
شكلت أعمال الكاتب العربي نجيب محفوظ ملحمة الزمن الروائي الذي ينتقد، ويتخطى، هموم، ومشاغل، المجتمع المصري خلال فترة ربع قرن، فرصدت عدسته الروائية المجتمع المصري في صيرورته، وتطوراته، وبكل عمق وشجاعة، وأزالت الثوب الذي كان يرتديه ذلك المجتمع (كثياب الإمبراطور) غير المرئية، وكشفت كل سلبياته، وأزماته، وانهياراته، هذا المجتمع الذي كتب عنه أدب سردي ،وافد على الثقافة العربية، إلا انه غير جديد عليها لانقطاعه أكثر من خمسمائة سنة عن تاريخنا السردي الشفاهي، والمكتوب، بصيغته السردية الجديدة التي تختلف عن حكايات ألف ليلة وليلة، والقصص الشعبي.
والفن السردي ينهض على عناصر كثيرة أهمها الشخصية، أو الجماعية، وكذلك الشخصيات غير الحية، وهذه الشخصية تقوم بأمر ما، أو حدث ما، أو فعل ما، ويتناولها بعين الراوي بصيغه العديدة، وليس بعين المؤرخ المختص. والشخصية تعد عنصرا أساسيا من عناصر السرد.
الشخصية عند نجيب محفوظ، ودون الدخول في متاهات تعريفها، وأنواعها، ومقوماتها، لأن هذه معروفة للمتخصصين خاصة. ويمكن أن تقسم من حيث قيامها بدور أساسي في السرد الى ثلاثة أنواع، شخصيات الفعل الجماعي، شخصيات الفعل الفردي، وشخصيات غير حية.
والنهاية المأساوية موجودة في أغلب نصوصه السردية، وهي ظاهرة واضحة في هذه النصوص، وربما كانت هذه المأساوية، عندما تكون في النهاية، هي من إدراك الكاتب للدور الكبير، والفاعل، في تلك النصوص.
ما قدمه من واقع مر ممزوجا بخيال خصب هو هذا المتن، والنوع، الهائل من فنّه السردي الذي قرأت عنه في السبعينيات من يصفه بصخرة الرواية العربية التي لم يجتزها الغير. وقد أكد محمد عبيدالله في كتابه الجديد (الرواية العربية واللغة: تأملات في لغة السرد عند نجيب محفوظ، الصادر عن دار أزمنة بالأردن) ذاكرا: ((ولكننا لا نخشى من القول إن القمّة التي بلغتها أعماله لم تتجاوزها أو تقترب منها الأعمال المعاصرة له أو اللاحقة لتجربته، وهو في ذلك يمثل تحدّياً محفّزاً للرواية العربية الجديدة)).
فيما يذكر الناقد إبراهيم فتحي في كتابه (العالم الروائي عند نجيب محفوظ - الهيئة المصرية العامة للكتاب2012): ((هل تشكل المرحلة الأخيرة من إنتاج محفوظ، التي سميت بالمرحلة الفلسفية أو الفكرية، انقطاعا في استمرار عالمه الروائي القديم؟، هل يمكن اعتبارها تطورا جديدا يقدم رموزا لمأساة الإنسان في العصر الحديث، هل كان عالمه القديم تعبيرا عن علاقات راسخة مستقرة مرصوفة الشوارع، تزرعه شخصيات ترتدي أخلاقيات قاطعة التحدد، وتدون معالم حياتها النفسية في بطاقاتها الشخصية، بينما أصبح عالمه الجديد تعبيرا عن وضع انتقالي يملؤه التطفل للنائمين يتثاءبون أسئلتهم عن معنى الحياة؟)).
***
الصفة الرئيسية التي يتصف بها محفوظ هي صفة الإبداع، أما مواقفه السياسية فهي صفة ثانوية لا ترقى للصفة الأولى، ولا تنافسها بل تنسى في حومة الاشتغال بالصفة الأولى، وان ما تبقى منه هو إبداعه الروائي.
