
يتساءل المرء، حين ينتهي من قراءة رواية "الحرب في الشرق" الروائي د. زين عبد الهادي: هل هي سيرة الطفل أم سيرة أمه زينب، أم سيرة مدينة بورسعيد؟ بورسعيد التي أهدى الكاتبُ روايتَه لها فقال في عتبة الإهداء: "من أجل شهداء قناة السويس ومدنها، ومن أجل شهداء مدينة بورسعيد الصغيرة (مدينة عموم القناة)، (بوابة الرشق)، و(المدينة الباسلة) التي احتضنت الجميع وعانت كثيرًا مِنْ كُلِّ مَنْ أحبَّها ومِمنْ لم يُحبها". متمنيًا أن يعود لها حقُّها وقيمتُها التاريخية كمدينة مصرية ذات صبغةٍ عالمية من أجل الإنسانية كلِّها في يومٍ قريب.
وهو يذكرُ في إهدائه كلَّ الحروب المعاصرة التي راح ضحيتها الملايين، بما في ذلك ضحايا شقِّ قناة السويس التي افتتحت في 17 نوفمبر سنة 1869، وكأنها كانت حربًا من نوع آخر، وصراعًا مع الحفر والسوط والتراب والماء والجوع والإهانة، راح ضحيته 120 ألف مواطن مصري.
زين عبدالهادي لم يكُنْ يتخيلُ، ولم يكنْ يوثِّقُ وهو يكتب روايتَه، بل كانت روحُه هي التي تكتبُ من أجل مدينته الباسلة، لذا نرى تقنيات روائية تتناسب وحالة الفقد والحنين (نوستالوجيا) والشجن والأنين، وكأنه يعزف على ناي الوجع والألم والبكاء، وينزفُ شعرًا، فنرى حالات شعرية وغنائية تعلو فضاء النص الروائي على مدى فصوله السبعة والعشرين، بداية من فالس حبيب الروح في مواجهة فصل الشتاء ذي المذاق المختلف عن شتاءات العالم، إذْ يتكاثفُ الضبابُ كل صباح، وينطلقُ سريعا كفارسٍ قديمٍ مُتسلقا البيوتَ والقبابَ، فتتراءى روح العالم القديم، وتنبعث الحضارات المتوسطية من فرعونية وإغريقية وفينيقية وبدائية، كلها تركضُ في مباراة حماسية تُثبتُ فيها ولاءها لهذه الشطآن والشوارع، بينما على الأرض تتجمعُ قطراتُ المطر، مُعلنةً عن موسم جديد للشتاء.
نحن إذن أمام بداية روائية شعرية حالمة، تحاول أن تستحضرَ روح العالم في كفِّها، فنشعر بعالمية تلك المدينة بل بكونيتها، على الرغم من حداثة عهدِها نسبيًّا.
لعل البداية بضمير المتكلم على لسان الطفل في "الحرب في الشرق" تذكرنا ببداية رواية "السراب" لنجيب محفوظ حيث يتحدث الطفل كامل رؤبة لاظ، مع اختلاف موضوع الروايتين اختلافًا بينًا، بطبيعة الحال.
للأغاني والألحان والموسيقى والألوان، حضورٌ طاغٍ في الرواية، ومنذ الفصل الأول نرى الفونوغرافَ الذهبي ذا الفوهة التي تشبه ميكروفونًا يدويًّا كبيرًا، والذي كان يصدح بأغنيات من اليونان وأمريكا وبريطانيا وإيطاليا، ما يشي بعالمية المدينة البحرية وانفتاح أهلها على الفنون المختلفة والبلاد المتنوعة، كأنها نزعت البساط من تحت أرجل مدينة الإسكندرية، هذا عدا أغاني عبدالوهاب ومحمد فوزي وفريد وليلى مراد وأسمهان وأم كلثوم وحورية حسن، ما يؤكد الشعور الإنساني ورهافة أحاسيس ومشاعر تلك المجموعة من البشر التي ستعاني الأمرين بعد ذلك، جرَّاء الحرب على الشرق، أو الحرب في الشرق.
وفي الوقت نفسه نرى انفتاح تلك الأسرة على جيرانها من الجنسيات المختلفة، فالجار ينِّي يوناني يبيع الورد، تعوَّد أن يُهدي أسرة السارد، أسطوانات بعد عودته من أجازته التي يقضيها في أثينا. والأسطوانات كانت هي المعبر أو الحامل أو الوسيلة التي يتعامل بها الناس للاستمتاع بالفن وقتها. وليست الأغاني وحدها هي التي تجذب الأب والجدة وبقية أفراد العائلة لعالم الفنون، ولكن أيضا السينما، وخاصة سينما الأهلي القريبة من البيت، وأفيشات الأفلام.
