أيلول/سبتمبر 12
   

مع رحابة النظرة الفنية المعاصرة اتسعت فرص الفنانين لاستثمار مواد غير تقليدية في إنجاز أعمالهم بطرق عكست أثر تلك المواد المستثناة سابقا من استثمارات الفن في تحقيق تكوينات مبتكرة لم يكن ميسورا الحصول عليها باستخدام مواد فن تقليدية، فقد كنا نتساءل عن إمكانية تصنيف الفن استنادا الى مادته، واستثناء بعض انماطه من صفة الفن بسبب توظيفه مادة استثنائية، وهو امر لا نرتكبه منفردين فقد كان الناقد البريطاني (هربرت ريد) يفرض انتقائية تستبعد فنانين عن بعض كتبه على اساس الموضوع، ويمايز أيضا بين أنواع الفن على أساس المادة؛ فقد استثنى ريد انماطا من الفن في كتابه (النحت الحديث.. تاريخ موجز) اهمها: "الريليفات والبنائيات التي تتأرجح بغموض بين حرفتي الرسم والنحت" -هربرت ريد، النحت الحديث.. تاريخ موجز، بغداد 1994، ط؟، ص 5 - من فن النحت؛ لكن لم تكن تلك الاستثناءات على اساس المادة الا من الناحية الاولية، بينما كان السبب الاكبر الذي واجه هربرت ريد في مشكلة (الريليفات والبنائيات)، هو مشكلة الإجناسية، اي اين وكيف نجنس منحوتات تستخدم مادة استثنائية ومهملة، فكانت تلك (الريليفات والبنائيات) تبدو وكانها تشكل عقبة عصية تلقي بثقلها عليه، وهي "تتأرجح بغموض بين حرفتي الرسم والنحت"؛ وبذلك فهو يصنفها بسبب مادتها ابتداءً فإذا به يحاكمها لموضوعها، الذي يعيد اذهاننا الى ما اعتبرناه (تخوم الرسم) معتمدين في تصنيفنا لتلك التخوم على المادة الاولية واختلاطاتها؛ وان افتراض وجود تخوم للفنون المختلفة، ولفن الرسم تحديدا باتجاه مختلف انماط الفنون الاخرى يفترض وجود تخوم بينه وبين الفنون المحايثة القريبة كالخط والتصميم مثلا؛ وهي مماثلة لتلك التي بينه وبين النحت.

كانت مناطق التخوم تزخر باعمال تجمع صفات الرسم والنحت معا: السطح واللون والبعدين، مع المادة المجسمة الناتئة في عمل واحد، وآخر هذه التجارب التي اطلعنا عليها من خلال المعرض الشخصي الرابع للنحت الذي اقامه الرسام هاشم تايه في البيت الثقافي في البصرة، انها لم تكن تجربة رسم استطالت أذرعها لتطال تخوم منطقة النحت، بل هي تجربة نحت استعارت آليات اساسية من فن الرسم، فلم ينهج ما درج عليه الرسامون السابقون في مناطق التخوم حينما كانوا يحاولون (احترام) قواعد اللعبة لكلا الفنين، فإن هاشم تايه في محاولته هذه، يدير ظهره لقوانين فن النحت، وأهمها ذلك (القانون) الذي وضعه النحات رودان، والذي يقرر فيه فاعلية الواقعة الشيئية لفن النحت (= ماديته) حين يقول "إن البروز، لا الخطوط الخارجية، هو الذي يقرر التضاريس"، وهو يعني بالبروز المادة، بينما يلقي هاشم بمهمة (تحديد التضاريس) ليس على المادة بل على الخط ، بعد ان تحوّلت المادة بيده الى خط ! او ربما هو الخط وقد تحول بيده الى مادة صلدة!، فلم تعد حركة لنقطة على سطح، او حدّا (= محيطا كفافيا) بين لونين، وهو امر لم يكن جديدا، فقد كان حتى في اعماله الزيتية السابقة مخلصا لمادة العمل، فقد كانت تلك الاعمال زيتية بفعل مادتها، بينما هي في نتيجتها النهائية اعمال ذات بنية كاليغرافية (تتخندق) مع الأعمال التخطيطية، وكأن اللون فيها لم يتنافذ كفاية مع بناء اللوحة، وكأنها تخطيطات تمت اضافة اللون إليها في مرحلة لاحقة، فلم تغير تلك الإضافة من العمل شيئا، وبذلك نجد العذر لأنفسنا ان كنا نعاملها وكأنها لوحة تخطيطية من وجهة النظر الطوبولوجية؛ حينما فرضت نفسها بتكوينها الشكلي الكاليغرافي، فكان هاشم تايه فيها يؤسس أعماله على تنافذ استعاري بين مستويي العمل لديه وهما البساطة والقوة: البساطة التي لا نعني بها التخلص من الشوائب الزائدة في الشكل فقط بل وبساطة المادة المستخدمة، كانت البساطة توجها تقليليا، يحاول الاكتفاء بأقل الخطوط الضرورية لبناء الشكل، وهو ما أسس عليه هاشم تايه بناه الهيكلية، بينما يتجسد البعد الآخر للتكوين (القوة) في جرأة الخط، أو جرأة النقطة، وهي تتحسس طريقها في المنحوتة بثقة، كما كان يصنعها في لوحاته سابقا، فتبدو وكأنها تعرف مسبقا خط سيرها، لذا تترك لها أثرا، خطا قويا محفورا على بياض الورقة، انه الطموح الأزلي للخط إلى الاندفاع من نقطة تجاه أخرى بخط مستقيم، هو الان، وكما قلنا، خط حقيقي، يمتلك حدة واضحة وثقة ومقدرة على فصل مساحتين من اللون (الأبيض) نفسه، وليس فقط اختراق مساحة لونية، انه إذن خط (حقيقي) يختلف عن المحيطات الكفافية الوهمية التي تفصل مساحتين لونيتين مختلفتين عن بعضهما، وذلك راجع إلى أن التكوين الخطي عند هاشم تايه، تصنعه خطوط حقيقية (محفورة) على بياض الورقة، خطوط يصنعها المداد الأسود الفاحم.

