
كنت في الرابعة عشرة من عمري حين جاءني الحب لأول مرة، وهو عمر أكبر مما يقع فيه البعض في الحب عادة.. وإن كان أصغر مما يقع فيه البعض الاخر. يمكنكم القول بأنه عمر مناسب ملائم للوقوع في الحب، صحيح أني كنت جاهلا بأشياء مثل الغدد الصماء وما شابه، غير أني عرفت تألق الحب الذي تغنى به الشعراء دائما.
في ذلك الوقت كان لدينا، أخي وأنا، عمل تسليم الجرائد الى المشتركين والذي يصفو لنا منه خمسة عشر دولارا في الأسابيع الجيدة، ونؤديه معا بعد الدوام المدرسي. قبل أن ننتهي من عملنا ذلك اليوم المميز عرف أخي أني لم أعد طفلا وأن لحزني العميق الشبيه بحزن القديسين الذي أحيط نفسي به توجد أسباب أخرى الى جانب الأسباب المادية.
سألني: "ما الذي يزعجك؟"، فأخبرته بوقوعي في الحب. كان اليوم لطيفا جميلا وقد أوصلنا جرائدنا الى معظم المشتركين في مبنى شقق من خمسة طوابق. كانت فكرة أخي بخصوص عدالة التوزيع فيما بيننا أن يكون عملي في الطوابق الثلاثة العليا فيما يتكفل هو بالطابقين السفليين، ولأنه أكبر مني بسنة ونصف وأثقل مني بستين باوندا استطاع فرض هذا المرسوم بخلاف المفهوم الأساس للعدالة وقد قاومته في كل مبنى. لكن مع ذلك، قبلته اليوم. كان يوجد طعم للمعاناة، وقلبي تملؤه الموسيقى.
قلت: "أنا واقع في الحب". -" ماذا؟". قلت:" واقع في الحب. واقع في الحب مع امرأة". -" هل أنت جاد؟". قلت بوقار أوقعه تحت تأثيره :" أجل. أنا غارق في الحب". رافق فضولَه المتسم بالاحترام اهتمامٌ ولمسةُ إعجاب وهو يسألني :" متى حدث هذا؟". -" اليوم". -" هكذا دون مقدمات؟". قلت :" أجل. رأيتها في صفي لدرس اللغة الإنكليزية وعرفت أني أعشقها". -" كيف استطعت أن تعرف؟". -" بالطريقة التي أشعر بها". سأل أخي آملا بموافقتي :" تعني مثل التكفل بالتوزيع في الطوابق الثلاثة العليا؟". -" ذلك هو مجرد جزء من المسألة. لم تعد لمعاناتي أهمية لأني الآن أركز على شيء أكبر مني". أومأ أخي برأسه وراقبني بتركيز وسأل :" كيف تشعر؟". -" أشعر بالنبل". -" ألست مريضا؟" -" ليس مرضا جسديا. إنه ليس شيئا يمكنني تفسيره لك". وافق قائلا :" لا أظن أنه بإمكانك ذلك. ما اسمها؟". -" تيلما نيل". -" تيلما؟". كررت :" تيلما"، وأنا أستمتع بنكهة الإسم، وبهجته، وانعطافات لفظه. -" هل أنت متأكد؟". -" بالطبع أنا متأكد". قال أخي :" ذلك اسم غريب. ألا تلثغ في كلامها أو شيء من هذا القبيل؟". -" لديها صوت كالموسيقى". -" أوه. هل تعرف هي أنك تحبها؟".
