الكتابة السردية تجاه الطبيعة عامة والحيوان خاصة تبدو محدودة عربيا، وعلى الرغم من ذلك، فإن للتجريب الفني دوره في التوجه ببعض القصص والروايات توجها أخلاقيا، تتساوى فيه الشخصية الحيوانية مع الشخصية البشرية أو تندمج سردية الحيوان بسردية البيئة في تجسيد ما للحيوان فيها من مركزية على الصعيدين الموضوعي والفني. فأما الموضوعي فلأن علاقة الإنسان بالحيوان والبيئة إيجابية وبلا حدود. وأما الفني فلأن المتخيل الحيواني يشغل حيزا زمانيا ومكانيا خاصا من الأحداث. الأمر الذي يجعل الإنسان بلا مركزية تماشيا مع وجهة النظر البيئية التي لا تراه يقف على قمة التسلسل الهرمي للأنواع الحية، بل هو متساو مع الكائنات الحية في القيمة الوجودية. ولا تعني محورية الحيوان التركيز على التكيف البيئي حسب، بل تعني أيضا التعامل مع الحيوان بوصفه كائنا حيا له مشاعر ينبغي أن تراعى، كما له حقوق ينبغي أن تحترم، وله تاريخ هو جزء من تاريخ البشر وتطورهم الاجتماعي على مدى آلاف السنين. وهذا ما يجعل الشخصية الحيوانية منتجة لإبداع ما بعد بشري(1).
وقليلا ما نجد روايات عربية تتناصف فيها البطولة بين الشخصية الحيوانية والشخصية البشرية فتستقي الأخيرة تجاربها وتعكس مشاعرها ومعاناتها من خلال الأولى. والمغزى في أحيان كثيرة هو أخلاقي وفيه يكون للنظام البيئي حضور في عمليات التساوي في الكينونة والمحاكاة الموضوعية للواقع. وفي ذلك دليل على تأثر الكاتب العربي بشكل مباشر أو غير مباشر بالمنظورات المستحدثة في مجال الدفاع عن حقوق الحيوان وحماية البيئة ونظامها الطبيعي من زاويتين: الأولى صلة الشخصية البشرية بالشخصية الحيوانية، والأخرى صلتهما بالبيئة الطبيعية.
وكما أن المركزية للحيوان، فإن للبيئة مثل ذلك أيضا، ومن ثم تكون القصص والروايات المندرجة في هذه الاتجاه - على قلتها - ليست من السرد غير الواقعي الذي فيه يسوح التخييل في مناطق اللامعقول والاستحالة الواقعية، بل هو سرد واقعي يعتمد أساليب فنية مطورة أو مستحدثة في التعامل مع البشر والحيوانات مما يسميه ديفيد هيرمان (الخيال الإبداعي) وبما يوثق الروابط الاجتماعية والنفسية بين عوالم الحياة البشرية وعوالم حياة الحيوانات فيكشف عن الأبعاد الأخلاقية أو يطرح أسئلة النوع الاجتماعي والهوية والآخر والهيمنة.. الخ(2).
ويعد الروائي إبراهيم الكوني مثالا متقدما بروايتيه (التبر) و(ناقة الله)، والكوني معروف ببراعته في تجسيد سردية الصحراء فهي بيئته التي عاش فيها وخبر أنماط العيش في كنفها، وطرق التكيف معها وأساليب التعامل مع حيواناتها. وفي هذه الرواية تمتلك الشخصية الحيوانية استقلالها ولها كيانها فلا يسند السارد إليها حدثا أو قولا إلا كما يسنده للشخصية البشرية.
