يثير مصطلح الفوضى ودلالته في الفكر الحداثي وما بعد الحداثي الكثير من الأسئلة والانتباهات في الآداب والفنون والمعرفة بمختلف اشكالها وحقولها. فهو يحيل الى مفهوم معرفي شامل يجسد فكرة الجدل المفتوح القائم على التناقض والتضاد وصراع الانساق وفق مدلول تعالقي قائم على حقيقة ان أي منطق يحيل الى ضده، وان التضاد والتنوع هو الذي يخلق نوعاً من التناغم والانساق الداخلي ويكشف الخطاب التحليلي لظواهر الطبيعة والوجود والكينونة التاريخية والمعرفية والوجودية والسايكولوجية والسوسيوثقافية عن وجود المسرح الجدلي والديالكتيكي الذي يكشف عن وجود ثنائية النظام والفوضى بوصفها مظهراً من مظاهر التأسيس الماهوي للوجود بمختلف ميادينه وتجلياته.
والفوضى والنظام كثنائية قارة تغرب في عراقة مثولها في الارهاصات الأولى وفي بواكير الميثولوجيا والفلسفة والعلوم والفنون وظواهر الحياة والطبيعة ووفق هذا المعنى فان هذه الثنائية تشكل حجر الزاوية واحدى الميكانزمات او الاستراتيجيات التي من خلالها يتم الكشف والاستدلال على المنطق الجدلي التي تستند اليه حركية الظواهر المختلفة والمنتجة، وبالتالي للمعنى وجميع انساق الفكر والاستنتاج من خلال خلق الدلالات وقصديتها والكشف عن الحقائق كنتيجة معرفية لصراع القيم المتضادة وقوانين التضاد المنتج ودينامية الفوضى والنظام قائمة على قوانين الإحالة من الشيء لنقيضه ووفق المنطق الهيغلي في وحدة الاضداد او نفي النفي.
فالتعالق والتنافذ بين الفوضى والنظام هو الذي ينتج الوضع والحالة الثالثة فهو من البداهة لا ينتج البعد الأحادي أي ان الفوضى لا تنتج الفوضى المطلقة كما ان النظام لا ينتج نظاماً مطلقاً. وهذا التداخل هو جوهر الكينونة المنتجة لصراع هذه الثنائية المتأصلة في الطبيعة وقوانينها مثل الثنائيات المتناظرة والموازية لها مثل ثنائية الظلام والنور والموت والحياة والليل والنهار والخفوت والانبثاق وغيرها من الثنائيات.
وجدت ضرورة موضوعية لهذا الاستهلال كنوع من الاستدلال على قيمة الكتاب الموسوم "تمثلات الفوضى واشتغالاتها في أداء الممثل المسرحي العراقي" للدكتورة الباحثة هنادي صلاح عزت وجهدها المعرفي المتميز في تناول هذه الظاهرة وتقديم مقاربة اركيولوجية والكشف عن جذورها وتجلياتها وشراتها الجمالية ودورها في تعميق المعنى الكلي للعروض المسرحية، وهي دراسة تسد فراغاً كبيراً وتمثل سعياً ريادياً في تناولها وذلك لأهمية هذا التمثل لها وانعكاساتها على دور الممثل في تعزيز مدلولات وانساق العرض المسرحي، وان كانت ثنائية الفوضى والنظام كما اسلفنا متجذرة في تاريخ الفكر والعلوم والفلسفة ولكن مفهوم الفوضى اخذا طابعاً اكثر عمقاً ودلالة وتوظيفاً في كشوفات ومنجزات ومقاربات فكر الحداثة وما بعد الحداثة وقد اثبتت التجارب الفنية والمسرحية تحديداً قيمة واهمية وثراء التوظيف لظاهرة الفوضى في تجسيد مدلولات وقصديات الأثر المسرحي واضفاء الطابع الجمالي والذهني على مرتكزاته ما يخلق استراتيجية استقطابية على مستوى الإنتاج والارسال والتلقي معاً.