 لقد كان ذلك هو التكنيك الذي عامل به هاشم تايه اعماله النحتية كذلك، فقد كان الخط العنصر الذي عشقه كثيرا، وخبر قدراته، وقدم فيه معارض خاصة، وبنى تجربته في الرسم، وفي جزء كبير منها، على هذا العنصر، فإذا به الان، وخلافا لقواعد اللعبة، يقدم تجربة في النحت مؤسسة على عنصرين: استثنائية المادة، وهيمنة الخط بصفة اساس، فكانت منحوتاته قد منحت هذا العنصر (جوهرا صلبا) حتى صار جزءا مكونا جوهريا (لبنية الشيء الكامنة) في النحت، والتي سيتم ـ استنادا الى تركيبتها المتخيلة ـ تجميع assemblage   اجزاء (النحت) المؤلَّفة من مواد قد لا يكون لها تاريخ مرتبط بفن النحت، فهي مواد قد تصحّ تسميتها (جاهزة الصنع)  ready made  بل هي منبوذات من سقط المتاع يعيد معالجتها لتتأهل فتكون صالحة للنحت، مواد كتلك التي صنع منها بيكاسّو منحوتاته التجميعية المعدنية، بل اشد انتماءً الى عالم (المزابل): اوراق تالفة، قناني بلاستك فارغة، وانابيب ماء تالفة وغيرها مما قد لا يخطر على بال، وبذلك يتم، من خلال هذه الفعّالية التجميعية، منح هوية جديدة للعمل النحتيّ النهائيّ بشكل يجعله منقطعا عن اجزائه، فالكل هنا لا يساوي مجموع اجزائه، فإذا كانت "اشكال بيكاسّو الحديدية قد امتلكت بعض الخواص العاطفية المحددة، كونها شريرة، وغامضة، وفكاهية احيانا" كما يقول هربرت ريد – المصدر السابق، ص 51 -، فإن اشكال هاشم تايه تكتفي بصفة واحدة جامعة مانعة تماما، هي انها غريبة حقا، بمادتها اولا، وفي شكلها وبنيتها، واخيرا في اهدافها، مع انها تماثل ما يسمى (الرسم في الفضاء) وربما الأدق هنا تسميتها (التخطيط في الفضاء)، وهو الذي يتحقق هنا بشكل يجعله اتجاها لرفض القيم الراسخة في فن النحت التقليدي: الصلابة والثقل، تلك القيم التي لم تكن الا ماكيتا (= مصغرا) مخططا في الفضاء، وهو ما يسمى بالاقفاص الفضائية)، ذلك النمط من (النحت) الذي تنتمي اليه منحوتات: جايكوميتي (القصر في الرابعة فجرا 1932)، وبيكاسو (بنائية الاسلاك 1930) وجواد سليم (السجين السياسي).

يبقى اذن ذلك السؤال الملحاح الذي يفرض سطوته علينا: هل نجنس هذه الاعمال باعتبارها إحدى مراحل التخوم بين انماط الفن التشكيلي او تحديدا مرحلة متوسطة بين الرسم والنحت، وهو ما كان يبدو واضحا من خلال رفض تجنيس الاعمال المماثلة من قبل العديد من الفنانين، لذا فانا اعد البنية الخطية دلالة على بقايا تواشج نسقي الرسم في النحت، ما يخلق فضاء يسد مسدَّ المادة المفقودة هنا، ويخلق حركة ناشئة من تواشج فضائيّ (داخل - خارج) المنحوتة، فتلك الخطوط تسيِّج مساحات الفضاء المفتوح كونها (داخل) المنحوتة، وفضاء اخر بوصفه (خارج) المنحوتة، فتكمن في البنائيات النحتية والاقفاص الفضائية حاجة للحركة الفضائية (تغيير علاقات الفضاء نتيجة الإفتقار للمادة الصلدة التي كانت في ما مضى جوهر النحت)، وهو ما دفع كالدر الى تركيب اجزاء متحركة من المنحوتة لتخلق بحركتها تغييرا في علاقات الفضاء، وهو أمر نجده احيانا في الرسم ولكن بأهداف اخرى، وذلك حينما كانت الرسامة هناء مال الله تضيف للوحاتها اجزاء متحركة يمكن للمتلقي ان يغيرها حسب ما يقترحه هو؛ وبذلك يكون المتلقي مشاركا وصانعا للوحة في جزء منها وذلك بتغيير العلاقات اللونية هذه المرة، ويبدو ان الحاجة الى تغيير علاقات الفضاء كمعادل لردم الفضاء هو نزوع أصيل في هذا النمط من المنحوتات، نتيجة البناء النصبي لهذه المنحوتة، وفي غالبيتها مشاريع نصُب ضخمة مقدّر لها ان تحتل مساحات عامة يتعايش الناس معها بشكل تلقائي ويومي، وهو ما يجعلنا نزعم ان المتلقي سيكون جزءا من التكوين، قد يكون ضئيلا بحجمه ولكنه يشكل بؤرته المركزية التي تلتمّ حولها التفاصيل كافة الأخرى حسب موقعه المتحرك داخل التكوين، وبذلك يفارق المتلقي الذي يطوف حول العمل النحتي، ان العمل النحتي الان هو الذي يطوف حول المتلقي على الرغم من الثابت والمتحرك .. المتلقي.