والصحراء هي القاسم المشترك بين الشخصيتين وفيها تدور أحداث الرواية، وتبدأ بالمهري الأسود وقد تعرف إليه اوخيد وسماه الأبلق وعاشا سوية وبمرور الوقت تشكلت بينهما علاقة روحية كبيرة، فكان كل واحد منهما يعرف أحوال الآخر وتفاصيل حياته في مغامراته وإخفاقاته، فرحه وحزنه إلى درجة أن كل واحد منهما كان يقتفي أثر الآخر. وأدى التصوير الواقعي دورا مهما في إنتاج متخيل حيواني جسد عن قرب تفاصيل تعلق الأبلق باوخيد فمثلا كانت نبرات صوت الأبلق ذات دلالات يفهمها اوخيد. وحرص السارد العليم على محاكاة تردداتها بالرسم كتابيا (يرد عليه متمايلا ينثر الزبد ويمضغ الرسن في عدوه السعيد: أ و –ع-ع-ع فيضحك اوخيد ويستمر في مداعبته)(3). وكررها كثيرا معززا بذلك الصورة الواقعية لطبيعة هذه العلاقة الوجدانية والروحية بين الأبلق واوخيد (في بعض الأحيان يشتكي في بؤس آ- آ-آ- ع-ع-ع)(4) كما أضفى استعمال الحوارات والمونولوجات غير المباشرة فاعلية واقعية على المتخيل الحيواني( قل لي بالله: كيف أنر عقلك إذا كنت أنا نفسي مثلك احتاج إلى من يعينني على تنوير عقلي؟ الغشاوة قدرنا والمصائد هي التي تعلم الحيلة آه الغفلة الغفلة. اقترب المهري الحزين وتسمح بذراعه تألم اوخيد مغيرا لهجته لا يهم لا يهم لا تكترث. يعيِّرك الحمقى بالجرب لا تعرهم اهتماما.. إذ رأسه في حضنه ووقف طويلا في المرعى يعزيه)(5).
وتستمر الرواية على هذا المنوال في عرض المشاعر النفسية المتبادلة، وفجأة يتغير مجرى الأحداث بإصابة الأبلق بالجرب وهو المرض الخطير الذي يصيب الإبل وينتقل إلى الحيوانات التي تخالطها. ومحنة الأبلق الجسدية هي نتيجة متوقعة لمخالفته نظام الطبيعة. إذ أن للصحراء أنماطها التي إن خولفت من لدن الإنسان أو الحيوان، كان وبالها خطيرا. ولقد خالف الأبلق نوعه الاجتماعي من جراء مغامراته مع النوق فأصيب بهذا الداء. وصعب على اوخيد معالجته فليس التشافي من الجرب بالهين. واستعمل مختلف أنواع الأعشاب الطبية ولكنها لم تنفع في مداواة الأبلق. ولم يستطع اوخيد ان يمنع نفسه من توجيه العتب للمهر معبرا عن عواطف جياشة حيال ما ألم بصديقه ورفيقه، وراح يكثر من توظيف المقاطع الحوارية (الآن ستخبرني ماذا فعلت لك حتى تفعل بي ما فعلت؟ الآن ستقول لي لماذا شوهتني بالعار كان عليك أن تشكرني بدل أن تفعل بي ما فعلت.. اشتكى المهري محاولا أن يشيح وجهه ولكن اوخيد اعترضه وصاح غاضبا لا تتهرب يجب ان نتحاسب اليوم)(6) وأحيانا تبدأ الحوارات في شكل مناجاة نفسية ثم تنتهي بمنولوجات حرة غير مباشرة.