ويحسب للباحثة المجتهدة في التقاط هذه الموضوعة كونها موضوعة منتجة ومهمة في الكشف عن المسكوت عنه والمضمر وتحقيق نوع من التجسيد والتمثل لمأزومية الواقع الإنساني المعاصر الذي يتسم بعدة تناقضات والصراعات والتجاذبات الراديكالية على مستوى الفكر والسياسة والمجتمع والنسق السوسيولوجي والوجودي والتاريخي والسيكولوجي، مما يستدعي وفق منطق الرصد والاستقصاء توافر دراسة علمية تحليلية شاملة وموضوعية لهذه الظاهرة وقد كشفت جهود الباحثة العلمية الرصينة عن هذا المعنى من خلال اعتمادها على منهجية علمية اكاديمية في دراسة مورفولوجيا هذا التوجه والبحث في جذور الظاهرة واستقصاء تجلياتها في الوسائط والميادين المختلفة في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والفكر الجمالي.
لا سيما وانها طبقت مظاهر وتجليات وتمثلات قانون الفوضى على مفصل شديد التأثير في الخلق والتعبير وتكوين الخطاب المسرحي فهو ميدان التمثيل والأداء الجدي والصوتي الممثل بوصفه العلامة المركزية المنتجة لكل تنويعات ودلالات العرض المسرحي.
وتشير الباحثة الى ضرورة الاهتمام بهذه الظاهرة وانعكاساتها واصبح من التوجهات الحتمية لدراستها بعمق علمي وموضوعي تتطلبه طبيعة العروض المعاصرة وارتباطها بالفكر والكشوفات المعرفية والجمالية.
(وبذلك صار لزاماً على المسرح ان يفسر تناقضاته هذه بأساليب وصيغ جديدة ومبتكرة في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن الحياة في حالة نظام وفوضى مستمرة لا تنتهي طالما كان الانسان متعطشاً للمعرفة التي بدورها تعمل على الاستمرارية والتجدد وهذا يحيل الى هدم وبناء والمسرح مختبر للتجديد والتجريب والتطور للانساق والعناصر الفنية والأساليب المختلفة".
وتصبح ظاهرة الفوضى والنظام المعادل الموضوعي لثنائية التراجيديا والكوميديا، والواقعي والخيالي والمنطقي وغير المنطقي، بل نجد مذاهب وتيارات مسرحية توظف مفهوم الفوضى لتعميق المعنى الكلي للعرض مثل مسرح اللامعقول والمسرح الذي يوظف النسق الغرائبي والميثولوجي او المسرح الواقعي النقدي الذي يسلط الضوء على تناقضات الواقع.
ومما يضفي على الكتاب هالة من السطوع المعرفي والأكاديمي الجينالوجي لهذه الظاهرة وتاريخيتها وتمثلاتها في الميادين والحقول الأخرى. فتقدم دراسة وافية لمفهوم الفوضى والنظام في الخطاب الفلسفي وتبدأ بتتبع هذا المفهوم في تاريخ الوعي البشري منذ الميثولوجيات القديمة وحتى كشوفات الفكر الفلسفي المعاصر. تدرس معالم الدلالات لهذا المفهوم في فلسفة افلاطون وارسطو وغيرهم من رواد الفكر الفلسفي.
كما تتطرق بشكل عميق الى فلسفة هيجل اساساً على منطق التناقض والتضاد وصراع الاضداد، وتكشف عن فلسفة نيتشه التي تعبر عن ان الفوضى هي احياء للروح والفكر وتتناول فلسفة هنري بيرجسون والتركيز على قانون التوازن بين المتناقضات وصولاً الى فهم فلسفي كلي، كما تبين علاقة هذا المفهوم بالفكر الفلسفي لميشيل فوكو ودورها في إيجاد نوع من السلطة والرصد والمراقبة منعاً للفوضى الهدامة المطلقة وتكشف عن أهمية ودلالة الفوضى في الفكر الفلسفي عموماً (كونها منظومة تفكيك وبناء في الوقت نفسه يقابلها النظام كمنظومة بناء وتفكيك، هذا الترابط هو الذي أسس لمحور بنائي متكامل).