على هذا الجو، أو على هذا النحو، نشأ الطفل منذ أن كان جنينًا، لأم فنانة، تعلمت الرسم والموسيقى والتلوين والتنغيم، وعملت في أحد مصانع الشاي، وفضَّلت أن تتزوج حبيبها محمد – الذي يصغرها بخمس سنوات - على أن تمضي قُدمًا في حياة الفن والغناء الذي كانت تجيده تماما وتُطرِب كل من يستمع إليها. لقد فضلت حبيبها على الضابط الذي تقدَّم لها. فضَّلت زينب الحبَّ على الاشتغال بالفن، وعاشت حياتها في ضنك مادي استعاضت عنه ببث روح الحب والفن والحنان في زوجها وأفراد عائلتها، وصار شعارُها في الحب والفن هو أغنية "حبيب الروح" لليلى مراد، بل أطلقت هذا المسمَّى على زوجها، فهو "حبيب الروح" الذي يعمل في مصنع الغزل والنسيج والذي يتمتع بحسٍّ أدبي وجمال روحي، والذي يكتب الروايات والقصص القصيرة، ولكنه لا ينشرها، مفضلا أن يحتفظ بها في أعلى رفٍّ في الدولاب.
لم تكن زينب لطفلها السارد وبطل الرواية – ولأولادها الآخرين - مجرد أم، بل ملاكا كامل الأوصاف في الوداعة والجمال، لم ينل من جمالها الخلاب المطرُ والشمسُ. اختـارت أن تكـون أمًّـا بصـوت جميـل. تُغنـي له ولحبيب روحها وأولادهـا، وفي أفراح بعض صديقاتها ومعارفها.
وعلى هذا يتمحور الفصل الأول الذي يشعُّ جمالا وحنانًا وحلمُا وفنَّا وحُبًا وسعادة، يجعلنا نحزن ونتحسر وننقم ونتأسَّى ونبكي على روح تلك المدينة، عندما تحلق طائرات العدوان الثلاثي وترمي قذائفها وحرائقها عليها وعلى شعبها المسالم المحب للحياة. إنه الشرق الروحاني الصوفي الإنساني تحت قصف عدو غاشم عنيف لا تهمه سوى الماديات والأرباح التي يجنيها من قناة السويس، وعلى الرغم من عدم ارتياحي أو تأييدي لعنوان الرواية "الحرب في الشرق" كعنوان مباشر وتقريري فإنني أراه مناسبًا لتوصيف الحالة، فهي حرب على – وفي - الشرق، وعلى كل هذا الجمال المتجسِّد في شخصية "زينب". إنه عدوان وحرب على زينب نفسها، بكل ما تمثله من قيم نبيلة وأخلاق رفيعة، وعطف وحنان وفن وحب لا نهاية له تحمله لأفراد أسرتها الصغيرة التي ترمز لمصر كلها في تلك الآونة.
تحاول بقية فصول الرواية، استعادة تلك اللحظات الإنسانية الجميلة التي كان عليها الطفل في منزله ببور سعيد. إنها نشيدُ الحنين، والذكرياتُ المبلَّلةُ بالشهد والدموع، التي تجذب الراوي ليحقق ذلك التوازن النفسي بعد أن تغير كل شيء في الحياة جرَّاء الحرب والتهجير والانتقال من عالم إلى عالم، ومن حال إلى حال.
وهكذا تكشف الرواية عالم ما وراء الحرب، أو ما تخلِّفه الحرب من مآسٍ وجراح وتفكك وانهيار، وفي الوقت نفسه تكشف روح التحدي والتصدي الكامنة في البشر. إن الرواية لا تتحدث حديثًا مباشرا عن الحرب، مثلما رأينا في رواية "عاصفة على الشرق" للروائي السعودي د. نبيل المحيش – على سبيل المثال - والتي تتناول الواقع السياسي العالمي الآن، عن طريق عدد محدود من الشخصيات تكشف عمَّا يمور به الفكر السياسي وما يُدبر للشرق الأوسط من مخططات وسيناريوهات تهدف أولا وأخيرا إلى الحفاظ على أمن إسرائيل وأمانها، ورغبة الدول الكبرى في الشرق والغرب في تقسيم الكعكة العربية الكبرى على بعضهم البعض، كل حسب قوته و"فتونته" وما يملكه من أسلحة فتاكة وقنابل ذرية ورؤوس نووية وأساطيل بحرية تعربد في المياه الإقليمية العربية.