***
أنواع الشخصيات عند محفوظ:
فيما نقدمه في هذه السطور هو بعض ما قدمه محفوظ من شخصيات ظلت علامة فارقة في الأدب العالمي، والعربي خاصة. ويمكن تقسيم هذه الشخصيات التي ستتناولها هذه السطور إلى:
1 – شخصيات حية:
وتقسم إلى نوعين:
أ – شخصيات الفعل الجماعي:
عندما نقول بطولة جماعية فهذا لا يعني ان مجموعة من الشخصيات تقدم بطولة جماعية في حدث ما، وإنما نعني ان هذه الشخصيات هي الرئيسية في هذه القصة، أو الرواية، لها القول الفصل فيما تقدمه تلك القصة، أو الرواية، من أحداث، وحوادث.
فعندما تنشأ الرواية على مجموعة من الشخصيات المحلية، أبناء البلد، فإنها تقوم بتقديم حكاية محلية الطابع لا تعيش في أبراج عاجية، أي أنها تقدم حكاية مستلة من الواقع، غير مفارقة له، واقع معاش، وملموس، ومحسوس، وليس واقعا خياليا مفارقا للواقع الحقيقي بأية درجة كانت. هذه الرواية تقدم حكايتها اعتمادا على شخصيات هي الأخرى تتسم بالواقعية، شخصيات من دم، ولحم، وأعصاب، ولا تعيش في الخيال الذي يفارق هذا الواقع إلا أنها مرسومة بالقلم على الورق، وتحمل نبض المؤلف من دون أن تتوافق معه في الأفكار.

فاعلية النص:
* أولا: في رواية "ميرامار"، مثلا، نجد مجموعة من الأشخاص الذين يتناولون في نقاشهم حكاية الثورة الاشتراكية في مصر جمال عبد الناصر. من خلالهم نعرف رد فعل الطبقة العليا من الشعب المصري تجاهها، تلك الطبقة التي استفادت من سياسة النظام السابق للثورة.
أمامنا مجموعة رموز، وقد استلت من هذه الطبقة المستفادة من النظام السابق للثورة، ويمكن أن نضع كل رمز في خانة واحدة، وهو يمثل النوع الذي يرمز إليه، إذ أنها رواية أصوات متعددة، من دون أن يترك محفوظ صوته يطغى على الأصوات كافة. فالأحداث نفسها تروى من عدة شخصيات لها خلفيات سياسية، واجتماعية، مختلفة، وبالتالي تنظر للثورة بوجهات نظر مختلفة، لقد تحطمت مسيرة نظام ما قبل الثورة في نفوسهم، وضاعت آمالهم. هذه الشخصيات هي:
- عامر وجدي: في الثمانين من عمره، صحفي، متقاعد، وكان شاهدا على الكثير من الأحداث، ليس له عائلة.
ـ طلبة مرزوق: من الأعيان، ووكيل لوزارة الأوقاف سابقا، تحت الحراسة القانونية، وجرّد من أملاكه.
ـ حسني علام: وهو شاب من مدينة طنطا، لم يحصل على التعليم المطلوب، جاء للبحث عن فرصة استثمارية.
ـ منصور باهي: شاب من شباب الثورة، يعمل مذيعا في إذاعة الإسكندرية، يحب زميلة الدراسة درية، التي كانت تبادله ذات الشعور ولكنها تقرر الزواج بأستاذها الدكتور فوزي، وهو أستاذ العمل السياسي لمنصور الأمر الذي يدعوه إلى كتمان حبه، يسكن في البنسيون للهروب من ظروفه الاجتماعية.
ـ سرحان البحيري: شخص انتهازي، نجده مرة يعمل في تنظيمات ثورة يوليو، ومرة عضو في مجلس إدارة شركة الغزل في الإسكندرية، يشترك مع اللصوص لسرقة الشركة التي يعمل فيها. انتهى نهاية مأساوية بموته.
ـ زهرة: شابة من الريف المصري، هربت من أسرتها بعد أن أرغمت على الزواج برجل كبير السن، من أجل المال، فتسوقها الأقدار للعمل في البنسيون. تقابل سرحان البحيري وتقع في حبه، وتقرر إكمال تعليمها، ولكنها تتعرض إلى الطرد بعد حصول بعض الأحداث، وكان مصيرها غير معلوم.
هذه الشخصية تشكل في الرواية، وكذلك عند أي دارس لتلك الرواية المحور التي تبنى عليه دراسة الشخصية الرامزة لابن المجتمع المصري، وهو يخوض تقلبات السياسة بعيدا عن ذلك المجتمع.
