أيلول/سبتمبر 12
   

1. تعريف الحداثة الألمانية

            يُعرّف الروائي الالماني توماس مان الحداثة الألمانية كما جاء في كتاب (تأملات شخص غير سياسي)، بأن الفرنسيين مفتونون بما يسمى بالعاطفة الجديدة.

 يوصف توماس مان هذه الظاهرة، التي نمّتْ التطرف العالمي (تسييساً لكل الأخلاقيات؛ وتمثلت عدوانيته وتعصبه العقائدي في إنكار وازدراء أي أخلاق غير سياسية. (الإنسانية) أممية؛ كما (العقل) و(الفضيلة) بوصفهما الجمهورية الراديكالية؛ تُعد الروح كشيء مشترك بين نادي اليعاقبة والشرق الكبير. ويذكر مان في كتابهِ (تأملات رجل غير سياسي): (إننا نتعامل مع الفن بوصفه أدباً اجتماعياً، والبلاغة الخبيثة الذائبة في خدمة (الرغبة) الاجتماعية: وهذا ما يجعلنا نرى الشفقة الجديدة في ثقافتها السياسية الأكثر نقاءً).

يفترض توماس مان أن المجتمع الفرنسي يجسد كل ما لا يتناسب مع ألمانيا، وبالتالي يتم تصويره على أنه خطر على الشخصية الألمانية. وفي تأملاته يشير توماس مان الى أن هذا النظام الاجتماعي غير الألماني، أو بالأحرى الفرنسي، هو نوع من الواجهة، زائف بطريقة أو بأخرى. وإنهُ لا شيء كما يبدو. وبحسب مان، فإن النظام الديمقراطي الإنساني هو نظام مخادع ومتعطش للسلطة، من شأنه أن يقتلع كل ما هو ثمين بالنسبة للألمان. ويضيف: إن المواطنين الألمان سوف يرفضون هذه الديمقراطية الخطيرة ويتمسكون بالنظام الاستبدادي التقليدي، لأن (السياسة غريبة وسامة على الطبيعة الألمانية) ولأن الشعب الألماني لا يمكنه أبدا أن يحب الديمقراطية. إن التقاليد الألمانية المتمثلة في (الثقافة والروح والحرية والفن وليس الحضارة والمجتمع وحقوق التصويت والأدب) معرضة للخطر. وبدلاً من جنون الديمقراطية، تقدم ألمانيا بديلاً وسطياً معتدلاً؛ (إن الإنسان الألماني يقول توماس مان - الذي يمثل المركز الجغرافي والاجتماعي والروحي كان ولا يزال حاملاً للروحانية الألمانية والإنسانية ومعاداة السياسة). ويؤكد مان أيضاً على الشرعية الكاملة للنظام الاجتماعي الألماني فيقول: (إن الإرادة الألمانية للقوة والعظمة على الأرض تظل غير قابلة للطعن على الإطلاق في شرعيتها وآفاقها)، ويذكر أن فرنسا، التي يعدها بلداً بائساً، ويقدم تبايناً بين هذا البؤس وبين ما يسمى بمجد النظام. ووفقاً لمان، فإن هذا التناقض موجود بسبب عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في فرنسا ويستشهدُ بالقول:

(هناك شعوب سياسية للغاية، شعوب لا تهرب أبداً من الإثارة السياسية والاضطرابات، ومع ذلك، وبحكم افتقارها التام إلى القدرة على بناء الدولة والسلطة، لم تحقق أي شيء على الأرض، ولن تحقق أي شيء أبداً، على سبيل المثال البولنديين والأيرلنديين. ومن ناحية أخرى، فإن التاريخ هو الجائزة الوحيدة التي حصلت عليها في الأساس القوى التنظيمية وقوى بناء الدولة للشعب الألماني غير السياسي. أنك تمتلك بين يديك دليلاً على أن السياسة لا تنجح في بعض الأحيان. إذا أعلن أشخاص مثلي أن الروح السياسية غريبة ومستحيلة في ألمانيا، فلا ينبغي أن يكون هناك أي سوء فهم).

 إن هذا التصوير للشرعية الألمانية يجعل من الحداثة الألمانية نموذجاً مثالياً مفضلاً إلى حد ما على النظام الاجتماعي السياسي الفرنسي المفترض. وحين لا يكتفي بالثناء على النظام الاستبدادي في ألمانيا، بل يقدم أيضاً الحرب العالمية الأولى بوصفها مهمة لا يمكن إنكار شرعيتها وآفاقها. وكما يزعم إدوارد سعيد فإن توماس مان في (تأملاته) يخلق تسلسلاً هرمياً في العلاقات بين الذات الألمانية و(الآخر) الفرنسي. ومع أن فرنسا لا تقع في الفضاء الجغرافي التقليدي للشرق، فإنها بالنسبة إلى توماس مان تمثل ساحة معركة من أجل الهوية الفكرية والثقافية الأوروبية.