"الحرب في الشرق" لا تتحدث عن هذا، على الرغم من أن هذا الأمر بالتأكيد لا يبعد عن فكر الراوي أو السارد العالق بين الذكريات والأحلام، والحنين والأوهام، أو عن فكر المؤلف نفسه زين عبد الهادي، ولكن أرى أنها - أي "الحرب في الشرق" - معنية بالجانب الإنساني الذي تخلِّفه الحروب جرَّاء القصف والفتك والقتل والدم والدمار والخراب، ومحاولة القضاء على الروح الإنساني النبيل والجميل، كما رأيناه في زينب وجدة الطفل الراوي، وأبيه. وبالتالي فلا مجال للمقارنة بين الروايتين: "الحرب في الشرق"، و"عاصفة على الشرق" رغم تشابه العنوانين.
لم يلجأ الكاتب إلى السرد التقليدي الخطي المعتاد، بل استثمر في تقنية تشظي الزمن، أو اللعب بالزمن تقدمًا أو تحركًا إلى الأمام (Moving Forward) ورجوعًا إلى الخلف أو الاسترجاع (flash back)، وتحولات المكان، فمن مساكن عمال مصنع الغزل والنسيج في "القابوطي" والتي تتكون من طابقين، إلى شقة ضيقة (مساحتها ستون مترًا فقط، يسكنها ثلاث عائلات في ثلاث غرف وحمام مشترك) بالمساكن الشعبية في حي العرب (هذا الاسم الذي قد تكون له دلالة رمزية، رغم وجوده الواقعي في المدينة) تسلموها من حكومة الثورة، يتكوّم فيها جميع أفراد العائلة بما فيهم الجد والجدة (أو سيدي وستي) والعمة أمينة وأولادها وكراكيبها، وكأنه نوع من التعذيب الجماعي الذي يستمتع به الإنجليز.
من المتوقّع أنه في مثل هذه الأجواء، وتكوِّم الأجساد على الأجساد، أن تنتشر الرذيلة وتعاطي المخدرات والعلاقات الجنسية، كما لاحظنا في روايات أخرى تحدثت عن الأحياء الشعبية وازدحام المساكن والشقق بالكتل البشرية، كما رأينا في روايات مصطفى نصر، وخاصة في سنوات التهجير، كما رأينا في رواية "الخروج" للكاتب محمد عبدالله عيسى، وهي أيضا عن خروج أهالي مدن القنال للمحافظات المجاورة بعد 1967. وغيرها من الأعمال التي تناولت تلك الحقبة مثل ثلاثية الخروج والتكوين والرؤية لماجد موريس.
ولكن كاتبنا زين عبدالهادي لم يدخل من هذا الباب، فالسارد يرى أن هذا البيت الجديد يضجُ بحياةٍ لا حدود لها، وموتٍ ينتظرُهم في كُلِّ خُطوة. ودواعي الموت كثيرة، منها الحرب القادمة، ومنها البؤس والشقاء والمرض وكثرة الذباب الذي يهجم عليهم، وكأنه معادل موضوعي للأعداء، ومع هذا لم يقدم لنا السارد مشهدًا خارجًا أو منافيًا للآداب. ولا أدري أهذا يحسب للسارد، أم يحسب عليه؟
ومن أمثلة اللعب بالزمن، أو الجمع بين زمنين في عبارة واحدة دالة، لها بعدها الرمزي ذي المغزى السياسي قول السارد: "عجلات ماركـة نصر التي صنعهـا عبـد الناصر في المصانع التي فتح أبوابها على مصراعيها للشـعب، أُغلقـت جميعهـا بعـد ذلـك في زمـن آخر". ليفتح السارد بذلك قوسًا للمقارنة بين عصرين أو بين زمنين.
لقد عانت تلك الأسرة أو تلك الشريحة المصرية في بور سعيد من متاعب الحياة من حكومة الثورة ثم الحرب في الشرق، ففي أثناء انتقالهم من القابوطي إلى المساكن الشعبية كانوا يسيرون رافعي رؤوسـهم المنهكـة مـن التعب والمـرض والحر والفقـر والروماتيزم والتهاب المفاصل والرطوبة التي اخترقت أجسـادَهم جميعا دون اسـتثناء.