قلت :" بالطبع لا"، وأنا أكاد أن أكون نادما لأني أطلعته على سري أصلا. على كل حال كان الأمر ضروريا، فالوقوع في الحب كان سيعقد حياتي، وهو ما أدركته من البداية بالضبط، وما كنت لأستطيع أن أذهب الى فريق لأتدرب كي أصبح عدّاء سباق الضاحية من أجل أن أعجبها من دون أن يعرف أخي ما الدافع وراء هذا التدرب. في ذلك الوقت كنا نداوم كلانا في مدرسة جورج واشنطن العالية التي كانت في الطرف الأعلى لجزيرة منهاتن. انتهى دوام المدرسة في الثالثة وأنهينا التسليم في السادسة، ومن ثم، لأننا ليس لدينا أم، حضرنا العشاء وأكلناه مع أبينا الذي يعود الى البيت من العمل في السابعة، وأنجزنا واجبنا البيتي وأوينا الى الفراش. الحب وحده ألقى أعباء جديدة على طاقتي، بالإضافة الى ركض الضاحية، وهو التكريس المقدس الوحيد المسموح لي بممارسته.
كان أخي بانتظاري عندما خرجت من صف اللغة الإنكليزية في اليوم التالي. -" أيهن؟". أراد أن يعرفها فأشرت له عليها. -" الطويلة؟". -" هي ليست غاية في الطول". -" إنها تبلغ خمسة أقدام وتسعة إنجات". -" أوه، كلا، كلا، أبدا، على كل حال أنا نفسي أبلغ خمسة أقدام وثمانية إنجات". قال أخي ببرود :" خمسة أقدام وستة إنجات". -" مستحيل. على كل حال تختلف نسبة الكبر باختلاف الأشخاص. أنا أباشر بنموي للتو فيما هي قد اكتملت، أقصد اكتمل طولها". -" كيف تعرف؟". -" حسن. كم يمكن للفتاة أن تبلغ من الطول؟". -" ما دامت تستطيع الاستمرار في النمو فهي تستطيع كذلك. ذلك منطقي".
سيطرت على رعشة الخوف التي اعتصرت قلبي. لقد كنت أتفهم قسوته، ولم أحمل له ضغينة. كنت أحمل في داخلي بعض الصفاء وتركت بعضه يتجلى على رد فعلي. قال أخي :" يبدو عليك أنك مريض. أتمنى أن تكون بخير. هي لم تنظر اليك حتى". -" هي لا تعرفني". -" حسن. لماذا لا تعرفها بنفسك". -" لا يمكنني ذلك الى أن يكون لدي إنجاز أضعه عند قدميها. لا أملك ما يجعلني شخصا في نظرها. هل لاحظت كم هي جميلة؟ لجمالها هذا سيكون أي شخص واقعا في حبها. ذلك طبيعي". قال أخي :" أنا لست واقعا في حبها". -" على كل حال....". سأل أخي :" ما الذي تعنيه بوضع إنجاز عند قدميها؟ هل ستشتري شيئا لها؟". مشيت مبتعدا. لم يكن مفيدا التحدث معه في الأمر، لم يكن مفيدا التحدث مع أي شخص. كان شيئا علي أن أكتمه في داخلي الى أن أنتصر في كفاحي لأجعل من نفسي ذا قيمة. لقد تفكرت أسبوعا. كان قد مضى على موسم مباريات كرة القدم زمن بعيد، وأنا في الرابعة عشرة فقط، وكرة القدم مشروع طويل الأمد ويحتاج الى الكثير من المهارات. إن الحب الذي كنت قد بدأت أكتشفه لم يكن شيئا ساكنا، بل قوة ديناميكية تحرك الشخص نحو الفعل المباشر، وعندما انتهى الأسبوع، تحولت نحو رياضة ساحة الميدان، فبعد كل شيء كم لاعبا من لاعبي كرة القدم يقيمون ألعابا أولمبية؟
أخبرني المدرب قائلا :" قدمك كبيرة جدا". سألته :" كبيرة بالنسبة لأية لعبة؟"، فقد كنت قد تدبرت أمري بهما جيدا حتى ذلك الوقت. أجابني :" بالنسبة الى العدو السريع". -" لا أفترض أن قدمي ستكبران أكثر، وأنا أهيئ نفسي". -" لا يمكننا الانتظار". رجوته :" ألا تريد اختباري؟". قال المدرب بصبر:" لا فائدة من الاختبار. لن تستطيع العدو سريعا بقدمين كهاتين". -" ألا يوجد شيء لا يتوجب عليك فيه العدو؟". -" قدماك ضدك. فلو أنك قفزت ستكون النتيجة نفسها. كذلك أنت صغير وخفيف، وهذا سيء بالنسبة الى رمي الكرة الحديدية أو القرص المعدني. إذا أردت المحاولة بالنسبة الى سباق الضاحية، يمكنك". -" سباق الضاحية؟". -"أجل. تقضي سنة في التدريب، وبعدها ربما سيعالج باقي جسمك مشكلة قدميك. إنه تدريب جيد، إذا كان قلبك سليما".
