أيلول/سبتمبر 12
   

   

سارا معاً، فوق ممر مرصوف ببلاطات ملونة تتخللها، مربعات مفروشة بحصى صغيرة بيض، والمتنزه برمته يتنفس بعبق روائح الأشجار والزهور الزكية والتي تحف الممرات وكأنها تحتفي بالزوار من الرجال والنساء الذين حضروا لتزجية وقت ما قبيل المغيب الساخن.
     قالت الفتاة:
  • انك لم تفعل ما يلزم.
     كان الفتى ساهماً ولم يسمع تعليق فتاته، مشتتاً تفكيره بالنظر إلى ألعاب الأطفال في ساحة المتنزه، راقب القطار وهو يدب فوق سكته محملاً بباقات من الأطفال، راقبه وهو يطوف في دائرته المرسومة له والمحاطة بسياج حديدي. كان يفكر وهو يبتسم، لو انه طفل مثل هؤلاء، لما واجه مثل هذه المعضلة.. لم يسمع ما قالته فتاته، لكنه شعر بانها قالت شيئاً ما فسألها:
  • ماذا؟
  • إنك لم تبذل جهداً لحل المشكلة.
     وسارا متلاصقين فوق الممر الطويل بين جموع زوار ذلك المكان الفسيح. ساد الصمت فيما بينهما لبرهة فيما بدت مصابيح الحديقة تنير بألوانها المشعة كل أرضية المتنزه متسللة اليها عبر الشجيرات التي تحف هاماتها الباسقة بذلك الممر، تنساب أصوات الموسيقى من كافتيريا ومقاه المتنزه المنتشرة في كل مكان، مرا في طريقهما على كازينو كانت على مقربة من الممر، يتحلق حول موائدها العشرات من رواد المتنزه. كان الفتى قد قال لفتاته شيئاً ما لكنها قالت:
  • ماذا فعلت؟ أنت لم تفعل.
     وضع يده فوق كتفها وسحبها برفق نحوه ليبدوا كتؤامين متلاصقين، أزاحت الأضواء عتمة المساء الهابطة فوق الحديقة الشاسعة التي ازدحمت رويداً بالزوار الفارين من قبو المنازل.
     مالا بجسديهما نحو مكان فسيح انتشرت فيه الأراجيح ودواليب الهواء والافعوانيات، تحيط به الأشجار الخضراء وأصوات الطيور العائدة من رحلة النهار، شعر كلاهما بارتباط غير مألوف، كيمياء الحب تتفاعل بشكل فوري لتزيد من حدة تقاربهما، وهناك على مقعد خشبي في ذلك المقهى جلسا متلاصقين، يتحدثان بهمس، استمتعا بالحديث عن احلامهما المستقبلية واتفقا على عدم السماح بتسلل الكآبة إلى عشهما المشترك، بيت الأحلام الخفي، نهض الفتى، قطف وردة وقدمها لفتاته، واحضر النادل ما طلباه من المرطبات.
 رأسه لم يزل مزدحماً بالعشرات من الأفكار والحلول، لكنها على الرغم من ذلك لم تكف بترديد عبارتها:
  • انك لم تفعل ما يلزم.
     يحدث أحياناً انه لم يسمع تلك العبارة، فظنت انه يتجاهل الرد عليها لم يعد يحبها أو ربما هو يخطط للتخلي عنها، لكنه لم يكن كذلك، انه يفكر بحل لمعالجة الأزمة التي سببها والدها، لم تفلح محاولات ذويه في ثني والدها عن قراره الرافض لزواج ابنته منه، قال:
  • والدك لم يزل مصراً.
  • لن يصمد طويلاً فيما لو كررتم الضغط عليه.
     تدحرجت كرة بالقرب منهما، جرى خلفها طفل وحاول التقاطها لكنها أمسكت الكرة لتبقي الطفل برهة أطول وهي تتملى ملامحه الجميلة وهي تبتسم، فيما كانت حلبة الكازينو المزدحمة بالرواد تنظر بفضول نحوهما وهما يلاطفان مع الطفل الذي أخذ كرته وذهب باتجاه أبويه، قال لها:
  • لا أكاد أصدق بوجود فرد مثل أبيك في زماننا.
  • ليس بوسعه مغادرة أرثه القبلي بسهولة، يشعر بالإهانة لو فعل.
  • لن استسلم لن أدعه يفوز.
     كان الليل قد أكمل غلق بقايا مسارب النهار وحلّ مساء رطيب معتم، نهضا ونزلا مدرجات سلم الخروج من الكازينو، وسارا فوق الممر المقرنص المضلل بكثافة أشجار الحديقة الشاسعة، وانسابا مع زحام المارة السائرين فوق الممر المحاذي لنهر دجلة باتجاه مجسر خشبي يمر فوق جدوله ماء رقراق، انطفأت أنوار الجهة الأخرى من المدينة فبدت مثل آثار منقرضة تومض فوق رفاتها خيوط واهنة من أنوار بعيدة. قال لها:
  • ليس بوسعي التخلي عنك طال الزمن أم قصر.
     التصقت به امتناناً، ذابت في كيانه، لم تعد تكترث لنظرات السابلة الغرباء المارين فوق ذلك الممر الطويل، لا شيء يهمها سواه، والآن في نهاية المشوار، عرفا انهما سيكونان بمفردهما في مواجهة بيداء شاسعة من التخلف، استمتعا بمنظر الحديقة اللامتناهية والقمر من بعيد يرسل ابتسامته فوقهما، ينظرا إليه وهما يبتسمان له، كانت الفتاة سعيدة إلى درجة البكاء، كانت تحبس عبرة أوشكت على الانعتاق من صدرها، عبرا معاً ذلك الجسر الخشبي الصغير تحت وميض أضواء السيارات المسرعة فوق كورنيش دجلة المحاذي للمتنزه وهي ملتصقة به، وهي تتخيل والدها الان وهو يغط في نوم طويل بعد أن عب في جوفه أقراص العلاج المركب، كانت تشعر بهدوء وهي تراقب قلبها المحتفي بالفرح القادم.
     اتسعت رؤيتها لتلك الخضرة الشاسعة وذلك الضوء المنسكب فوقها من القمر المبتهج، اجتازا الساحة المستديرة في المتنزه، لقد تقبلا بارتياح نتائج التفكير النهائي في ذلك اللقاء العاطفي الحميم وفي ذلك المساء الرطيب. استقبلت رأيه الأخير بارتياح، جلسا مرة أخرى فوق المقعد الخشبي القديم الفارغ، كانا يتأملان السماء التي بدأت تتلون بألوان النجوم العائمة فيها على الرغم من كل الصعاب التي مرا بها وضبابية المستقبل؛ شعرا بالسلام لأول مرة منذ زمن طويل، زمن تعارفهما، ارتسمت على ملامحهما لمسة عشق لم تتمكن عتمة المساء من حجبها، وتراءت لها دوائر الضوء وهي تعزف موسيقاها الخاصة، وتتسع ببطء لتشمل كل الحياة. لقد تعلما ذلك المساء ان الحب لا يضيع أبداً ولا صوت يعلو عليه.
 
اسماعيل سكران - قاص وروائي من الكوت.