ولعل عبارة "رافعي رؤوسهم" تتواءم مع صيحة الزعيم وقتها: "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"، ولكنَّ هذه الرأس المرفوعة مجازًا منهكةٌ من التعب والمرض والحر والفقر والرطوبة، فكيف ستُرفع في عزةٍ وكرامة وإباء وشموخ كما رغب أو كما نادى الزعيم؟ إنه رفع يوازي الخفض أو الانحناء يذكرني بكلمات سبارتكوس الأخيرة لأمل دنقل:
مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ
وجبهتي بالموتِ مَحنيَّهْ
لأنني لم أَحْنِها.. حَيَّهْ!
وكأن هذه المجموعة من البشر الذين يسيرون رافعي الرؤوس المنهكة في بورسعيد، هم الذين يخاطبهم أمل بقوله:
يا إخوتي الذينَ يعبُرون في المِيدان مُطرِقينْ
مُنحدرين في نهايةِ المساءْ
في شارِع الإسكندرِ الأكبرْ
لا تخجلوا.. ولترْفعوا عيونَكم اليّ
لأنكم مُعلَّقونَ جانبي.. على مشانِق القيصَرْ.
إنها المدينة الباسلة التي قال عنها الراوي: "مدينة كان نصفها ينتمي للبحر المتوسط وللعصر الملكي، والنصف الآخر ينتمي للعوز والفقر والعصر الثوري".
من يقرأ سيرة السارد الطفل، يكتشف أننا أمام طفل ذكي لمّاح خبر الحياة عن طريق جولاته وتجواله ورحلاته - وهو في الرابعة من عمره - مع جده الأمي على عربة الخضار الذي يحفظ من الشعرِ عشرة آلاف بيت، ومن أحاديث الإمام محمد عبده الكثير، ويحب أم كلثوم وعبد الوهاب وصوت زينب حين تغني. وهو يقول عن تلك الجولات والرحلات: "لقد كانت تلك الرحلاتُ العجائبيةُ ممتلئة بكل ما يخطر على البال من الأعاجيب المدهشة".
لقد كبر الطفل وأصبح أستاذًا جامعيًّا، ولكن أشباح الموتى وصورة عزرائيل تطارده في كل مكان، كانوا يخرجون له من بين أشجار الغابات الكثيفة، ومن بين قمم الجبال التي يتلبسها الجليد، من قلب الكهوف الغائرة في الصخر، أو من تحت السطح المتجمد في القطب الشمالي، أو فوق أمواج البحار والمحيطات، في الحانات الدافئة في كل المدن، من تحت مظلات مقاهي أوروبا، من خلف زجاج محلات الهدايا التذكارية والألعاب وزجاجات العطور والخمور، فوق طاولات مطاعم الأكلات البحرية، من باحة كنيسة مونمارتر في باريس أو كاتدرائية روتشستر في لندن القديمة الشاهقة الارتفاع، من الحصون والقلاع التي تعود للعصور الوسطى.
هنا نرى رؤية أخرى للعالم وللأشياء، ونرى صعودًا لفكرة العالمية التي كانت متجسدة قبلا في مدينة بور سعيد، لتتسع الرؤية وتتخطى المدينة الصغيرة وتحلق في سماء العالم الغربي، ولكن البذرة تكون دائما من مدينة الرشق، ليعود السارد مجددا إلى طفولته، ويحكي لنا عن تلك الأشباح التي تيقنت جدته في يوم من الأيام أنه يراها وأنها تحلق على الحائط، بعد أن قالت له: "يا وله. أنت مش ها تبطل التهيؤات دي؟!".
إنه لم ينس أن يحكي لنا عن شقيق جده، وعمته أمينة وأزواجها المصريين والأجانب (وهي في الحقيقة عمة أمه وأخت جده) التي تمتهن مهنًا غريبة مثل بيع الروبابكيا، والتي كانت تمتلك خاصية لا تمتلكها سوى الثعابين، فهي لم تكن تُغلق عينيها أبدا. كانت عيناها بلا رموش، سقطت الرموش بفعل الزمن والبؤس والرمد المتكرر الذي لم تعالجه قط إلا بكمادات الشاي الساخن، كما أنها كانت دائمة الركض في الشوارع بحثًا عمَّا يسد أفواه أطفالها السبعة. فهي لم تشعر أبدًا بالمعنى الحقيقي للزواج سوى إنجاب الأطفال.