كان قلبي سليما، وفي الثالثة كنت بملابسي الداخلية أرتجف في متنزه فان كارتلاندت. كان اليوم كله باردا هاب الريح، ومئات من الأولاد الآخرين يرتجفون معي. ثم بدأنا، وللنصف الساعة التالية، عبر تلة ووادٍ، ركضنا شوط ميلين ونصف. ربما كان ذلك التعليم، بسبر الطرق الفرعية للمعرفة، كان مؤديا الى شيء أكثر قساوة وبلاهة من ركض سباق الضاحية، وإن كان الأمر كذلك، فقد فاتني أن أعرف ما الذي جعل باقي المجموعة تصمد، ولكن بالنسبة لي فإن الحب حملني الى النهاية وأنا ألهث. أخذت دشا والتحقت بأخي في تسليم الجرائد، متأخرا ساعة ونصف. لم أستطع أن أوزع الجرائد في الطوابق الثلاثة وأخبرت أخي بالسبب. تساءل قائلا :" هل تقصد بأنك ستستمر هناك وتركض ميلين ونصف كل عصر؟". -" أجل". -" ولكن لماذا؟" -" لأجلها".-" تقصد أنها طلبت منك أن تفعل هذا؟".
-" كيف أمكنها أن تطلب مني وأنا لم أتكلم معها أبدا؟".
-" من طلب منك إذاً؟".
-" لا أحد".
قال أخي :" أنت مجنون"، وهو ما توقعته، فعقله لا يستطيع الارتفاع أعلى من مستوى الأرض. كان هناك عدم ارتياح بيننا لباقي الأسبوع.
أحسست بشيء وإن كان بشكل غامض فقط لأن كل ما أدركه بوضوح قد عتمه ضباب قلق دائم. إن كان يوجد غرام رومانسي في تأريخ الغرب كله قد وصل الى نقطة انكسار، فهو هذا الحب، ويبدو لي بأنه ضحية حقيقية الى الهوى الرقيق الذي بقيت بعده أنا وإخلاصي متحدين فيه. على كل حال كان بقائي على إخلاصي هو من النوع المجازف وغير الواثق من النتيجة، وإن لم أكن قد مشيت في الظلام فقد مشيت بالتأكيد في ضباب رمادي، وقد كانت آثار ذلك في دراستي، إن لم تكن معبرة عن الحماقة بكل معنى الكلمة فهي على الأقل لا تحمل تحذيرا كافيا. أدركت أكثر من ذي قبل بأن علي أن أكون أفضل عدّاء ضاحية أنتجته أميركا في تاريخها لأحسن صورتي كشاب مضطرب متعب مفكك في عيون المرأة التي أحببت.
انتهت على نحو ما أيام الأسبوع الخمسة ومن دون أن أخسر اللطف الورع الذي كان هو الظاهرة الأكثر جلاء في هواي. لم يخفف عني فضولُ اخي المتجهم ثقلَ صليبي الذي أحمله. لقد حقق بأسلوب حيادي كليا معاناتي مع تحملي الجديد، فقد أتيت الى العمل متأخرا، ولكني أنجزت حصتي منه بالتأكيد.