ولم يعد من سبيل أمام اوخيد سوى أن يتوجه بالأبلق إلى ضريح ولي صالح كان قد شهد بداية الفتوحات ومات عطشا في الصحراء وهو يجاهد في سبيل الله. وخلال الرحلة تعن له ذكريات حبيبة إلى نفسه (تذكر كيف رعاه ورباه.. كان يسرق الشعير من الخباء ويطرحه في راحتي يديه ويقدمه له..)(7) وحين وصلا الضريح أناخ ابلقه قرب الضريح ونذر ان يذبح جملا سمينا أن هو شفي. وهنا يصور السارد بعضا من ميثولوجيات ما يؤمن به البدو؛ فهم حين لا يجدون علاجا ناجعا لأمراضهم وأمراض حيواناتهم، يمارسون هذا الطقس الشعائري في التداوي الجسدي، معبرين بذلك عن طبيعة تعايشهم الروحي مع البيئة الصحراوية. ويعد الحلم جزءا رئيسا من طقس التداوي ولذلك كان واجبا على اوخيد المبيت عند الضريح وبالفعل بات، ورأى في المنام أن سيلا يأتي في الليل ويجرف الأبلق ويبتلعه. وما أدهشه هو أن الماء داكن وفيه (شياطين يشدون مهريه من ذيله إلى أسفل عازمين أن يرموا به في هاوية ظلماء. أفاق من نومه ورأى الوهج الأول يشق ظلمات الفجر)(8) وكان واجبا أن يجد من يفسر له الحلم. والتفسير هو جزء آخر من أجزاء طقس التداوي الذي ساهم في تصعيد درجة المتخيل الحيواني. ويجد اوخيد التفسير عند أحد العارفين ومفاده أن يقوم برحلة إلى سدرة المنتهى، فيها يكون الشفاء بالجنون لكن الأبلق لا يقبل بذلك، تأكيدا لاستقلالية الحيوان وأن له أن يختار مصيره. وأدرك اوخيد أن الأبلق يفضل الموت على الاستمرار بالمعاناة في هذه المحنة. ويصور السارد العليم هذه المحنة ممزوجة بقسوة الصحراء (رغى بصوت فجيع أليم أحس اوخيد بالوخزة في قلبه.. اصبر اصبر الحياة هي الصبر.. ولكن المهري لم يصبر اشتكى بصوت عال اليم آ آ آ تردد الصدى في القمم المعزولة في الفلاة الأبدية)(9) وتجري مطاردة حامية، بطلاها اوخيد والحيوان المجنون. وفي ذروة انهيار الأبلق لم يتخل اوخيد عنه لأن ما بينهما هو عهد وفاء أبدي (التحم الجسد بالجسد واختلط الدم بالدم في الماضي كانا صديقين فقط اما اليوم فإنهما ارتبطا بوثاق أقوى بالدم. إخوة الدم أقوى من إخوة النسب)(10) وخاتمة المطاردة أنهما سقطا في بئر من آبار الصحراء. وهنا يظهر الشيخ الحكيم فيقول: إن كل شيء سيعود إلى الأصل، في إشارة إلى أن الفطرة هي القانون الأول الذي يحكم علاقة الإنسان بالحيوان فيستبشر اوخيد خيرا ويخاطب رفيقه (ستعود أبلق كما كنت ألا يسرك أن ترى نفسك أبلق جميلا نادرا. اغرورقت عينا الأبلق بالدموع فاحتضنه اوخيد. مكثا طويلا متعانقين في المدى الأبدي قبل أن يتكاثف المساء)(11).
وإذا كانت الرابطة الروحية بين الإنسان والحيوان في رواية (التبر) قد جسّدت عهد الوفاء كقيمة أخلاقية من قيم التآلف مع البيئة الصحراوية، فإن رواية (ناقة الله) للكاتب نفسه جسدت قيمة أخلاقية مضادة هي خيانة العهد. وبطلة الرواية ناقة اسمها تاملالت تربطها بالبطل علاقة عاطفية قوية تنسيه أن الناقة حيوان فكان يعاملها معاملة خاصة (لم يجد لنفسه مخلوقا يفهم له منطقا غيرها.. وقد أنساه منطق المخلوق الذي يسميه أبناء الصحراء ناقة كل منطق آخر أنساه منطق الأنس والجن والطير)(12) والقاسم المشترك بينهما أن لا هوية تفصل بينهما(هو سعيد بهوية اللاهوية في حين تبدو سعيدة في وجودها في برزخ اللاهوية فإنكار الهوية وحده