وهكذا ينتقل بنا السارد من زمن إلى زمن، ومن شخصية إلى شخصية، ومن مكان إلى مكان، فمن 1910 إلى 2020 (أكثر من قرن من الزمان). في كل يوم تراوده الذكرى ويهيمن الحنين للعودة إلى موطنه الأصلي بورسعيد، العودة إلى شاطئ البحر، هروبا من القاهرة التي استقر فيها فيما بعد، ويشبِّه العودة أو الزيارة بأنها حجٌّ من نوع خاص حيث تتساوى هذه الفكرة والوجود في تلك اللحظة، ولا يمكن الهرب منها، ولا مراوغتها، إنها تقبض على الروح فلا يجد منها فكاكا.
وأثناء الذهاب بالقطار ينفتح دفتر الذكريات، وينهمر شلال المرئيات، حيث تبدأ الحياة في بورسعيد من عام 1869 مع افتتاح قناة السويس، تلك المدينة التي بُنيت على عجل، والتي أصبحت لؤلؤة الرشق، والتي أضحت مركزًا لحروب طويلة مرَّ بها العالم في النصف الأول من القرن العشرين، وأصبحت تمثل مقبرةً ومسجدًا وكنيسةً ومعبدًا لكل أرواح السكان في الألم، إنها رمز للإنسانية في مواجهة عذاباتها وبهجتها وآلامها وبسمتها.
وهنا أتذكر قول أحمد شوقي لابنيه (علي وحسين) في كتابه "أسواق الذهب" عن قناة السويس أثناء عبورهم فيها من ميناء السويس إلى منفاه بإسبانيا عام 1915: "القناة، وما أدراكما ما القناة؟ حظ البلاد الأغبر، من التقاءِ الأبيض والأحمر؛ بَيَد أنَّها أحلام الأُوَل، وأماني الممالكِ والدول، الفراعنة حاولوها، والبطالسة زاولوها، والقياصرة تناولوها، والعَربُ لأمر ما تجاهلوها؛ إلى أن جرى القدر لغايتِه، وأتى إسماعيلُ بآيته، فانفتح البرزخُ بعنايته، والتقى البحران تحت رايتِه، في جْمع من التيجان لم يشهده إكليلُه، قد كن يُتوِّج فيه لو شهِدتْه جيوشُه وأساطيلُه؛ وما إسماعيل إلا قيصر لو أنَّه وفِّق، والإسكندر لو لم يُخفِق؛ تَرك لكم عزَّ الغد، وكنز الأبد، والمنْجم الأحد، والوقفَ الذي إن فات الوالد فلن يفوت الولد".
إن السارد يستدعي فناني العالم مع أبيه وأصدقائه في مصنع الغزل والنسيج، ليضعوا اللمسات الأخيرة على صورة بورسعيد متمثلةً في صورة عروس البحر النائمة في دلال على الشاطئ، محلاة بالأصداف، جدائل شعرها المسترسل. وهنا تبدو ثقافة السارد التشكيلية، ولكن المخربين لم يتركوا هذا الجمال على حاله. فقد تعرضـت حوريـة البحـر الصغيرة عـدة مـرات للتخريـب. فقـدتْ رأسـها مرتين، بمجـرد أن تـم قطـع ذراعهـا، وسُكب عليهـا الدهـان عـدة مرات ولكـن في كل مرة يتم إنقاذُها واسـتعادتُها، حتى تتمكـن مـن البقـاء في مكانهـا بجـوار المـاء كي ترحـب بالمسـافرين.
إن عروس البحر هنا هي المعادل الموضوعي لمدينة بورسعيد نفسها.
هكذا يكون التآمر على محو الجمال في تلك المدينة، إن لم يكن محوها هي أيضا، ولكن في كل مرة يقف المخلصون من أبنائها وعارفي قدرها وفضلها للدفاع عنها وعن جمالها المتفرد.
وتنهمر الذكريات، ويمر شريط الأزمات ما بين موت وحياة، ويستعيد السارد أيام صباه، التي هي أيام المدينة نفسها بحلوها ومرها، بحربها وسلمها. ويعيد علينا حكايات 1956 بعد قرار التأميم الشهير الذي اتخذه الرئيس جمال عبدالناصر في خطابه يوم 26 يوليو في المنشية بالإسكندرية. وهو قرار يعادل ميلاد السارد نفسه (يُذكر أن الكاتب ولد في 1 ديسمبر من عام 1956) بعد أن احترق بالكامل حي العرب، وبعد أن احترق جزء كبير من حي المناخ، وبعد أن فعلت قنابل النابالم الحارقة مفعولها.