- ماريانا اليونانية: سيدة تبلغ من العمر ما يقارب 65 عاماً، يونانية الأصل، تمتلك بنسيون ميرامار، وتعمل في أدارته منذ زمن ليس بالقليل. وترى هذه الدراسة أنها ترمز للأجنبي الذي يدير دفة البلد.
هذه الشخصيات/ الرموز تلتقي في بنسيون "ميرامار" صدفة لتجتمع على رفض النظام الجديد كل حسب قناعاته الذاتية.
تنظر هذه الشخصيات لمجريات الأمور من زوايا متعددة، ولكن مختلفة، ومتباينة.
***
* ثانيا: جسدت رواية "ثرثرة فوق النيل" برؤى فلسفية، ما كانت تكنه شخصياتها المخدرة حد الثمالة بكل عبث، وهروب عن الواقع، هذا الواقع المزيف، والخادع، الذي يصل حد الاغتراب. هذه الشخصيات المعزولة عن العالم في العوامة، وهي مكان قلق لا يستقر، انه فوق سطح الماء المتموج، وهي تقدم رؤية مستقبلية لواقع المجتمع المصري الضائع، هذه الشخصيات تنظر بعين فلسفية، ان نقاشها نقاشا فلسفيا ببعد وجودي، في حين أنها فاقدة العقل، والوعي، لا تدرك الأشياء، منطلقين من واقع مأساوي، مر. تربط بينهم رابطة واحدة هي العربدة، وإدمان تعاطي الحشيشة؟
الشخصيات هي:
- أنيس: موظف حكومي، مثقف، ساخط على الواقع.
- أحمد نصر: وهو موظف، محافظ.
- مصطفى راشد: محامي، متذمر.
- علي السيد: حياته غير محافظة.
- خالد عزوز: روائي ورث عمارة فهو عالة على المجتمع.
- رجب القاضي: زير نساء.
- سمارة: صحفية تسللت للعوامة لتكتب مسرحية عما يجري في العوامة.
- حارس العوامة، مؤذن، وفي الوقت نفسه يعمل قوادا لأصحاب العوامة.
ترمز هذه الشخصية الى المجتمع الذي فيه الدين، والجنس، هما المعبران عنه.
ان المفارقة الكبيرة التي يقدمها محفوظ في هذه الرواية هي انها سبقت هزيمة عام 67، وكان السبّاق في كشف الهزيمة، وما انتهت إليه.
لقد استشف محفوظ رؤيته المستقبلية، وقال كلمته الحاسمة، كالرائي العظيم الذي يرى ما لم يره الغير.
((فقد طحننا اللاشيء. لم يعد للقلب من هم يحمله منذ دفن في التراب أعز ما كان يملكه. لم يبدع الإنسان ما هو أصدق من المهزلة)).
المهزلة هي التي جاءت بالهزيمة، أو ان الهزيمة قد جاءت بالمهزلة، لا فرق بين الاثنين. لا فرق بين العوامة، وبين ميرامار الفندق، الاثنان يحدث فيهما حكي عن النظام الجديد، الاثنان ينتقدانه، الاثنان يبشران بالهزيمة التي تؤدي بالمهزلة، أو ان المهزلة هي التي جاءت بالهزيمة؟
***
* ثالثا: قال نجيب محفوظ في حوار معه:
((اليوم طرأ عليّ تطوّر جديد يمكن تلخيصه في كلمتين هما: الاشمئزاز من الأسلوب الغربي الذي التزمت به طوال حياتي، اشمئزاز وجداني ليس إلّا، أي من دون اقتناع عقلي به. فليس لي اعتراض عقلي على هذه الأساليب وما تؤدّيه من خدمة للعمل الفنّي. ولكنني ضقت بها وجدانيّاً. فبعد أن انتهيت من روايتين هما «قلب الليل» و«حضرة المحترم»... كتبت «حكايات حارتنا» - نُشرت قبلها لأسباب اضطرارية - وهي رجوع إلى الحكاية الشرقية. ولم يكن من المستطاع أن أستمرّ في الكتابة من دون هذه المغامرة. و«حكايات حارتنا» ليست قصصاً قصيرة وليست رواية ولكنها بين بين. فيها حكايات ولكنها مستخدَمة لهدف روائي، وبها وجدت نفسي في آخر أطوارها في أحضان وطني القديم))( «حكايات حارتنا» لنجيب محفوظ ... رجوع إلى الحكاية الشرقية- ريتا عوض – مجلة العربي - العدد (679) - إصدار (12 - 2016).