الجريدة التي أوصلناها كانت جريدة ما بعد الظهر، باستثناء يوم الأحد الذي تصدر فيه صباحا. لقد عنى هذا أننا يجب أن نغادر فراشينا في الثالثة صباحا، ونسير مترنحين الى غرفة التجميع، ونقابل جبالا من المطبوعات الخبرية، وعند السابعة أو السابعة والنصف صباحا نكون متجهين مع حمل التوصيل ونتمكن من الذهاب الى البيت ونحصل على إغفاءة. عادة ما أكون تعبانا بما يكفي، ولكن فريق الضاحية، ومن قد يكون العقل الشيطاني خلفه، قرر أن يقوم بركض تكييف في يوم السبت خمسة أميال بدلا من اثنين ونصف، وعندما يحل يوم الأحد يكون تعبي المتراكم شيئا ظاهرا. اكتسى احترام أخي بمسحة من الخشية الآن، وقد اقترح علي بنبرة لطف أن أذهب الى البيت وأقضي أغلب اليوم نائما.
قلت :" كلا، سيكون هذا شيئا لطيفا، ولكني لا أستطيع، أنا ذاهب الى بيتها". -" تعني أنك قابلتها، أنك تحدثت اليها؟ دعتك الى بيتها؟". -" ليس بالضبط". أومأ أخي بإعجاب :" تعني أنك ستذهب الى هناك وتقدم نفسك؟". -" وذلك ليس بالضبط أيضا. أنا ذاهب لمجرد الوقوف خارج بيتها". -" الى أن تخرج؟". وافقت قائلا :" أجل ... أجل، هو ذاك". اقترح أخي قائلا :" ألا ترى بأن عليك الحصول على قسط من النوم أولا؟". -" لا يمكنني أن أحصل على هذه الفرصة". -" أية فرصة؟".
لم أحاول الشرح لأنه توجد أشياء لا يمكنك شرحها. كان بيتها في بناية بأربعة عشر طابقا تقع في ريفرسايد درايف، وقد آذاني انعدام قدرتي على الشرح ودوخني فقد وسع الفجوة بيني وبينه. جعلني أفتش في ذاكرتي عن أي شاهد على أن أميركا بلد تم فيه تكريم عدّاء الضاحية ولو بالترشيح لأقنعه بصواب مسعاي، ومن جانب آخر، لكي يزداد وقوفي بالانتظار صعوبة كان للبيت مدخلان، واحد على شارع درايف والثاني على شارع جانبي. لم تكن توجد مسطبة خشبية أراقب منها المدخلين، فكان علي أن أقوم بمراقبتي في ملتقى الشارعين عرضة للريح، وأنا أتفكر بكآبة في حقيقة أني حتى ولو كبرت بما تبقى لي من النمو فإني لم أكن أعاملُ قدميّ، بوقوف كهذا، بأسلوب يضمن إما إبقاءهما بحجمهما الحالي أو أحافظ عليهما للركض. توجد أماكن باردة في الأرض، توجد أماكن كُتب عنها عمل أدبي كامل حول البرد المحيط بها، ولكنها لا تُقارن بزاوية شارع على ريفرسايد درايف في صباح غائم من شهر تشرين الثاني. ذلك كان بردا خصوصيا، لطيفا، رطبا، بردا ثاقبا يزداد ببطء مناسب لأن تهلك بأقل ألم. عند الثانية عشرة انتهيت من تكريس نفسي للحياة وكرستها للموت. كانت توجد حدة في إدراكي بأنه من الممكن أن أموت هكذا، على عتبة بابها، صحيح أنه باب لكل ساكني البناية، ولكنه بابها أيضا، ويمكن أن لا تعرف بأني سأموت هنا. مع ذلك ألا يجدر بها أن تعرف؟ عندما تنظر الى وجهي الشاحب الأبيض، والثلج يكسو رموشي، ألن يخبرها هذا بشيء ما، فتندم لأنها أبدا لم تشر إلي بكلمة أو إشارة؟
