدماء الضحايا، هم يجتاحون البيوت الخالية من أهلها في ليالي موحشة ومظلمة، حالكة السواد، كسواد قلوبهم الميتة، إنها الحسنة الوحيدة ربما، التي تركها أولئك الأوغاد، فثمة شعور اختلط فيه الفرح والحزن، وهو يستعيد كنزه الثمين، بعد انتظار مرير.
   انتبه كامل إلى نفسه، واستدار ليلقي ببصره مرة أخرى الى ذلك الدفتر العتيق، الذي ضمّ أسماءً رُتبت حسب تسلسل هجائي بعناية فائقة، تنمّ عن اهتمام مبالغ فيه، وذوق فني منظّم في تسجيل أرقام الهواتف، وعناوين الأشقاء والشقيقات والأقارب والاصدقاء وزملاء العمل، ثمّة مشاعر عديدة اجتاحته بوقع سريع موجع مشوب بالحذر والقلق والتردد أثناء تصفح أوراق الدفتر.
   كان يدرك جيداً عدم جدوى تلك الارقام التي باتت معطّلة ليست ذات نفع، بسبب ما قدّمه العصر من منجزات حديثة في وسائل الاتصال… وهو على يقين أن استعادة تلك الأسماء ستختزل له أحداث عقود من الزمن ولو بصورها المشوشة، راح يسأل نفسه ويجيبها باعتداد وهو يحاول ان يتشاغل بشيء نافع ومفيد يثنيه عن الرغبة في اكتشاف جديد لأشياء طواها الزمن، على افتراض مسبق بمعرفة الكثير من الحقائق التي عاصرها.. في تلك السنوات، رحل والده، والعديد من أفراد عائلته وأقاربه، وبعض من أصدقائه، انه على علم بتهجير رشاد وصالح، وقتل سليم، وذبح مراد، واختطاف باقر وكريم، واعتقال عبد الله.. ماذا تضيف له كل تلك الاحداث؟ غير الألم، والفزع من المستقبل.
  يتساءل كامل… لقد ظلت أرقام هواتف هؤلاء هي الشاهد الوحيد على تاريخ وذكريات متناثرة عنهم، لم تعد تلك الارقام تشكل مصدراً يروي عطش كامل لمعرفة المزيد من الحقائق، ولعل وجود هاتف أرضي ما زال يعمل قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وفرّ له خدمة الاتصال وضاعف من حماسه للاستفسار عن نزار الذي فارقه منذ ثلاثة عقود من الزمن أو أكثر.
   تنتقل يداه الممسكة بسجل الهاتف لصفحة حرف (النون) ويخامره شك كبير أن يكون نزار على قيد الحياة ليردّ على ندائه الاول، مبعث شكوكه تلك، أن نزار الرجل الذي قارب السبعين من العمر، لا يتجاوز وزنه في ذروة شبابه أكثر من 50 كيلو غراماً. جسد نحيل يرتكز على ساقين طويلين ينوء بحملهما وكأنهما خيطان متدليان متأرجحان، يذهبان يمينا وشمالا، خارجان عن السيطرة.. كان من السهل جداً علينا أن نعرف بقدوم نزار حين تسبقه زوبعة من التراب تثيرها أقدامه وهي تخبط الارض بعشوائية غير مقصودة.
  يضع كامل سبابة يده اليمنى على قرص الهاتف الدائري.. يتحرك الرقم الاول بنصف استدارة ثم الثاني والثالث… حتى السابع. لحظات سريعة جداً مرّت لم يعد 
يحتمل ارتعاش ساقيه، فاختار مقعداً للراحة بانتظار رنين هاتف نزار.
ألو...ألو..
يجيب على الطرف الاخر، صوت نسوي ناعم خفيف خجول:
-نعم…ألو..من؟
-هل هذا بيت نزار؟
تقصد ابو علي… نعم بيت نزار.
