أيلول/سبتمبر 12
   
  لا يمكن ان نعد الشاعر والمناضل الأممي العراقي كاظم السماوي ضمن السلسلة التاريخية في المشهد الثقافي والسياسي العراقي، فهو وإن كان ينتمي إلى العراق بيئة وتاريخا ومكاناً، لكنه يبقى ظاهرة متعالية على الحدث وسرديته الثقافية والسياسية في المشهد العراقي، ظاهرة تستوجب دراستها وتسليط الضوء عليها من ناحية الفكر أولاً، والوعي المبكر الذي نشأ عند الشاعر، والذي جعله ينطلق من المحلية إلى العالمية والكونية، من دون أن تفقد طروحاته الفكرية وقصائده الخصائص والمقومات التاريخية والاجتماعية.
كان الهم الإنساني هو المحرك الوحيد والأوحد في أفكار السماوي وقصائده ومقالاته، فهو وإن شاهد بأم عينيه معاناة شعبه في العهد الملكي من اضطهاد وفقر وبؤس اجتماعي وهيمنة إقطاعية، إلا أن وعيه بدأ يأخذه في تطواف روحي ورحيل حول العالم، تطواف بدأ بقراءاته المعمقة واطلاعه الموسوعي الشامل ومن ثم هجرته بين مشارق الأرض ومغاربها والتي امتدت لخمسين عاماً، ليرى مأساة الإنسان والشعوب المقهورة التي ترزح تحت وطأة الاستعمار والإمبريالية، فالفكر الإمبريالي والاستعماري هو نمط كامن في الحضارة الغربية تغذيه بعض النظريات العرقية والأفكار الداروينية المشوهة.
لقب كاظم السماوي بـ" شيخ المنفيين" والمنفى، فالمنفى لا يعني بالضرورة الاغتراب المكاني والجسدي، بل يرتبط بالاغتراب الروحي والنفسي، والسماوي كان منفي الفكر في وطنه، وغريب الروح قبل كل شيء، فالعراق على حد تعبيره وعلى امتداد عصوره المظلمة وسلاطينه الطغاة كان مقبرة للمفكرين والعلماء والمبدعين، فمن لم يمت قتلاً أو سجناً أو تشريداً مات هماً وكمداً.
عاش السماوي في مرحلة زمنية تجسد فيها الفكر الماركسي، واقعاً فعلياً وعملياً في العمل الثوري، والسياسي، وفي الاقتصاد والفن، إنها حقاً المرحلة التي بدأت فيها الفلسفة تمشي على قدميها وتتنقل بين الناس. لقد بدأ هذا التجسيد للواقع الصلب من ثورة 17 اكتوبر التي قادها لينين ضد روسيا القيصيرية وأعلن قيام الاتحاد السوفياتي على الأسس والقواعد الإشتراكية التي تبناها ماركس لقيام الدول وصولاً إلى اليوتوبيا الشيوعية في نهاية المطاف.
لقد كان الحلم الشيوعي حلماً ثورياً رومانسياً اجتاح دول أوروبا الشرقية وأسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حلم راود الكثير من الأدباء والفنانين والفلاسفة والسياسيين في تلك الفترة.
بعد قراءات معمقة وتأملات في الواقع العراقي الهش والمريض والقابع تحت أغلال العبودية، وقد وجد السماوي الحل في الفكر الاشتراكي العلمي، بل وجده أيضا ً خلاصا ً للمأزق الإنساني في عالم يسير نحو الهاوية وينحدر فيه الإنسان إلى أدنى المراتب.
أخذ السماوي على عاتقه مهمة كبيرة، وهي الشروع بتأسيس منظومة اشتراكية فكرية منسجمة مع إيقاع المجتمع العراقي والعربي، وتحمل سماته وخصائصه التاريخية، لذا بدأ بالتفكر من أعماق تاريخه وتراثه العربي، توغل فيه حفراً وتنقيباً، هدماً وبناء، ليصل إلى صيغة ثورية شاملة تحمل إبداعا مفهوميا جديداً، ومنطلقات إنسانية تدمج الماضي بالحاضر ضمن رؤية أممية لا تنفصل عن الحداثة وعن الاشتراكية العلمية.