في ذلك الوقت تقريبا ظهر أخي، وكان يحمل حقيبة بنية تحت ذراعه. قال :" جلبت لك غداء". دمدمت :" شكرا لك. لطف وطيبة منك أن تفكر فيّ، ولكن الطعام لا يهمني". -" ماذا؟". قلت بلطف :" لم أقصد جرح مشاعرك". هز أخي رأسه :" لا بأس"، كان قد بدأ يدرك بأن المرء يشعر بالحب بطريقه بذهن منفتح". -"جرب سندويجا، أرى أن نذهب الى مسطبة ونجلس". -" كلا... لا يمكننا". -" لِمَ لا". -" يجب أن أراقب كلا المدخلين، إذا أردت أن تراقبهما عليك أن تقف هنا لتراهما". -" ألن تبحث عنك حين تخرج؟". هززت رأسي بالنفي قائلا :" إنها لا تعرف أني هنا". -" ماذا؟". -" أنت تواصل القول ماذا. أظنك لا تفهم ماذا يعني هذا لي". -" كلا، أظن أني لا أفهم". سألت أخي :" كيف تعرف أني هنا وأنا لم أتكلم معها؟". -" إذن ما الذي تنتظره هنا؟". أجبت ببساطة وأنا آكل السندويش :" أنتظرها لتخرج". -" ثم ماذا؟". -" أراها". -" ولكنك تراها كل يوم أليس كذلك؟". -" أجل". نظر إلي أخي مدققا وقال :" أوه". -" ما الذي تعنيه بقولك أوه؟". -" لا شيء، ولكن ما العمل في حال لم تخرج؟". -" لا بد من أن تخرج عاجلا أم آجلا". سأل أخي عارضا أمامي التصور البارد للمنطق :" لماذا؟ إنها في يوم كهذا تكون في غاية الذكاء لتقرر البقاء في البيت. يمكنها البقاء في البيت وتقرأ مجلات التسلية، وربما أيضا هي تقيم حفلة هناك ويأتي أناس من كل صنف لزيارتها". -" توقف عن كلامك هذا!". قال أخي :" أنا أحاول أن أكون منطقيا لا أكثر". -" أنت لا تعرف كم تؤذيني، ولو عرفت لما تكلمت هكذا".
غادرني قاصدا أني إذا كنت أولي نصيحته القليل من الاهتمام فيمكنني الاستمرار بمراقبتي وحدي، وتركني لتأملاتي وللتركيب غير المعقول للريح الرطبة التي تهب علي من جهتين في الوقت نفسه. لم يكن أعلاي سيئا جدا فقد كنت أعتمر قلنسوة صوفية ومعطفا قصيرا اعتدنا على أن نسميه ماكينو. لكن قدميّ لاقتا معاناة. كان أمرا ساخرا أن أرى أني قد لن أكون عدّاء بسببها، وحتى مسألة المشي السهل والبسيط أخذت تثير الشكوك في عقلي.
غربت الشمس خلف الأسيجة والشرطي المتمشي أخذ ينظر إلي بريبة عندما ظهر أخي مرة أخرى. قال :" ألم تخرج بعد؟" -" أنا أسمى من أي شيء تستطيع قوله". -" حسن. لكن أبي يرى أنك يجب أن تأتي الى البيت". -" هل أخبرته؟". -" ليس بالضبط". -" كيف سمحت لنفسك". طمأنني أخي قائلا :" الأمر من ناحية أبينا على ما يرام". -" كيف يمكن أن يكون على ما يرام؟ كيف يمكن لرجل بعمر أبي أن يعرف بما أنا أمر به؟ حتى أنت لا يمكنك أن تفهم". قال أخي :" أحاول، لا تفكر بأني لا أريدك أن تصبح عدّاء ضاحية عظيما، لأن تفكيرك هذا لن يكون صحيحا". -" أنت لا تفهم حتى بأن اهتمامي الوحيد في ركض الضاحية اللعين هذا هو لأني أريد أن أضع شيئا عند قدميها". -" أنا أشعر بأنه يتوجب عليك تقديم نفسك، وعندها إذا خرجت فيما أنت واقف هنا تكون تعرفك. عليك أن تقر بأن هذا سيكون ميزة لصالحك".