وتناول في الفصل الثاني من الكتاب: السلوك الفوضوي في الخطاب النفسي والاجتماعي بوصفه ظاهرة مهينة وقارّة، فظاهرة الفوضى ترتبط بداهة بالتكوين السوسيولوجي والسايكولوجي بشكل جلي ومؤثر كما تؤشر وجود الفوضى في المنحى الطقوسي والانظمة الاجتماعية والقوانين والتضاديد والمظاهر وتتناول الأنماط الفوضوية في الواقع والفكر الاجتماعي تاريخياً.
وتكشف عن العلاقة بين هذا المفهوم وظاهرة او قانون (الهابيتوس) لبورديو، والذي يقصد به العادات والقيم المكتسبة التي يمتلكها الفرد داخل المجتمع منذ التنشئة والتي تكون بمثابة الاستعدادات الفكرية والجسدية للفرد من اجل التغيير بحسب البيئة والثقافة، ان كان يمتلك (الهابيتوس) وهو استعداد الفرد للتحول الامر الذي يجعل منه فاعلاً اجتماعياً).
وتتطرق الى النظام والفوضى في العصور الوسطى وتناقضات الواقع السياسي والقانوني والوجودي مما يضفي نظرة موضوعية لوجود كل اشكال لصراع الطبقي والسياسي والقيمي. كما تدرس وجود هذه الظاهرة وتمظهراتها في فكر فرويد ويونغ وغيرهما من رموز التحليل السيكولوجي.
وتقدم في الفصل الثالث دراسة مستفيضة جمالياً وفكرياً تكشف فيها عن علامات الفوضى والنظام في أداء الممثل المسرحي وتستهل الفصل بمقدمة ثرية لدراسة هذه الظاهرة اجتماعياً وتاريخياً وفنياً وتدرس ظاهرة الرقص والطقوس والموسيقى ودورها في خلق النسق الجمالي ودور فكرة المقدس والمدنس بوصفها ظاهرة للكشف عن صراع الثنائيات لتكوين وتعزيز الرؤية الفلسفية للعرض المسرحي، وتؤكد على ان (فن الممثل بحد ذاته نظاماً تمت بلورته منذ بدايات المسرح ويسير بخطى متعرجة فهو يولد من فوضى ليدخل في نظام أدائي يرسم له بحسب مقتضيات الزمان والمكان والوعي المجتمعي.
ومن ثم يدخل في فوضى أخرى يراد منها توضيح مدى تأثر أداء الممثل بصيغ الحياة المختلفة وبتغير المزاج الاجتماعي وتغير السلطة الدينية والمدنية وليكون التأثير واقعاً على الممثل داخل نظامه، الامر الذي يؤدي الى اختراق النظام الى الفوضى، وفن الممثل هو نظام داخل فوضى مجتمعية في تناوب مستمر للتطورات المعرفية لنظام الممثل والمجتمع.
ويعيد وجود الفوضى والنظام في النسق الجمالي والفكري للعرض المسرحي ضرورة في خلق التنوع وكسر إيقاع التواتر التعبيري والتخلص من البعد الأحادي الذي يثير الرتابة والانغلاق على فكرة مكررة:
(ان الخروج عن الأنظمة التقليدية يحيل الى التنوع في الشخصيات وفي الموضوعات المدمجة من خلال المزج بين المتضادات (المأساة والملهاة) لأن جوهر العملية هو تغيير الإيقاع في الشكل والمحتوى، لاستنفاد النظام قدرته على التواصل مع معطيات الحياة الجديدة بفعل الملل فضلا عن عدم قدرة أي نظام على الاكتمال، كون الانسان لا يعيش على نظام واحد لأن إيقاع الحياة متلون ومتغير).
وبهذا تكشف الباحثة ان العرض المسرحي وطبيعة الأداء التجسيدي للممثل ينبغي ان ترتكز على التنوع والتضاد والتناقض بغية كسر الإيقاع المتواتر والابتعاد عن الرؤية النمطية وعدم هيمنة الملل والرتابة والسكونية لوجود البعد الواحد للعرض.
