أيلول/سبتمبر 12
   
 بغداد لم تعد وطنا لا بل أصبحت ساحة للرماية
                                                                      
                           
 
لبهجة الروح كل خراب الروح
وفي الجهة النبيلة من جبهتي تقيم القصيدة
أكتب هذه الأغنية، أغنية كل الناس
الأغنية الثملة
                          سان جون بيرس ــ قصيدة آناباز
 
الشعر هو ما يؤثر في الروح أولا ، وبعدها أي الأمكنة في الذاكرة هي مأوى للسماع، ومتى أتى الشعر فأن الأصغاء يحضر كما يحضر الكاهن في مراسيم طقوس الذهاب الى مخادع الآلهة، ثمة حالة من إنتشاء الكلمات وهي تصفر بمزمار الحلم لتصنع أغنية للود والاحتفاء بما يبقينا على الأرض ونحن نمسك أزهار الفردوس بأطراف أصابعنا التي خلقت لتتلامس وتكتب وتعزف الموسيقى وترسم وجه الموناليزا على جدران عاطفة الشعراء.
الشعر أسطرة واخيلة هائمة في عوالم هنا أو في هاجس العلا. وقتها يحق للشعر أن يكون أسطرة توثق احلام الغيب في مواهب البشر، ومتى شعروا ان عليهم مغادرة دائرة الحلم وامكنة حدائق الهاجس، حملوا بضاعتهم على اكتافهم وهم يشعرون أن لا احد يطرد شاعرا من الجنة، وإنما هم يختارون الخروج ليس كما في التوراة أو هجرات المنافي الجديدة بل يحاولون أن يؤسطروا خروجهم بكبرياء قياصرة واباطرة وملوك شعوبهم من حاملي وثائق دواوين الشعر وينتمون الى وعي واكتشاف وحلم .
واحد من حاملي تلك الوثائق المهمة  هو الشاعر صلاح حسن * وفي نصه المؤسطر نشيد صدى التواريخ والاثر الذي يتشكل في مخيلة الشاعر إيقونات سحرٍ وحضور وعولمة وبساطيل جنود تكاد تسمع ايقاعات خطواتهم على عشب أرض فرات، خرجت أور من مواسم عطشها وكتب صلاح حسن لأناسها سيرة ذاتية لتواريخهم البعيدة والحاضرة وكأنها مكتوبة بطلاسم طقس كهنوتي وسومري أراد به صلاح حسن أن يوثق تلك المنازعات الروحية الصعبة بين خيار أن يكون الشاعر يمتلك الموقف في تحدي سلطة الالهة والعسكر وبين الجلوس على دكة الزقورة والبكاء من اجل أور التي تحترق وتعيش منادمة الحزن في أقدار أهلها وتلاميذ مدارسها وتلك القدرية التي تؤسس لنشيد الحزن هذا، وقد كتبته ايقاعات روحية لصدى الكلمات في رغبتها أن تجعل المنفى جهة للفرض وقت الخروج من أور، والذهاب الى امكنة الرؤية وجعل الاحزان مسلات لذكرى بلاد كانت الجنة الأبدية لعاطفة الانسان، والمؤثر الروحي في احلامه ولذته والحصول على ما يتمنى :
 ((أيها التلاميذ.. سنمضي إلى الأرض كي نتيقن
من ضلال اليقين .. للسماء نسألها عن ظلها
المزين بالشبهات.. سنمضي إلى الليل قبل النهار
.. نلقي على بابه نظرة بعكازتين ليس أكثر..
للسعادة .. نريها مخالبها اللغوية.. للخطأ صواب
الشر فيه.. أيها التلاميذ ..يا أيها الناس.. لن نقيم..
الإقامة قبر.. سنمضي إلى الغد الذي يتقنع بغبار
قطعانه)).
هنا يقرأ في أور ذاكرتها وحزنها وقدر ابنائه، ومثل عراف بابلي يعرف وجع ونبوءات ومصائر بلاده يهبط صلاح حسن من الحلة ومن لاهاي ومن بارات شارع ابي نؤاس ليسجل في ليل أور مرثية آخر أحلام المدينة السومرية ويغادرها كما فعل قبله إبراهيم وأيوب ورهط سحري من الكهنة والشعراء والجنود والكسبة وتلاميذ المدارس .
أنه هنا يذكرنا بما كان عليه سان جون بيرس حين يريد الوصول إليه الى مجد عن طريق قطارات المنافي صدى احزانها المؤلمة في تراتيل هذا الخروج الذي اعاد الينا صدى عبارة السياب الهائلة (فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه) ليضع هذا البابلي أسئلته في وردة البحث عن جواب شاف لكل التساؤلات التي ظل يدرجها في طرقات روحه عبر المكان والزمان (المنفى) ليؤسس كما كافا في هيبة البحث ما دام الشاعر الاسكندري أوقد أسئلته عبر حاجة الجسد والعقل إلى ثمالة الكلمات ليكتشف .
 كان هذا البابلي ذو الشعر المبيض بغيوم عالية وتسريحة تشبه تسريحة كهنة أيام السبي يحاول أن يجد في ذاته المتوحدة الأجوبة ليكون .. شاعرا ومسرحيا ورجلا لمنصة يتلو من خلالها التعاويذ والمزامير والبهجة.