كان كلامه صحيحا. علي تقديم نفسي، وفكرت فيه مليا حتى يوم الأربعاء من الأسبوع التالي، ولأنه بدا أن أقوم بما يتوجب علي في الجو الممطر في متنزه فان كورتلنت، حملت قلبي على يدي وأوقفت تيلما نيل عندما دق جرس الانصراف، وفيما أنا أرفع نظري اليها رأيتها إلهة اغريقية أكثر من أي وقت مضى. سألتها كيف تذهب الى البيت فأجابت: "بالحافلة". -" هل تذهبين وحدك؟" قالت: "أحيانا". -" هل تحبين الجلوس في الطابق العلوي المكشوف؟". قالت: "أحيانا". تدبرت أمري قائلا :" هل أستطيع العودة الى البيت معك اليوم؟". قالت :" إن كنت تريد؟".
مشيت طائرا في الهواء وقلبي يدق مثل مطرقة كهربائية، حتى أن يدها لامست مرة يدي للحظة. كانت في الخارج ريح شمالية شرقية تهب، ووجدت حافلة بطابق علوي مكشوف. قالت عندما جلسنا في أعلى الحافلة :" إن الجو بارد هنا". لقد امتلكنا الطابق العلوي، لوحدنا ولا أحد معنا، وكل العالم تحتنا". -" ستعتادين عليه". قالت :" وأظنها ستمطر". -"ربما لن تمطر، وعلى أية حال هذا من حسن حظي لأنه لا يوجد تدريب على ركض الضاحية". قالت :"أوه". قلت :" أنا شكلت الفريق". -" نعم؟ ألا تظن بأننا يجب أن ننزل الى الطابق السفلي؟". -" ستعتادين عليه بلمح البصر. يوجد سبعون رجلا في الفريق، ولكنها من الرياضات الممتازة". قالت :" أوه" وقلبت ياقة معطفها الى الأعلى وأحكمت لفه حولها وحدقت أمامها مباشرة. تحدثت حديثا قصيرا بأفضل ما يمكنني، ولكنها لم تسترخ، إلا لترتجف بين الحين والآخر، حتى أني انعطفت في حديثي مرة أو مرتين للتعبير عن مشاعري، ولم تبد هي تجاوبا. ثم بدأ قطر مختلط ببعض البَرَد، ليس شديدا أول مرة، والحقيقة أنه لم يكن بالنسبة لي ملحوظا. قالت :" أعتقد بأنه يجب أن ننزل الى الأسفل". -" أوه، كلا. كلا. إن الجو لطيف هنا، ففي الأعلى هنا يمكنك أن تري كل شيء". -" حسن، أنت دفعت الأجرة". -" ذلك لا يهم. أنا دائما أدفع الأجرة حين آخذ أحدا بالحافلة". أرادت أن تعرف متسائلة :" ألست شاعرا بالبرد؟". -" كلا، كلا....".
ازداد البَرَد، ثم أخذت تمطر. جلست مستندة الى الحاجز للحظة أو لحظتين، ثم قامت ومشت الى آخر الحافلة ثم نزلت الى الطابق السفلي. تبعتها، ولكني لم أستطع التفكير بأي شيء آخر الى أن وصلنا الى بيتها. قالت :" لقد نقعت، نقعت بكل ملابسي، وكله خطأك". -" مجرد بلل خفيف". -" كلا. نقعت. أنا بخير وناقعة. شكرا لك لأخذي الى البيت". أخبرت فيما بعد أخي بما جرى وعلق قائلا :" ها أنت. لا تستطيع أن تقول". قلت :" أنا أعشقها أكثر من أي وقت مضى". -" حسن....". -" ما الذي تعنيه بقولك حسن؟". -" لا شيء. فقط أن الفتيات الطويلات لا يعجبهن الرجال قصار القامة، وذلك أمر يستدعي التفكير فيه أيضا". -" أعتقد بأن السبب غالبا كان هو المطر. أظن أنها رقيقة". -" إن كبرها لا يناسبه أن تكون رقيقة". قلت :" ولكنها حساسة. لن تفهم أنت ذلك".