على الرغم من مشاعر الفرح المتواضعة التي تسللت الى أعماقه في اللحظات الأولى من الردّ، إلا أن هاجساً بالخوف كان هو الطاغي على حالة الترقب، وانتظار المفاجآت، استمر كامل بالسؤال:
هل أبو علي موجود، أستطيع التحدث معه؟
نعم، لكنه خارج البيت
هل صحيح ماتقولين أم هي مجرد مزحة؟
لم أكن مضطرة للمزاح.. أجابت وهي واثقة ثم تساءلت: ما الذي يدعوك الى هذا الاستنتاج، يبدو أنك بعيد تماماً عن (ابو علي)؟
عذرا لا أقصد ذلك.. شعر كامل بالحاجة حينئذ الى المزيد من الراحة، والتقاط أنفاسه للحظة قصيرة.. يمكن من خلالها أن يلملم أفكاره ويعيد تنظيم أسئلته من جديد على وفق متطلبات المحادثة مع الصوت النسوي.
سأعاود الاتصال به في وقت آخر، سيدتي الفاضلة إن كان مستعداً لسماعي، انا (كامل فرحان ) صديقه، ارجو ان تساعديني في ابلاغه بذلك.
نعم، أجابت تلك المرأة التي لم تعنيه في معرفة صلتها بصديقه القديم نزار… فأغلقت الخط الهاتفي بسرعة.
   كان يتوقع بين لحظة وأخرى أن يرنّ هاتفه من جديد ليبدد السكون والصمت اللذين يسودان أجواء الصالة الخالية من الأثاث، سوى ما علق في جدرانها من لوحات تشكيلية وآيات قرآنية، تتصدرها آية الكرسي بحيز متميز.
  ظلّ يترقب بلهفة شديدة نداءً عاجلاً لنزار، فخاب توقعه بعد طول انتظار فقرر معاودة طلبه من جديد في الساعات الأولى من الليل:
جاءه الصوت خافتاً مبحوحاً متقطعاً مشلولاً.
هل أنت نزار؟
فردّ بصعوبة بالغة: نعم !
هل فقدت وعيك يا نزار، وتمكنت الخمرة من شلّ لسانك؟
وأعيّت أوتار صوتك؟
أنا لا أشرب الخمرة أبداً، كما تعلم يا كامل…لكنني أُصبت بالشلل، فتحولت الى نصف رجل الآن إثر جلطة دماغية أفقدتني القدرة على النطق لكن ذاكرتي ماتزال حية، وأشعر بتحسن طفيف الآن.
  إنها الصدمة الأولى التي هزّت كيان كامل في بحثه اللّامُجدي في الأسماء… لم يعد حاله يحتمل المزيد منها فيما إذا قرر مواصلة لعبته تلك.. فصمت قليلا وهو يتلمس كرسياً قريباً منه، سحبه إليه بعض الشيء ليستريح من وقع المفاجأة… أسند مرفقة اليمين عليه، وواصل السؤال:
   ـ نزار هل تعرفني جيدا؟
- كيف لا… ما زلت أتذكر تلك الليلة التي سرق فيها قطّاع الطرق دراجتك قبل أربعين عاما، وأنت تتجه الى حديقة الجمهورية لتذاكر دروسك تحت ضياء الحديقة أليس كذلك؟.. كنتَ مسكوناً بالقراءة والكتاب، ودفعت ثمن سعيك الجاد وحرصك على الدراسة. كنا نسخر منك ولمّا تزل لم تتخلص من اضطرابك الشديد، وهلعك من فوهات المسدس الذي صوب نحوك في الظلام.
ـ أود ان اسألك يا نزار عن مصير أفراد الشلّة التي شغلت زاوية من مقهى شمه، بالحضور اليومي لساعات طويلة، وهي غير آبهة برواد المقهى الاخرين المنشغلين بلعبتي الدومينو والنرد،…. وصراخ الراديو والمارّة.. كان جلّ أفرادها من أولئك الذين بدأوا خطواتهم الاولى في الكتابة وانشغالهم بقضايا الادب والسياسة
أين احمد السعيد، حميد الفاضل، رياض العيسى، سعيد راغب، نعيم ستار، و.. و….؟
   يبدو أن نزار هو الآخر كان ينتظر هذه اللحظة التي أيقظت ذاكرته من جديد وحررت لسانه من الشلل، أيقنت وأنا أستمع لنزار وهو يروى حكاية كل واحد من هؤلاء بتفاصيل دقيقة، أنني ارى وأسمع وأعيش بين أولئك من دون أن يراني أو يسمعني أحد منهم، هالني ما أصابني من فزع بسبب هذا الشعور…
لكن فجأة يسود الظلام، ليقطع النور والصوت، رغم حزمة مثل خيط رفيع من الضوء، لم تستطع النافذة المطلّة على الفضاء الخارجي للمنزل من كبحه، ليستدلّ كامل على طريقه بصعوبة من خلال بقعة ضوء صغيرة على الحائط.