وربما كتبه الشعرية ومسرحياته الأخيرة أعطتنا ما كان يريده هذا الشاعر. والغريب أنه لم يكن جنونا بل كان يؤسس لتاريخه الشخصي والشعري مدنا يهاجر معها واليها من لاهاي حتى طويريج ..
من مساءات مدينة النبي الكفل حتى بوغتا ...
من دمشق حتى الحمزة الشرقي ...من راقصات الفلامنكو حتى دمشق وبيروت ومنطقة البتاوين في بغداد.
وأخيرا تراه يستعيد محنته مع المكان ليكتب كتابه الممتحن بالتجربة الذاتية وعزلة الدمعة والثمالة وكتابه عنوانه (الخروج من أور) وكان الأحرى فيه أن يسميه الدخول في أور لأنه يسمعنا في هذا الكتاب الكثير من أناشيد محنة الذات مع الخليقة والمكان والقلق العراقي الذي بقي يشكل لشعراء المنفى سؤلا محيرا: هل أنا هنا ..أم أنا هناك ...!
((سوف لا نصغي إلى الشراح.. ولا المترجمين..
سوف لا نصغي إلى الخارج حتى يصبح داخلا
..الخارج حار/ بارد إذ لا مقام.. الخارج تأويل/
زيادة - نقصان ولا مقام ايها التلاميذ.. سوف لا
نصغي إلى الأئمة.. المرتلين.. القراء.. أولاء
مجتهدون لهم أجرهم.. مالنا والأجر .. تقدم أو
تأخر قشرة مما نريد....
أيها الناس ..يا أيها التلاميذ.. سوف لا نصغي إلى
النحاة ولا المتكلمين.. حمقى يقولون-الفاعل مرفوع-
حسب.. يا لفقر البلاغة والألف (أ) حرف تضيق به
الأبجدية.. والباء (ب) مفتاح سبع سماوات طباق.
سوف لا نصغي إلى المجانين)).
هذا النداء بكونيته هو نشيد شعري لوقائع حياة حضارة كانت أور من بعض حدائقها وكان الشاعر في هذا الانشاد يريد ان يقول لمن بقي هناك تلك احزانكم اجعلها نهارات متربة وبساتين لم تعد (دلمونها) حاضرة، ولهذا فانه يبعث رسائل مشفرة الى الاجيال التي تريد ان تبقي من أور شيئا، فهي البلاد وهي ذاكرة الحلم وهي لحظة الغرام التي يسجلها لنا صلاح حسن بذائقة موهبته وقدرته على ان يضع لنا مشفرات حزنه وصوته عبر ابواق الكلمات واوتار ذات القيثارات التي كانت عزفا روحيا وانشاديا بين اصابع اميرات أور. يرسمه صدى تلك البحة الوجودية في عمامة هذا الصوفي (النفري) الذي جلبه صلاح حسن ليفك طلاسم حزن المدينة بعبارة واحدة:
((لا توقدوا شمعة أو سراجا
لن نبصر.. حتى يجف الظلام الذي في الروح.. أو يتم
الفراغ.. لن نأكل أو نشرب حتى تأخذ الطير أرزاقها.. لن
نكتب.. ماذا سنكتب يا مساكين..(ستضيق العبارة) ويتعطل
السمع والنطق والوقت والجسد الهش.. مالنا والحروف..
مالنا واللغات.. ما الموت.. ما الحياة (إذا اتسعت الرؤيا؟))
يكتب صلاح حسن عن الخروج من أور بجزءين، فقد مكث في أور وبدأ اول خطوات الخروج وفي الجزء الثاني (تدوين الصحائف) قرأ المنفى عبر امكنة ومحطات وعولمة بدأت تبعد عنه ظلال المدينة التي لم يبق منها سوى الحجر والأثر، لكنه ابقى روحه فيها، وحمل كما كاهن يرتدي حذاء (باتا) اشتراه له ابوه حين عبر من الابتدائية الى المتوسطة يوم كانت الحلم الشط ومواسم عذارى الجنائن المعلقة، لكنه في هذه الاسطورة هو لم يخرج من بابل كما في اناشيده الاولى بل خرج من أور وهو يحمل عنها وجع الذكريات ويسافر به كما فعل ابن بطوطة يجعل المدن ذاكرة للسفر ومديح الاشياء التي تكون صحائفها ذكرى مكان في مدن لا يعرفها من قبل سوى أطلس الجغرافي ولكنها ترتبط الآن بأور في محنة واحدة، تشبه اسى الحروب والزنازين والمقابر الجماعية وصدى بساطيل رجال المارينز :
((إننا الغرباء .. يا أيها الناس .. لنا تاريخ يطردنا
ولنا مدن تنفينا .. لنا لغة لم تعد بلاغتها تكفي
لتضميد حاضرنا الذي يحتضر .. إلى أين نمضي؟
ما لنا غير أجسادنا.. فيها نقيم وفيها نهاجر ..
ما لنا غير أجسادنا .. ولكن أجسادنا أصبحت
أجنبية إلى أين نمضي إذن .. لبغداد ؟ ولكن بغداد
لم تعد وطنا بل أصبحت ساحة للرماية .. لعمان؟
عمان بحرها ميت وميناؤها عقبة .. لسورية ؟ ربما
إلى القدس ؟ القدس شعبها يتلاشى..
دما وحجارة
تحت شمس الكآبة)).
 