لم تكن في المدرسة في اليوم التالي ودخلت أنا كل عذابات من كتب الله عليه العذاب. قال أخي :" اتصل بها". -" أتصل بها؟". -" بالتأكيد. هاتفها. أنت تعرف عنوانها. ابحث عن رقمها في دليل الهاتف واتصل بها. سترى هي هذا منك اهتماما كبيرا بها". فعلت كما قال فرد علي صوت سيدة قائلا ببرود :" تيلما مريضة". -" هل يمكنني التحدث معها؟". أجاب الصوت :" كلا لا يمكنك"، وأغلقت الهاتف.
لم أكن أتمنى أن يتعذب أي شخص بالطريقة التي تعذبت بها في الأيام القليلة التالية. كل ما استطعت التفكير فيه هو أن ما يحصل لي هو كفارة ذنوب. لقد قرأت كيف أن أناسا قضوا حياة بكاملها يكفِّرون عن خطأ شنيع اقترفوه. تخيلت نفسي أسير في جنازتها. لا أحد يعرفني، ولكن لا حزن كحزني. لأن معنى كل ما قلته ونفذته هو أني ذبحتها، أنا وليس غيري. إن حياة بكاملها لن تكون كافية للتكفير عن هذا الفِعْل مني. قررت أن علي فعل أفعال الخير. حبي لن يتغير أبدا، ولن يضعف. سيراني الناس كقديس، وهم لا يعرفون بأن الحقيقة الوحيدة هي أني قاتل، وحتى ركضي الضاحية قد عانى، وبدلا من تحسن سرعتي تخلفت. استدعاني المدرب لهذا السبب، ولكن ما الذي يعنيه لي ركض الضاحية الآن؟
وجاء يوم الاثنين، وظهرت في المدرسة، وأخذ قلبي يغني من جديد. كانت أكثر شحوبا، ذلك صحيح، ولكن الشحوب أضاف الى جمالها جمالا. ذهبت اليها وقلت :" كنت مريضة، وأنا آسف. كانت تلك غلطتي....". لقد فكرتُ في كلامي مليا قبل أن أقوله ولكنها لم تدعني أكمله، وبدلا من ذلك انفجرت قائلة " أنت ولد صغير مرعب مقرف. رجاء لا تتكلم معي مرة أخرى".
فوَّت ركض الضاحية ذلك اليوم. توجهت الى العمل في الثالثة وهز أخي رأسه بكآبة عندما رأى وجهي. سألني :" ماذا حدث؟".
-" العالم ينتهي، وأنت تريد أن تعرف ماذا حدث؟".
-" ستبقى تأخذ الطوابق الثلاثة العليا، أليس كذلك؟"
قلت بحزن :" أجل، لا يهم. لازلت أعشقها. سأبقى دائما أعشقها، أظن ذلك".
عندها رأيتني في المستقبل رجلا قاسيا متجهما أدار وجهه عن جميع النساء. لن يعلمن ولا هي ستعلم.
****
مصدر القصة:
The Howard Fast reader : a collection of stories and novels, Crown Publishers, 1960
هوارد فاست 1914-2003 روائي وكاتب سينمائي وتلفزيوني أميركي، طبع له من الروايات ما يزيد على 70 رواية وعشرات القصص والمسرحيات وغيرها باسمه هذا وبأسماء مستعارة. صدرت له أول رواية (الواديان) سنة 1933 وهو في الثامنة عشرة من عمره. قرأنا له مترجما من كتبه التي تحولت الى أفلام (سبارتاكوس) و(طريق الحرية) الذي مثل فيه محمد علي كلاي و(توم بين) و(عذاب ساكو وفانزيتي) وغيرها. تعرض فاست للمضايقة والتحقيق لميوله الفكرية اليسارية وقد سُجن وتم منعه من العمل في الأدب والسينما لسنوات.