ولا يمكن تقديم دال ومدلول ومنظومة فكرية في عرض لا يقوم على ثنائية الفوضى والنظام والمنطقي واللا منطقي والحقيقي والمزاجي، فهذه التناقضات هي التي تتحول لفضاء يعمق مفهوم الصراع ويعمق الرؤية الكلية للعرض على المستوى الجمالي والفكري ويخلق معالم المتعة بكل اشكالها.
تسلط الباحثة الضوء على تجارب المخرجين والمفكرين المسرحيين ودور الفوضى في تقديم نتاج مسرحي دال وعميق مثل تجارب ستانسلافسكي ورابنهارت وتمثلات الفوضى ودلالات في المسرح الطبيعي والواقعي وأسلوب مايرخولد في الخروج عن النظام وكسر القواعد. كما تدرس بدقة الفوضى والنظام في المسرح التعبيري وفي الرمزية والدادائية والليبرالية ومسرح اللامعقول بالإضافة الى دراسة هذا المفهوم في الكرنفالات الشعبية ومظاهرة الجلبة والدالة في المسرح الحديث ومعالم هذه الثنائية في مسرح القوة لانطوان ارتو وارتكازه على توظيف الطقوس والأداءات الجسدية. كما قدم مقاربة وافية لظاهرة الفوضى والنظام في المسرح الملحمي وتجارب بريخت وتوظيفه لقوانين التناقض لتقديم رؤية فكرية للكشف عن تناقضات الانسان والمجتمع والتاريخ.
وبعد هذه المعطيات والإفاضة العميقة والشاملة تقدم في القسم الثاني من الكتاب عينات ونماذج من العروض المسرحية التي تنضوي على ثنائية الفوضى والنظام وتوظيف هذا المفهوم في تقديم رؤية مسرحية تهم في تعميق وتجسيد المعنى الكلي او الفلسفة او المنظور المتعدد الذي يرتكز عليه العرض المسرحي وتقدم الحقيقة من خلال صراع الأضداد وتوظيف التناقض.
ومن هذه العروض تمت دراسة العروض الآتية: دائرة العشق البغدادي إخراج عواطف نعيم وبروفة في جهنم اخراج هادي المهدي. وأحلام كارتون اخراج كاظم النصار، وعرض اهريمان اخراج على دعيم وهو عرض يرتكز على جذر ميثولوجي وكذلك عرض بوابة رقم 7 اخراج سنان العزاوي. وقدمت الباحثة تحليل ودراسة انساق العروض، وتحليل متنها الحكائي ودلالاتها الجمالية والفكرية، واستخلاص النتائج والمدلولات ومنظومة القيم الجمالية والفكرية والبؤر المنتجة في كل عرض مسرحي في هذه العروض.
ووفق هذه المعطيات فان هذا الكتاب بعمقه وخصائصه واشتغالاته وجدة الثيمة والمعنى وأساليب التحليل وتطبيق المنهج التحليلي والتوصيفي وتقديم بانوراما جمالية وفلسفية لدراسة انساق ظاهرة الفوضى والنظام.
ومن الملاحظات التي لا تقلل من قيمة وجمالية ومنهجية الكتاب ما يتعلق بالعنوان، فكان الأفضل من حيث السياق والدلالة ان يكون (في العراق) بدل (الممثل العراقي) للإحالة الى المكان وليس للصفة. وكان من الاجدى والضروري تناول مفهوم الفوضى والنظام في فن الغروتك بوصفه الأقرب الى هذه الظاهرة بسبب ارتكازه على مفهوم التقويض والبناء. وكذلك دراسة هذا المفهوم في المسرح الغرائبي او عروض الفانتازيا وتناول تأثيرات وتمظهرات الفوضى والنظام في اشكال وتوجهات الكوميديا بكل انماطها والمسرح الاحتفالي والفرجة.
هذا الكتاب بخصائصه ومعطياته علامة فارقة وتجربة وجهد يستحق الاحتفاء والاشادة.
* تمثلات الفوضى واشتغالاتها في أداء الممثل العراقي، د. هنادي صلاح عزت، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد- 2024.
* ما بين القوسين مأخوذ من متن الكتاب.
عباس لطيف: روائي وكاتب وناقد مسرحي عراقي.