أيلول/سبتمبر 12
   

   تكاد تكون رواية "المدعو إلى مساء السيدة" هي الأكثر راديكالية ضمن نتاج (علي بدر) الروائي في نظرته للتاريخ مثلما هي نظرته لجنس الرواية. بدر الذي عود قارئه على موجهات محددة تقنية ودلالية تحكم نتاجه السردي، ذلك ما يصرح به، بأنه استيعاب لاثر موجات ما بعد الحداثة في الكتابة الروائية من تلك الموجهات اهتمامه بالدراسات الثقافية، مدخله المفضل للولوج إلى عوالم السرد وليست الحكاية من تغريه بداية، فالمحاكاة لديه تأخذ بعدا تدنيسيا ساخرا بينما يبرز النسق النقدي الأدبي والثقافي جليا، فتعد رواياته بذلك ناقدة وشارحة قبل أن تكون أدبية بمفاهيم الاداء اللغوي والوظيفة الجمالية. ويظهر الراوي في اغلب سردياته لا أدريا أو عدميا تجاه مرجعيات الخطاب الاجتماعية منها الدينية والاخلاقية، نظرة رواته للحب والمرأة والجسد يشوبها التكرار، ولا تتعدد بتعدد رؤى الشخصيات والبيئة والأحداث، وإذ لا يصح عند دراسة فنون المتخيل أن نعكس ايديولوجيا الراوي على قناعات المؤلف ذلك ان تقنية التكرار ما يشي بهوية سردية نصية جامعة لنصوص المؤلف، وقد بلغت ذروتها في هذه الرواية الصادرة عن دار الكا العراقية 2022 والتي سأجيب عن سبب وصفي لها بالراديكالية؟

النص التأسيسي للرواية هو مسرحية "في انتظار غودو" (لصاموئيل بيكيت) المضمون هو العطالة والخمول من وجه ثان. الانتظار العبثي بما يحمل من دلالة غياب للفعل وعدم اكتراث بالزمن الحاضر وتشكيل وهم جماليات الزمن الاتي، انزياح أول من الرواية إلى المسرح ومن فن الكتابة النخبوي إلى الفنون الشعبية ومنها الدراما المسرحية، فقد قدمت القصة من خلال تبادل الحوارات الشفاهية من البداية وحتى النهاية وحوارها ليس عبثيا على شاكلة مسرح اللامعقول بل بالضد تماما جاءت الحوارات واضحة ومباشرة وذات طابع سجالي مع ملاحظة المكتوب على صفحة غلاف النص عبارة "جورنال ليوم واحد في" احالة مباشرة على الصحفية الحجاجية الواضحة. الراوي وهو الشخصية الرئيسة.. رجل اربعيني من اب عراقي يساري وأم روسية، هوية الرجل هجين من ثقافات عدة على شاكلة شخصيات المؤلف الذكورية في رواياته السابقة ليست بالشرقية ولا الغربية، يعمل الراوي صحفيا غادر العراق هربا من نظام البعث الذي يتهمه وعائلته بالانتماء للحزب الشيوعي، يعيش الرجل غير المسمى رحلة اغتراب عن البيئة والثقافة العراقية يجوب اصقاع العالم مرتحلا باحثا في تلافيف وعيه المحبط عن فكرة يكتبها وامرأة يغازلها وكأس يتناوله "ابقى الليالي ساهرا في صوفيا حيث رائحة المطاعم التي تذكر باسطنبول، السكارى في محطات القطارات، المرأة التي ودعتني، السلم المليء بالزهور في أمسيات بودابست قالت أنت تسافر كثيرا ومن يسافر كثيرا يذكر بماركو بولو"/24، يدور الكلام عن ماركو بولو وكتابه الشهير في أدب الرحلة، فالرواية من هذا المدخل سياحة أدبية في دول البلقان والتي تتشابه ظروفها السياسية والاقتصادية مع بلدان الشرق الأوسط. سيدة الرواية التقاها الراوي في رحلاته إلى رومانيا وعاش معها قصة حب، المرأة بالأحرى عشيقته، لربما واعد المدعو السيدة في المقهى أو توهم ان هناك موعدا بينهما؟ وظل ينتظر حضورها حتى النهاية ولم تأت! تبقى للمواعدة الغرامية ومكان الانتظار المقهى دلالة رئيسة يتحرك مؤشر النص قريبا أو بعيدا عنهما فالأوهام والكتب والايديولوجيا تطوح بالشخصيات بعيدا نحو تاريخ قادم مختلف لا يحمل قبحيات الزمن الحاضر بينما التحقق الواقعي لا يعدو امتلاء الحواس بالحب واستمرار الهذيان في المقاهي. أعد علاقتهما الراوي والسيدة تمثيلا لعلاقة الشرق بالغرب وعلاقة اليسار العربي بنظيره في أوربا الشرقية وروسيا.