   يعيد سماعة الهاتف إلى مكانها الطبيعي وهو يعاود الهمس مع نفسه، تتصاعد أنفاسه، وتتشبث يداه الراجفتان بأعلى مسند الكرسي بإحساسه المتعاظم بقوة الظلام، وبجهد صعب تخطّت قدماه البالغة ثقل العتبة الواطئة لباب الصالة، محاولاً الافلات من هذا الكابوس… وهو يتطلع الى الضوء القادم من الشارع كوسيلة للخلاص من تتبع الشريط المأساوي الذي ظلّ يدور بلا توقف في عقل نزار، إلا أن صمتاً بدأ يترسب بكثافة في أعماقه شغله قليلاً في تأجيل حشد من الرغبات المترسبة في الداخل.
   مشاعر جمّة تؤجج في روحه أوار العزم للعودة الى تصفح أوراقه القديمة، حال عودة التيار الكهربائي إلى البيت، ها هي الانارة تحتلّ مواضعها بتذبذب مفضوح، وراح الضوء يلثم برفق صفحات الكتب المرصوفة على رفوف الجدران، تحسس الوجه الصقيل من الدفتر بيده اليمنى المعفّرة بتراب الجدران التي اتكأ عليها، وهو يتلمس طريقه نحو الغرفة من جديد .. عيناه تنتقلان بصعوبة فوق الأشياء الغارقة في الضوء، ساد الصمت بين الجدران، وانزوى في ركن تحتلّه طاولة داكنة اللون، مستطيلة الشكل، يقف خلفها كرسي دوار.. أسند ظهره إليه، وهو يحلم بالطواف حول العالم، أطرق الى السجل محدقاً فيه، طوى أول صفحة فيه.. احتوت على معلومات شخصية ورقم بطاقة الهوية، وفصيلة الدم وعنوان مسكنه القديم، وصفحة أخرى تقابلها لا تحمل أي معنى، وفي الزاوية العليا اليسرى من الصفحة التالية، يبرز حرف (أ) كأنما ينبعث من تجاويف غائرة في الأرض، شامخاً، منغرزاً في أعلى الصفحة كمسمار
   الاسم الاول (أديب)، التقاه صدفة قبل أيام في مبنى إحدى الصحف الاسبوعية لم يصغ الى سماع شكواه وهو يتحدث بانفعال وبسرعة عن معاناته، وجهه يعتريه الشحوب، حاول أن يمسح دموعه التي كادت أن تخنقه. ويخفف بعض آلامه وحزنه، لم تترك كلمات أديب أثراً بالغاً في نفسه، لأنهما يتقاسمان المصير ذاته!