في رواية (أولاد حارتنا) نجد محفوظ قد غادر أسلوب الرواية القديمة من تسلسل زمني متتالية الأحداث، وألغى حبكة النص، وبصورة عامة كتب على منوال الحكاية الشعبية في ألف ليلة وليلة، وفي الحكايات الشعبية.
الشخصية فيها هي رمز لأمر ما. فالجبلاوي، وأدهم، وإدريس، وغيرهم، شخصيات رامزة لما هو أبعد من المجتمع المصري، وفي الوقت نفسه تصب في ذلك المجتمع.
فقد اختار محفوظ هذه الشخصيات ليجسد من خلالها واقع الأرض، أي يقدم واقع السماء ليرمز لواقع الأرض، واقع مصر، واقع المجتمع المصري، لتعكس، بذهنية فلسفية متمكنة، رحلة الكائن البشري في الحياة، هذه الرحلة الوجودية التي تركت الإنسان لوحده يصارع الحياة، إنها وجودية مأساوية.
***
ب– شخصية الفعل الفردي:
يهتم محفوظ كثيرا بشخصية الفرد، وهمومه، ومشاكله، مما يدفعه الى النظر الى شخصياته هذه نظرة فلسفية انطلاقا من الفلسفة الوجودية المأساوية التي تضع الإنسان الفرد في مركز اهتمامها من حيث قيمته، ووجوده الإنساني، دون أن تنسى ان المجتمع الذي تربى، ونما فيه، يؤثر عليه، وفيه.
عندما تقوم الشخصية في النص السردي لوحدها من دون أن يشاركها شخص آخر نقول ان فعلها، أو ما يمكن أن نسميه بطولتها، هو فعل شخصي نابع من ذاتها، أو من اختيار المجتمع (المؤلف) لها.
وإذا كان محفوظ قد قدم روايات، وقصص، قد أوصلته الى نوبل، فإن ما قدمه من شخصية "سي السيد"، وكذلك شخصية أمينة، في الثلاثية، ستوصله إلى نوبل بدون إنتاجه السردي كله. لقد قدم محفوظ أغرب الشخصيات الروائية، ومن أكثرها إتقانًا، وإقناعًا فنيًا، في الثلاثية، أحمد عبد الجواد، وأمينة زوجته، وظلا في ذاكرة قارئ الثلاثية، أو شاهدها مجسدة على الشاشة الكبيرة. وكذلك شخصية "كامل رؤبة لاظ" في رواية "السراب".
* أولا: كان أحمد عبد الجواد "سي السيد" هو الشخصية المركزية التي حملت على عاتقها أحداث، وشخصيات، وما تحمل من موضوع مهم هو ما كان يحدث في المجتمع المصري وقت وجود الانكليز، أجزاء الثلاثية التي قدمها محفوظ، وقد أجاد.
كانت شخصية "سي السيد" تعيش حياتين متباينتين، شخصية بوجهين، وجه داخل البيت، ووجه خارجه. شخصية الرجل الشرقي باستبداده. العربي بتقاليده، وعاداته، البدوية، الصحراوية. المسلم بما ورث من الأفكار الاسلامية ذات المنشأ الرجالي. كان خليطا من كل ذلك. وأيضا كان أحمد عبد الجواد خارج البيت بانفتاحه على الغير، وبمغامراته الجنسية، وحفلاته الصاخبة، الحمراء، في الليل، وكان نجيب محفوظ هو الروائي الذي يستطيع بناء مثل هذه الشخصية لما امتلكه من قدرة عالية في بناء الشخصيات.