في حالة غياب السيدة عن الحضور يتبادل الراوي الأحاديث مع صديقيه جان بيير وهاني، كلاهما يساريان، كان لهما نشاط سابق في المنظمات اليسارية المسلحة وباتا الان متقاعدين، يسلي الراوي نفسه معهما بالنقاشات السياسية وحكايا الشعراء والفنانين، نقاشات متواصلة من دون وجود حكاية تذكر، فالحكاية قرينة ذاكرة ومخيال المقهى ورواده من المثقفين المتقاعدين عن العمل والذين يعتاشون على تبادل الاراء والاتهامات بينهم عن اليسار واليمين، الغرب والشرق، الزعماء والنساء والكتب.

  وإذ يسترجع الراوي بداية علاقته بالسيدة يعيد صياغة أحاديثهما المتواصلة عن مآلات الفكر اليساري وسيرة قادته منذ لينين مرورا بستالين وغوربتشاوف ويليسن حتى بوتين رجل روسيا الحاضر والاتي والذي يبتغي اعادة امجاد الاتحاد السوفيتي، ويرجع العالم إلى توازن القطبين بعدما شوهته احادية القطب الغربية بزعامة أمريكا، وبما أن الراوي قابل السيدة في رومانيا فقد جرى الحديث بينهما عن دكتاتورية تشاوشيسكو ودرجة الشبه بين حكمه ونظام صدام في العراق قبل سقوط الأول 1989.

دارت الأحاديث بينهما عن شخصيات فكرية وأدبية روسية، فضلا عن السياسيين، من أبرز تلك الشخصيات المفكر "الكسندر دوغين" الملقب بعقل بوتين وقد أفرد الراوي لافكاره جزءا من الرواية "تتلخص فكرته أن روسيا حضارة تللورية، حضارة متحصنة في أرضها ومكانها، يقوم وجودها على المحافظة على تقاليدها". المفكر في دعوته لنظرية سياسية رابعة تتغلب على الشيوعية والليبرالية والفاشية  عنوانها الأوراسية وتتضمن تحالفا جيو سياسيا بين اسيا وأوربا الشرقية ضد الهيمنة الأمريكية، وحلف شمال الأطلسي، بإمكانها أن تنعش احلام اليسار بالتعددية الثقافية والتوازن الدولي كتبت رواية "المدعو إلى مساء السيدة" من اجل استعادة اليسار العالمي وجاءت على شرف "الكسندر دوغين" الذي لا يعرف القارئ العربي عنه الكثير وهو المفكر الروسي الثائر ضد الليبرالية الغربية وهيمنتها الاقتصادية والسياسية على العالم. من الشخصيات الأدبية التي اتت الرواية على سيرتها الشاعر الاميركي اليوت وعلاقته بزوجته فيفيان سلبيات وايجابيات كل منهما، الشاعر والروائي الروسي ادوارد ليمونوف الصعلوك المتمرد الديمقراطي المختلف تماما عن دوغين الدوغمائي، والروائية الفرنسية فرانسوز ساغان، وقد خصّ الراوي رواياتها بنقد أدبي "لقد كانت وصفتها سحرية بحق، الجذب عن طريق النثر الحي الواضح والسريع، والمخيلة الخصبة والصراحة الفجة والانشاء المغامر المعبر من دون تزييف". حضر النقد الأدبي مثلما حضرت الاشارة لمسرح العبث والكلام عن أدب الرحلة والسيرة والصحافة، تلك سياحة أدبية وثقافية ممتعة ومسلية تتمحور حول مآلات أفكار اليسار العالمي بما يقنع المتلقي بأصالة هذا الفكر، وأن لا غنى عنه للجمهور والنخب في حاضرها ومستقبلها، وإن رافقت تاريخه الممتد الاخطاء والتراجع والنكبات، هل آذنت أفكار ما بعد الحداثة بموت الحكاية بضمنها الروائية والقصصية؟ وإذ يذكر علي بدر اليسارية (فرانسوز ساغان) بإعجاب.. هل يطمح أن يكتب سردا مشابها لما كتبته في ستينيات القرن العشرين، سرد فيه من التلقائية والشفافية والخروج على التقاليد الروائية. قدم علي بدر في روايته هذه تصوره الشخصي الخاص لسرديات ما بعد الحداثة في قلة ارتهانها للتجنيس وعدم اكتراثها بالحكاية والحبكة واستيعابها لأنماط تدوينية كتابية وشفاهية مختلفة.