ضمان الحرية)(13) لكن للبيئة الصحراوية نظامها الذي يوجب على الإنسان والحيوان الخضوع له. وبسبب قوة العلاقة بين الناقة وصاحبها يجد الأخير نفسه أمام مفارقة ساخرة لكنه ملزم بقبولها وتتمثل في خيانة ناقته من أجل أن ييسِّر عليها حياتها. وأحست الناقة بما يدبره لها (كانت تقتفي خطاه كالعادة ولكنه لاحظ كيف تتفحصه بإيماء مريب هذه المرة كأنها أدركت انه يخفي سرا)(14) فتودد إليها واستسمحها مرارا، مرددا إنه لم يفعل ما فعل إلا لتحريرها من الألم. ولقد اعتاد البدو مسايرة النظام الطبيعي ولكن عمق معرفتهم بهذا النظام جعلتهم يكتسبون خبرات متنوعة ومختلفة، ساعدت في تسهيل مصاعب حياتهم وقد تكون في أحايين كثيرة على حساب حيواناتهم. وكان البطل على دراية بتلك الخبرات وبدروس الصحراء وأولها التحمل والصبر (احترف الصمت لأن الصحراء شجعته على الصمت وعندما شاركه تاملالت الصمت استمرا الصمت فكانت بينهما ترجمانا للألسن)(15) ومن دروس الصحراء أن للإبل طباعا، على الإنسان أن يحذر منها وأن الإبل تؤمن بأن في دماء أهل الصحراء تجري دماء الجن. وبهذا يتساوى البشر والإبل في معرفة أحدهما بالآخر. وهو ما يصب في صالح التكيف البيئي مع الصحراء و (لم تكن لتنطلي عليه، لأنه أعلم بها من نفسها كما كانت هي أعلم به من نفسه. إنها الصفقة المتبادلة التي تجعل من الخداع عملا مستحيلا للقطبين)(16) واستقلال الناقة هو نتاج ما تملكه من عقل يفكر تماما كالإنسان( يستطيع أن يعترف لها الآن بالبطولة لأنها تألمت بصمت وتصدت للداء بشجاعة، أهلتها لأن تكون إنسانا في حين حطت منه البلبلة ليدب على الأرض حيوانا)(17).
ولأن الشعور بالخيانة ممض، قرر البطل هجرها، ولكنها بالنسبة إليه هوية وطن ولا ملاذ له من دونه، لذا عاد إليها وطلب الغفران منها فهي ناقة الله وعليه أن يحبها كما يحب نفسه ويعنيها على محنتها بدل أن يرتكب في حقها آثاما، فالرباط بينهما ليس جسديا حسب، بل هو روحي ومن الواجب أن يصون هذا الرباط وإلا فإن الضياع مصيره كما ضاع من قبله قوم صالح حين عقروا الناقة.
إن ما جسّده إبراهيم الكوني في روايتيه (التبر) و(ناقة الله) يمثل مرحلة متقدمة في توظيف السرد البيئي والاستعانة بالمتخيل الحيواني في تجسيد البيئة واستثمارها سرديا بكل ما فيها من حيوات وموجودات.
الهوامش
(1) Corinne, Donly, Toward the Eco-Narrative: Rethinking the Role of Conflict in Storytelling, Humanities journal, 6(2), 2017, P21- 43.
(2) Herman, David, Creatural Fictions Human - Animal Relationships in Twentieth- and Twenty-First-Century Literature, Palgrave Macmillan, First published, UK, 2016, p 2-3.
وكتب هيرمان مقدمة الكتاب تحت عنوانه (أدب ما وراء الإنسان Literature beyond the Human)
(3) التبر رواية، إبراهيم الكوني، بيروت: دار التنوير للنشر، ط3، 1992، ص14.
(4) الرواية، ص26
(5) الرواية، ص22
(6) الرواية، ص63-64
(7) الرواية، ص20
(8) الرواية، ص30-31
(9) الرواية، ص35
(10) الرواية، ص46-47
(11) الرواية، ص59
(12) ناقة الله رواية، إبراهيم الكوني، بيروت: دار سؤال للنشر، ط1، 2015، ص14-15
(13) الرواية، ص16
(14) الرواية، ص18
(15) الرواية، ص24
(16) الرواية، ص47
(17) الرواية، ص51