انه الخروج المرثية. الخروج الصعب ولكنه ايضا الخروج الضرورة ليبقى شجن الحياة يعلق آماله في اجفان تلاميذ المدارس وما تبقى من سلالات أور التي رسمت عبر هذه الملحمة شيئا من قدريتها وعطر زهور لحظة البوح التي يريدها صلاح حسن، ان تكون صدى وليست خديعة يوهم بها المنفي نفسه من انه ذاهب الى بلاد اخرى، فعندما تقرأ تراث صلاح حسن وتقارنه مع تلك الانتقالة المهمة مع الخروج من أور، تكتشف انك مع شاعر يحمل لغته وهاجسه وموهبته بمستوى واحد من الاحساس بما يجري في هذا العالم.
لنسمع صوت صلاح حسن الشاعر المنتمي تجنيساً إلى بقايا ذاكرة برج بابل في ثمانينات القرن الماضي وهو يدون صوته في شوارع الحرب. شاعراً متحسباً للكثير من أحلامه الداخلية ولكنه قدم لصوته براءة اختراع في الكشف عن وقائع وطنية وذاتية يعتريها شيء من الخفي المبهرج والذي قد يحسبه الشاعر خداع الخطاب الممسك بذاكرة اليوم. وعلى حد قول بورخيس: "الشاعر ليس نبياً حتى يفهم ما يجري تمام "!
بعد عام 1991 ابتدأ هذا الشاعر مرحلته الأكثر وعياً لبضاعة منتج معامله الروحية متفاعلا مع ما يشعر فيه في خصوصية عن غيره ربما في مسرحة القصيدة وجعلها تحتوي على هواجس تتعدد بتلون صوتها الإلقائي حتى تحس أن واحدا من الكهنة من يلقي النص أمام جمهرة تريد أن تفهم بالإنصات العميق ماذا يقول تماما.
في منفاه الهولندي صار الشاعر صلاح حسن أكثر شيوعا وكونية وأكثر حركة وحرية في التعبير عن مساجلات الذائقة والحس الذي سكنه .
وأراد في بدء هذا المنفى أن يلج إلى ثورية ما .
لكن صوت الكاهن أبقاه تماما فيما كانت طفولته ومراهقته تدفعه إليها: متاهات البحث عن الأشياء المضيئة في ملكوت الكلمة والصوت عبر التهليل إلى القوة الأسمى التي تسكننا لنكون شعراء.
في هولندا البلد الذي يعتمرَ برود العاطفة والنبل حد السذاجة. بلد يقتني الورد ويصنع منه أي شيء وكل شيء.
لقد أراد هذا الشاعر أن يخرج بعباءة قد لا تتلاءم تماما مع مشاعر فان كوخ ليقطع إذن القصيدة ويقدمها إلى بلاده في يتمها مع قبعة الجنرال ، وفي حزنها في رغبتها لصعود قطار الشمال والنأي وسفن المهربين ... فيكون النداء ذاته هو صدى تلك الحشرجة الهائلة في قلب صلاح حسن وهو يستعيد مكونات المكان وأزمنته، ونسمع من صدى الكلمات نشيدا لروح انسان هذه البلاد، البلاد التي أرخ لها (الخروج من أور) كل تفاصيل ما جرى وما يجري :
 ((  أيها الناس .. يا مكتئبون .. نحن عزل .. أيها
المنكبون على مخطوطاتهم وأساطيرهم دونوا
أسراركم قبل أن تصرخوا في المرايا ..المكان
سيمحى ولكنه لن يزول .. نحن نعرف ما نريد
ما همنا إذا كان الذي يشدنا إلى فوق سماء أو
قبرا .. صحارى أو فردوسا .. نحن نعرف ما
نريد .. أكاد أشم لون الضحايا وبريق الخناجر
وهذا قمر فوق كهوف كنعان سيضيء
الكارثة..
هل سيضيء الطلاسم؟
هل سيضيء اللغة
المهاجرة؟))
 
صلاح حسن اديب عراقي يقيم حاليا في المانيا
نعيم عبد مهلهل شاعر عراقي من الناصرية يقيم في لاهاي/ هولندا