يصور ألمانيا كدولة مثالية، ذات روح أخلاقية قوية وحرص عالمي في الحفاظ على النظام. في المقابل، يصف فرنسا بأنها مستنقع سياسي من الفساد وعدم الاستقرار، وبالتالي فهي أدنى إلى حد ما مقارنة بألمانيا. وهو يمتدح المجتمع الألماني وذلك التشكيك في الشرعية الفكرية لفرنسا، وهي استراتيجية استشراقية كلاسيكية: تحديد الذات (الأفضل) و(الآخر الأقل).

  1. 2. فرنسا الخطرة

             لا يتردد توماس مان في الحديث عن خطر الحداثة الفرنسية على الروح الألمانية. في سياق حجته يزعم توماس مان أن (الأحزاب الراديكالية) في فرنسا تشكل في الواقع تربة خصبة وأرض خصبة للكراهية الفكرية لألمانيا والشخصية الألمانية. وكل ما يعتبر في نظر الإنسان من الجوهر الألماني يتعرض للهجوم من قبل الديمقراطية الفرنسية. وهو يولي أهمية كبيرة لفكرته القائلة بأن أعداء ألمانيا، وخاصة فرنسا، بالمعنى الروحي والغريزي والسام والمميت هم البرجوازيون (المسالمون) و(الفاضلون) و(الجمهوريون) و (أبناء الثورة). إن التطرف (الكوزموبوليتاني) في فرنسا من شأنه أن يدمر الجوهر الألماني يقول مان : (سوف يتم امتصاص الروح الألمانية واختفائها فيه، وسوف يتم القضاء عليها، ولن تكون موجودة بعد الآن).

توماس مان

إن تأملات شخص غير سياسي هي بمثابة نداء وتحذير في الوقت ذاته. يحذر توماس مان قُراءه من خطر مفترض موجود بالفعل بين المواطنين الألمان والذي يريد تقويض النظام الألماني الاستبدادي. كما جاء في كتاب توماس مان: (إن ألمانيا لديها أعداء داخل جدرانها، أي حلفاء وأنصار الديمقراطية العالمية)، ويشير كذلك إلى أن الجيوش الألمانية قادرة على صد المقاتلين الأجانب أكثر من قدرتها على صد الهجمات على الشعب الألماني. ويرجع توماس مان هذا الضعف الروحي إلى أن المسار الفكري الذي يتم إعداده في (الروح) الألمانية. لقد ضعفت الأخلاق الوطنية الألمانية بسبب الميل نحو ما أسماه مان بالنزعة (الكوسموبوليتانية) الخطيرة. إن هذه النزعة الكوسموبوليتانية التي يتبناها ماكاي مقموعة وغير فعالة بالفعل في ألمانيا. وفي هذا الصدد، تُقيم تأملات رجل غير سياسي ارتباطاً بكتاب (الموت في البندقية)، فيجسد الشخصية الرئيسية، غوستاف فون أشينباخ، وهو ألماني يجسد هذا الضعف العقلي. في بداية الرواية، يجسد أشينباخ كل ما هو مهم بالنسبة للرجل الألماني الصالح. ومن خلال كتاب (الموتُ في البندقية) فهمنا منذ الصفحات الأولى أن أشينباخ، المفرط في تحفيزه بالعمل الصعب والخطير في ساعات الصباح، والذي يتطلب في ذات الوقت أقصى درجات الحذر والحكمة والشدة ودقة الإرادة، نرى أن الكاتب قد أستسلمَ للتأرجح المستمر للخطة الإنتاجية، والمحرك الذي بداخله). لقد أظهر (أن لشاب الشاكر إمكانية التصميم الأخلاقي بما يتجاوز أعمق المعرفة). لكن بالرغم من هذه القوة، فإنه يتعرض للإغراء من قبل شخص غريب. لم يكن أشينباخ قادراً على تجاهل هذا الخطر، وتبع هَوَسه حتى وفاته. إنه نوع من النقد لضعف العقلية البرجوازية. ينتقد توماس مان النظام السياسي الفرنسي، ولكن من خلال الإضرار بالبطل (الألماني الصالح)، فإنه يشكك أيضاً في قدرة المجتمع الألماني على رفض هذا التهديد الأجنبي الخطير. ونرى في العملين، من الواضح أن توماس مان ورواة رواياته يصورون بأن يصوروا فرنسا والبندقية ككيانات خطيرة يجب على الألمان الحقيقيين حماية أنفسهم منها بالقوة الأخلاقية، لكنه ينتقد أيضاً وبشكلٍ جزئي قدرة الألمان على الاستمرار في التمسك بـ (الألمانية) والهوية الألمانية المتجذرة.