***
* ثانيا: تأتي شخصية "كامل رؤبة لاظ" الشخصية الثانية التي بمقدور روائي مثل محفوظ أن يبنيها بناء ابداعيا، ويقدمها كشخصية عاجزة عن فعل ما هو ضروري، كالتردد عند اتخاذ الموقف النهائي، وعدم توافقه مع محيطه الاجتماعي، ورفضه الاندماج مع الآخرين. هذه الشخصية بالمنظور النفسي هي شخصية تتماهى، وشخصية "أوديب" كما حللها فرويد. كل هذا سبب عجزه الجنسي مع زوجته، فكان شخصية تقف أمام زوجته ليلة عرسه موقف الرجل الذي لا يستطيع القيام بواجباته الزوجية لأنها تشبه أمه، أما أمام المرأة المومس، والقبيحة، خارج البيت فهو الرجل القادر على عمل كل شيء. وأيضا يكون قاتلا لزوجته، وأمه، في الوقت نفسه، وبهذا انحلت عقده الجنسية، أي فقد الأم، والزوجة، عند انحلال تلك العقد، وذهبت عنه حالة العجز كما ذهبت حالة العجز عن الضياد جودر عن قتل شبح الأم في أسطورة جودر الألف ليلة.
***
* ثالثا: في نص "اللص والكلاب"، وهو النص الذي يحمل تصادم محفوظ مع أفكار ثورة 1952 قدم سعيد مهران بخلفية وجودية باهرة، بكل ما كان يحمله الفرد الذي يحاول أن يقف أمام المجتمع الفاسد، ويتحداهم سياسيا فيعود عليه هذا التحدي بإختلاق أزمات نفسية، واجتماعية، وكانت نهايته المأساوية هي ما كان يبحث عنه من الانتقام من نبوية، وعليش، أو من الصحفي رؤوف علوان، وهي الموت، إذ تلقي الشرطة القبض عليه، ويكون مصيره السجن، أو الاعدام، أي الموت.
يقول سعيد مهران: ((ولكني واثق من أنني على حق)) هذه وجهة نظره هو. إذن نتساءل: الحق مع مَن، مع سعيد، أو كان مع الآخرين الذين ناصبوه العداء؟
كانت أزمة سعيد مهران أزمة البطل الفرد أمام المجتمع الكلي الذي واجهه.
***
* رابعا: بين وجود الله، وعدم وجوده، كانت رواية "الطريق" رحلة صابر للبحث عن أبيه سيد رحيمي الذي اسمه يتماهى مع الله، وقد أنكرت أمه وجوده حيا عندما كانت على قيد الحياة، أما، وهي تنازع سكرات الموت فقد أوصت ابنها صابر بالبحث عنه، لأنه على قيد الحياة. انها رحلة وجودية للعودة من الالحاد الى الايمان، إلا انها لا تتم، فقد مات قبل أن يلتقي بوالده رحيمي بسبب أمر حدث عرضيا له، هو قتل زوج حبيبته "كريمة" صاحب الفندق الذي يسكنه. إذن رحلة الايمان لصابر لم تتم.
ان صابر، والاسم له دلالاته الخاصة الرامزة، كأغلب شخوص محفوظ رامزة لشيء ما، فطريقه يرمز للايمان المفضي الى السلام، والاستقرار. لقد كان صابر ضحية لواقعه المرتبك، والغائم، والمضطرب، إذ يصل في نهاية بحثه الى سراب ليس إلا.
انه منقسم بين طهر "إلهام"، وتعهر "كريمة"، وفي النهاية يختار "كريمة" فيؤدي طريقها الى الموت.
والطريف ان "كريمة" تشبه أم صابر في الأخلاق، والسلوك، وفي رواية "السراب" نجد الأمر نفسه، فأم "كامل" تشبه زوجته في الجمال، فلا ينجذب إليها، فيما في الطريق ينجذب الى الشبيه لأنه عاش في أجواء ملوثة فيبحث عن السلام، والأمان، والايمان بهم، فيما كامل عاش في أجواء نظيفة يبحث عن أجواء مغايرة لها.
الروايتان تقفان على ضفتين مختلفتين. هذا الانقسام بين المرأتين عاناه "كريم الناصري" في رواية "الوشم" للروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي بين "مريم عبد الله" التي تمثل العهر، وبين "يسرى" التي تمثل النقاء، والطهر.
***
* خامسا: في مجموعة (تحت المظلة) قصة "الحاوي خطف الطبق" يقدم محفوظ، قصة طفل صغير، وفي يوم واحد، انتقاله بين اتباع الأوامر التي يتبعها الطفل إلى التعلم من الأخطاء التي تمر به، ثم الأسطورة، بعدها يأتي الحب البريء، فالشهوة، لينهي محفوظ اكتشاف الطفل للجريمة، وهذا الانتقال يمثل التطور البشري عبر التاريخ.