يقول السماوي في مذكراته: "التاريخ هو الإنسان، فهو خالقه ومبدعه منذ كان للتاريخ فجره، ومنذ مسيرته الأولى".
وعليه فإن المتأمل العميق لأشعار السماوي سيرى أن قصائده حافلة بالرموز الثورية والتي تتجلى بأحداث تاريخية وبأسماء شخصيات انتفضت ضد الظلم والسلطة الحاكمة من أجل رغيف الخبز أو من أجل العدالة والمساوة. وهذا يعطينا لمحة عن الصراع الطبقي في التاريخ العربي، وعن الواقع الاقتصادي الذي يفسر الواقع السياسي؛ فنرى أسماء وأحداثا: مثل عروة بن الورد.. وأبو ذر الغفاري وعلي بن أبي طالب والإمام موسى الكاظم وثورة الزنج ودولة القرامطة، وفي الوقت نفسه لم تخلُ قصائده من الرموز الثورية العالمية المعاصرة مثل: تشي غيفارا، فيديل كاسترو، نهرو، غاندي، حسن السريع، خالد أحمد زكي، ماجد أبو شرار.
وقصائد السماوي تخلو من عادة المدح المبتلى بها في الشعر العربي، لكنها ترثي الأبطال الذين ظلوا صامدين ومتمسكين بمبادئهم ومواقفهم حتى لحظاتهم الأخيرة في الحياة. والرثاء هنا ليس حالة ضعف واستسلام، بل عاصفة هادرة تؤكد على حرية الإنسان وعلى قوة الإرادة لديه، على الرغم من الظروف القاهرة وحتمية الأقدار. على امتداد التاريخ وصفحاته الملطخة بالدم.
كان السماوي نصيراً للشعوب المضطهدة والمظلومة، فمنطق الحق ليس منطق القوة كما يعتقد البعض؛ لأن القوة مجرد صفة بيولوجية أو مكتسبة وهبتها الطبيعة أو الظروف المحيطة للقوي، لذا يجب أن تكون القوة مبعثاً للعدالة وللحقوق التشاركية بين البشر، وليس مبعثاً للطغيان وسفك الدماء، فالبطش والطغيان يأتيان من الضعف والنقص لا من القوة؛ لأن القوة الحقيقة لا يعتريها النقص أو الانحراف، وهي وحدها القادرة على تحقيق المساواة بين البشر الذين تجمعهم الأخوة ووحدة المصير الإنساني. والحلم الثوري الشيوعي يتوهج في أعماق السماوي كقوة لا يعتريها النقص ولا الانحلال، ولا تكون إلا بيد فرسان قادرين على تحقيق السلام بعد الثورة في عالم ما زال يطفو على بحار من الجثث والدماء. يقول السماوي في مذكراته: "طغاة الأمس يتناسلون اليوم، وما زال الدم المسفوك يغطي أديم الأرض، ومواكب الإنسانية تحمل صلبانها وتشق طريقها الطويل.. الطويل، وتتناهى أصداؤها من الأعماق السحيقة، من أعماق القتيل في هيروشيما، وناغازاكي، وحلبجة، والأنفال، وقصب الأهوار، وقصر النهاية، وغابات فيتنام، والأدغال الإفريقية، ولم تزل الأرض تغسل أدرانها.
 
السماوي والبساطة الساحرة:
جمعت السماوي صداقات وعلاقات وطيدة مع قادة سياسيين وثوار مناضلين ومع فنانين وأدباء من جميع أنجاء العالم  مثل : عبد الكريم قاسم ـ قائد ثورة 14 تموز، وكامل الجادرجي ـ وزير الاقتصاد والمواصلات في العهد الملكي، وسلام عادل ـ سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، وغيرهم من الشخصيات. وعالميا: ماوتسي تونغ ـ الثوري الشيوعي ومؤسس جمهورية الصين الشعبية، والشاعر الصيني كوموجو، والشاعر التركي ناظم حكمت، والكاتب السوفياتي إيليا إهرنبورغ، وأنور خوجة ـ زعيم ألبانيا الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية، وريمونديا ـ بطلة الكفاح المسلح الفرنسية ضد طغاة بلادها الفاشيين، واتو غروتوفول ـ رئيس الوزراء الألماني الديمقراطي، فضلاً عن ذلك فقد مثل السماوي العراق في ثلاثة مؤتمرات للسلم في بكين وبودابست وفينا.