     ليت أحمد بأحسن حال من أديب، يتساءل كامل مع نفسه، وهو يتابع قراءة أسماء الصفحة الاولى، إن كليهما يتشاطران الفجيعة، أمّا ابتسام، فقد ظلت وحيدة في بيتها الذي كان ضاجاً بضحكات الأولاد، ومزروعاً بأمانيهم العذبة، لقد تركوها وحيدة، واختاروا الغربة في البلاد البعيدة هرباً من الموت الذي يداهم الشباب، ها هي تتلفت الى الجدران التي تغادرها الروح… لم يعد الدخل العالي والكسب المادي الكبير، وترف العيش الذي يوفّره عملها اليومي في عيادة طب الاسنان العائدة لها، أن يعيد لها أبناءها، ويزيح الهواء الفاسد المخزون في صدرها، ترى هل يمكن للحيطان ان تلمّ أحلام ابتسام؟
  يحاول كامل بتركيز شديد ان يتذكر (أمير)، فلم تسعفه ذاكرته المعطوبة من التعرف على أمير، وظل هو واسمه مجهولا.. وبلا معنى .. ولم يصل الى ما يسعفه لمعرفة المناسبة التي دوّن فيها اسم أمير وكذلك أسماءً أخرى، أبو آزاد، ترى من هو أبو آزاد؟ وأسعد، وأمجد.. هناك خمسة أرقام تحمل الاسم ذاته.. أياً من هؤلاء يستطيع أن يتلمس طريقه إليه؟
   حاول كامل أن يرتّب أفكاره من جديد، ويعيد وصل سلسلتها المقطوعة، لكن سرعان ما تلاشت الذكريات، وشعر بداخله يحترق حين تأكد له ان ابراهيم وإسراء، وآمال، وابتهال، هم الاخرون لا وجود لهم الآن على خارطة الاصدقاء
وبعد ان نفدت حيلة كامل، بدا هادئا وادعا للحظة من الوقت، كأن عينيه تتوسلان الى شيء مبهم يقدّم له المساعدة للتخفيف من حيرته وشدة خيبته، واصل النظر بجمود الى بقية الصفحات.. أيقن من صعوبة الاستمرار، فكّر بالأمر جلياً.. لأن صفحة واحدة من الأسماء تختزن مئات الأحداث والذكريات، وثمة صيحة أخرى هزّت كيانه انطلقت من داخلة: كامل اترك هذه اللعبة وانصرف!
    لكنه قبل أن يلبّي النداء اتجه بنظره الى النافذة ليرى كتلاً من الظلام تتخللها خيوط وامضة، كانت به رغبة الى النوم، مشت العتمة الى الشباك، واتسعت دائرة الصمت، ظلّ كامل شارد العينين، فالساعة تقترب من منتصف الليل.. شعر بالانقباض وقرر أن يتمعن للمرّة الأخيرة في الأسماء، وذهب الى صفحة أخرى. يعرف أن اسم عدي فيها يتلألأ لوحده بين الأسماء، بدا له الآن في العشرين من عمره، كان طالبا في كلية الهندسة يدرس الميكانيك، يلوح له الان من فوق الرؤوس باسماً بحقيبته الصغيرة، تشاغل كامل عن عدي بالنظر الى سطور أخرى ، محاولاً الابتعاد عن ذكرى عدي، الذي غادر بيته في اليوم الأول من بدء عطلة نصف السنة يقضيها بين أبويه واخوته في الحلّة، لكنها كانت المغادرة الابدية..
استحضر وجهه الأبيض الجميل، ونظراته الصافية، كان يتحدث بصوت خفيض بطعم الريحان، وله أفكار رائعة، كأنه حمامة بيضاء ترفرف في سماء البيت وينثر الورد صباحا مصبوغا بضحكته الطفولية، لم يعد السجل بعد ذلك الاستحضار، وهو مسجّى أمامه على طاولة المكتب سوى أنين مكتوم وحشرجات، واستغاثات ليست بعيدة جدا… يلفّها الحزن، مازالت تسمع على مقربة منه.
   لم تلبث نظرات كامل أن اضطربت وهي تتجه صوب دفتره السميك فأنسلّ بخفة نحو مطبخ المنزل، يبحث عن عود ثقاب، ارتعشت أصابعه، كاد قلبه يفرّ من صدره، لم تتخاذل يده، وسرعان ما جمع قواه.. وفي لحظة غامضة تناثرت اوراق الدفتر، تحولت إلى قصاصات صغيرة، جمعها من جديد.. تحولت الى جسد يلتهمه الحريق، ثم رماد يثير الشفقة.
فتح نافذة الصالة، يتابع تصاعد الدخان الذي بدأ يتسرب كثيفاً وببطء نحو الخارج، وما هي إلا دقائق مرّت، حتى انطفأت الأضواء، لملم بقايا الرماد، وساد المكان الصمت.