في مثل هذه الأجواء، تلد زينب الساردَ في مياه الكنال، ليصرخ الجميع من مشهد بقعة مياه البحر التي تحولت للون الأحمر حولها الذي فرشته الدماء، وهكذا كان أول ما تذوقه السارد من الحياة تلك المياه الحمراء المالحة، ويظن أنه رأى جنيات صغيرات في تلك اللحظة، التي حاول أن يفتح فيها عينه في الماء.
هذا التماس بين ميلاد السارد، وميلاد الكاتب، على الرغم من اختلاف الاسمين (سيد وزين)؛ يوحي لنا بأن العمل فيه الكثير من السيرة الذاتية للمؤلف، وأن الرواية تدخل في نطاق السيرة الذاتية للكاتب، فضلا عن أنها سيرة أيضا للمدينة نفسها.
هذا التشابك أو التشابه بين السيرتين، يشكل حالة إبداعية غنية بالمؤثرات والتجاذبات الإنسانية، ثم هذا التشابك أو المقارنة بين خروج رائد الفضاء الأمريكي أرمسترونج وزميله باز ألدرين، من الجاذبية الأرضية ليصلا إلى سطح القمر – عن طريق المركبة الفضائية أبوللو 11 - ويمشيا فوقه عام 1969 بينما يتحرك السارد – في عشوائية وفوضى - مع صديقيه الكبيرين خارجين من بورسعيد كلها، بعد حرب 1967 وما تلاها من حرب الاستنزاف، لها دلالة كبيرة؛ إلى أين يسير العالم المتقدم، وإلى أين يسير الشرق الأوسط المتأخر، في حروبه وفجائعه وعدم استقراره وعدم أمانه وأمنه؟
سنجد عربات الكارو وماكينة الخياطة السنجر والموتوسيكل، في مقابل المركبة الفضائية، سنجد التفكير العلمي مقابل العشوائية والفوضى، سنجد الهجرة إلى الماضي وسط ضباب الرؤية، مقابل الهجرة إلى المستقبل وسط نصاعة الأحلام البشرية للوصول إلى اكتشافات جديدة في الكون، سنجد رواد الفضاء المتجهين نحو القمر، مقابل الطيارين الذين يقذفون بالقنابل العنقودية والنابالم، الشعب المصري العربي في بورسعيد، وغيرها من المتناقضات والأضداد بين العالَمين.
وهكذا تستمر رحلة الحياة، ويكبر الصبي السارد، ويرسم العصافير ويحرك الطائرات الملونة، على الرغم من اختناق الهواء. إنه يحب الحياة، مع أنه لم يترك شيئا لم يكرهه في العالم، فلا يستحق هذا العالم أي ذرة حب داخله. ولكن العبارة التي صرَّح بها رائد الفضاء الأمريكي أرمسترونج وهو على سطح القمر: "هذه خطوة صغيرة لإنسان، لكنها خطوة عظيمة للإنسانية" كان له مفعول السحر، لقد استطاع أن يحتفظ بتلك الجملة، التي كانت تعني له الكثير في حياته بعد ذلك.
كان آرمسترونج يتحرك بقدميه على سطح القمر، بينما السارد يتحرك مع صديقيه الكبيرين خارجًا من بورسعيد كلها، بورسعيد كوكبُه الحزين، مُتشحًا بصوت غناء ليلى مراد: "يا أعز من عيني .. جلبي لجلبك مال" الذي كانت تردّده إحدى قريباته في المستشفى، تناغمًا أو تجاوبًا مع فالس "حبيب الروح" في بداية الرواية، وما بينهما كانت أغنية شادية من كلمات مجدي نجيب وألحان بليغ حمدي: "قولوا لعين الشمس ما تحماشي، أحسن حبيب القلب صابح ماشي".
أحمد فضل شبلول: شاعر وروائي من الإسكندرية بمصر. له 65 كتابًا مطبوعًا في الشعر والرواية والدراسات الأدبية والنقدية وأدب الأطفال وأدب الرحلات والمعجمية العربية. حصل على جائزة الدولة للتفوق في الآداب عام 2019 وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 2008.