كان السماوي ينفر من بعض النخب السياسية والثقافية والمؤتمرات؛ فقد كان الأقرب إلى الناس في الشارع إلى واقعهم اليومي، إلى آلامهم وهمومهم، إلى بساطتهم ومعاناتهم الدائمة. فقد كان يحب المشي والتجوال لعدة ساعات، يرتاد فيها المقاهي والأسواق الشعبية، والأزقة، يتفرس وجوه الناس يغوص في أعماقهم وقهرهم المكبوت. كان يريد لأفكاره ولمعرفته النظرية أن تكون مقرونة بالتجربة والعمل، وعلى تماس دائم مع الإنسان ومشاكله الاجتماعية. وقد ذكر السماوي أن الكثير من معرفته جاء من السفر والتجربة، ومشاهدة الواقع العيني والملموس للبلاد التي يهاجر إليها، فقد كانت عينه الفاحصة تتوغل في عمق المجتمعات كناقد اجتماعي فذ، وكان وعيه يستنبط الأفكار ويحللها كمفكر حصيف، خبر دهاليز الفلسفة وأوكارها.
لقد عشق السماوي الفطرة الثورية البسيطة لدى الفلاحين والفقراء والكادحين، وكان يفضلها على ثورية النخب البرجوازية والمثقفة التي لم تخرج عن نطاق اللغو المفرط والثرثرة في المقاهي.
وفي هذا الصدد يقول السماوي عن أهل مدينته السماوة عندما استقبلوه بعد ثورة 14 تموز عام 1959:" لقد ظللت رجلاً أمام هذه الجماهير الوفية، وأنا الذي نشأت بينهم، فهم الأصدق الأعمق مما تقوله الكتب المركونة على الرفوف".
 
الإنسان والواقعية الرومانسية:
يعد السماوي قارئاً نهماً ومثقفاً موسوعياً، وقد قرأ الكثير من التراث العالمي بعدة لغات كالمجرية والألمانية والإنجليزية، الى جانب قراءاته الأساسية الأولى في التراث والأدب العربي والتاريخ، هذا الأساس الذي أكسبه ثراء المفردات اللغوية، وجزالة اللفظ، وفرادة الأسلوب في النثر والشعر والمقال. كما أن قصائده ترجمت على يد شعراء وكتاب عالميين إلى المجرية والروسية والصينية، ومن ضمنها ديوانه الساري الذي صدر باللغة المجرية شعراً، وملحمة الحرب والسلم التي صدرت باللغة الروسية وترجمها الشاعر الروسي فلاديميرلوكوفسكي، وكذلك كتاب "الفجر الأحمر فوق هنغاريا" الذي ترجم إلى اللغة المجرية، والذي تضمن معايشة الشاعر ليوميات الحرب الهنغارية وتفاصيلها.
يرى السماوي أن الإنسان على تماس دائم مع واقعه ومع مشكلاته الاجتماعية والاقتصادية، فمعاناة الإنسان وهمومه وأسئلته الوجودية ليست عبارة عن أفكار وعن تجريد يبحث عوالم ميتافيزيقية لامرئية، بل ترتبط المعاناة ارتباطاً وثيقاً بالحركة والفعل، وبالزمان والمكان في العالم. ومن هنا يعد السماوي .. الفن المغرق بالذاتية والأنانية والمغلف بالمشاعر الجوانية وضبابية الكلمات هو فن مأزوم ومريض وغير قادر على المواجهة. والفنان الذي لا يستشعر الآخر في أعماقه ويتوحد مع آلامه يبقى فنه ناقصاً ومحصوراً بالتهويمات والضلالات اللغوية والشكلية. إلا أن الواقعية لا تعني التصوير الفوتوغرافي المباشر للواقع، بل لا بد للوضوح أن يعتريه شيء من الغموض، ولا بد لسحر المخيلة أن يخلق واقعاً موازياً للواقع الأصلي، لا يشبهه تماماً، لكن في الوقت نفسه لا يستطيع الانفصال أو التجرد من الأصل.