كان محفوظ مدركا لما مر به تطور البشرية، وفي الوقت نفسه استطاع أن يختار الشخصية التي تمثل تطور البشرية من خلال طفل غير مدرك لما مرّ به.
ان اختيار الطفل جاء ليرمز الى حياة الكائن البشري في أوّل مراحل حياته في الكون، ثم تتوالى التطورات عليه من داخل ذاته.
***
2- شخصيات غير حية:
في السرديات الحديثة يأخذ المكان حيزا كبيرا في ذهن كاتب النص، وقارئه. فدور المكان هام في النصوص السردية لمحفوظ، فهي تلعب أدورا كبيرة في نصه السردي، ان كان نصا روائيا، أو نصاً قصصياً، ويمكن أن نقف على ثلاثة أمكنة لعبت دورا كبيرا في النص، وهي أماكن معزولة عن الشارع، والبيت، وفيها مجتمع مصغر قد اختير بعناية ليمثل المجتمع المصري الكبير. هذه الأماكن التي نصفها بالشخصيات هي:
أ - البنسيون ميرامار: وهو الفندق الصغير، أو ما يشبهه، إذ يجتمع فيه بعض الناس من مشارب عدة، أو من مشرب واحد، فقد اجتمع فيه كل من: - عامر وجدي، طلبة مرزوق، حسني علام، منصور باهي، سرحان البحيري، زهرة، ماريانا اليونانية، فكان دوره فاعلا في جمع هذه النماذج لطرح آرائهم عن منجزات ثورة يونيو.
***
ج – عوامة الثرثرة: استمدت بطولتها عن طريق ضمها لحديث الناس الذين منهم: أنيس، أحمد نصر، مصطفى راشد، علي السيد، خالد عزوز، رجب القاضي، سمارة، حارس العوامة، إذ انها لعبت دورا كبيرا في النص، فلولاها لما وصلنا النص كاملا، ولما تعرفنا على أحداثه، وشخوصه، وأفكارهم.
***
د – المقهى "الكرنك": إضافة لهذه الأماكن التي تعد أماكن مغلقة، فان المقهى مكان مفتوح على الأصعدة كافة لتغير رواده بين فينة، وأخرى.
لعبت دورا كبيرا في النص حيث جمعت هذه الأصوات الأربعة تحت كنفها، وقد تمت أحداث الرواية فيها.
قال الكاتب المصري جمال الغيطاني في كتابه "نجيب محفوظ يتذكر" الصادر عن دار المسيرة اللبنانية في العام 1980، وهو ينقل قول محفوظ إن ((المقهى يلعب دوراً كبيراً فى رواياتي، وقبل ذلك فى حياتنا كلنا، لم تكن هناك نواد، المقهى هو محور الصداقة، البيوت لا تسمح بالزيطة، في البداية اتسع لنا الشارع، حتى تجرأنا على المقهى، عرفت المقهى فى سن مبكرة، منذ أوائل الثانوية بفضل أحد الأصدقاء، المقاهي بالنسبة لي ذكريات لا تنتهي)).
قدم محفوظ أبطال "شخصيات" هذه الرواية وكأنها رواية بوليفونية، إذ ان كل شخصية من شخصياتها الأربعة تقدم رؤيتها لما يجري، والشخصيات هذه أخذت كل واحدة منها فصلا من الرواية، وهي:
- قرنفلة، صاحبة المقهى.
- إسماعيل الشيخ، وهو طالب جامعي تم اعتقاله.
- زينب دياب، طالبة جامعية اعتقلت، وتم اغتصابها من قبل رجال الأمن.
- خالد صفوان، رجل أمن فاسد، يعبر عن فساد عهد جمال عبد الناصر.
وهناك عدة مقاهي قدمها محفوظ في رواياته، مثل: مقهى أحمد عبده فى (الثلاثية)، ومقهى البوديجا فى رواية (السمان والخريف)، ومقهى الزهرة فى رواية (خان الخليلي)، ومقهى قشتمر في الرواية التي تحمل الاسم ذاته، حيث تتفاعل فيها كل الأفكار السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والمذاهب الفكرية.