كان السماوي يعد الحرية سابقة على الحب، وعلى الترف الفكري والفلسفي في الفن والشعر، لذلك ظل السماوي ملتزماً بالقضية الإنسانية من ناحية ارتباطها بالواقع الاجتماعي والسياسي، فهو لم يكتب الشعر من أجل الشعر، ولم يهتم بالتجديد الشكلي والأسلوبي ولا بالمفارقة والدهشة أو بولوج مناطق أخرى لهذا الفن، بقدر اهتمامه بالمضمون والفكرة، وعليه ظل الشعر عنده مقيداً بالإنسان وقضاياه المصيرية المعاشة على أرض الوقع والحدث. إلا إن قصائده مليئة باللمسات الجمالية والفنية وبالأسلوب الصوري المبهر، وثراء الجملة وبلاغتها. وقصائده بحد ذاتها مدرسة متفردة بعالمها الإنساني والثوري.
وعندما التقى السماوي ناظم حكمت في مؤتمر السلم العالمي في بكين عام 1954 وأثناء تجوالهما فوق جدار الصين وجده يتطلع الى الجبال البعيدة المتشحة بضبابية شفافة، عندها قال حكمت للسماوي:.. أترى تلك الحبال كم هي رائعة ..!  ساحرة من بعيد، فكلما ابتعدت بك أخذتك إلى آفاق لم تكتشف بعد، لا تقترب.. فهي الأروع والأجمل طالما ظلت بعيدة".
 في مذكرات كاظم السماوي التي كان عنوانها "خمسون عاماً من الرحيل بين المنافي"، تتجلى مقدرته الإبداعية الفذة في الوصف والسرد الدقيق للأحداث، إلى جانب عمقه المعرفي وشعريته الساحرة والمؤثرة.
في النثر والسرد يقترب السماوي أكثر من العوالم الداخلية للإنسان؛ فهو يقول في أحد مذكراته التي تصف شعوره الممزوج بحزن شفيف أثناء ترحاله وتنقله بين منافي الأرض:
"كان التطواف قدري بين قاعات الفاتيكان وباحات الحجر الأسود، بين رحاب الجامع الأموي وأجراس كنيسة نوتردام، بين الأديرة البوذية الصفراء ومآذن الجامع الأزهر، ومعابد السيخ الهندية، وما زال البخور الإلهي يطرد شياطينها، والمحبوب يذوب ويتلاشى في الحبيب.
فوق جدار الصين تراءت أمام عيني الصحراء المنغولية، وتناهت حمحمات خيولهم القصيرة القوائم الراكضة شرقا ً وغرباً.
بين ردهات الرايشتاغ وقاعات الكرملين يقف التاريخ في شقيه المتوهج والمظلم، وقفت أتملى الوهج والانطفاء فوق شرفة ماري انطوانيت في قصر فرساي في باريس تناهت إليًّ صرخات الجياع. وكان الخبز يومذاك ملح السياسة. خبز الأبجدية الثورية الأولى، وحجر الفلسفة.
بين أطلال بابل وتهجد الأهرامات في الصحراء، وقفت أتملى الصمت في الزمن العتيق.
خمسون عاماً من الرحيل بين المنافي عبر المدن والغابات الخضراء والصحراء الرملية المجدبة.
خمسون عاماً وما كان لي وطن، وطن مستقر أؤوب إليه، لا أدري كم فندقاً ضمتني جدرانه الموحشة، وكم شارعاً سارني أو سرته في مدن الغرب والشرق.
خمسون عاماً ورفيقاي حقيبتي وجواز سفري. وما زالا الرفيقين في وشالة العمر. وفي كل منفى كان لي جواز سفر، لكل الأسماء انتميت إلا اسمي هو الآخر كان منفيا. اغتربنا معاً.. تشردنا معاً تحت كل سماء، وفي كل منحن من جنبات الأرض.
من فجوات السنين العارية، من فجيعة الأحلام وخيبة الآمال. من التشرد والسجون والزنازين وليالي المنافي وحنايا المقاهي، وحمامات الدم والخيانات.
ها أنت تقتلع قدميك اقتلاعاً، فلا تشدك الأرض، ولكنك وقامتك الشاهقة تشق الأعاصير ولا تنحني".
 
اوس حسن: شاعر وكاتب يعنى بالفلسفة والعلوم – يقيم في السليمانية