
دائما ما كنت أسأل نفسي من الذي يحدد سلوك الإنسان هل هو العقل أم العواطف والمشاعر والأعراف التي يتربى عليها، وهي من تحدد وجهته والطريق الذي يسلكه في حياته واللغة التي يتفاهم بها مع الناس..؟ أنا في حيرة من أمري، لكن ما توصلت اليه وأنا في الشوط الأخير من عمري إذ قاربت السبعين عاما وحين يوغل بي العمر يتكدر البصر لدي كالصورة ويظلم. كانت الصورة في السابق تبدو مضيئة متوهجة وكل ما يقع تحت عين الكاميرا تلتقطه منيرا مشعا.
ما أن تمر عليها السنون حتى تفقد بريقها ويتسخم الإطار وتتداخل الأجساد وتُحشر في البقية من بقعة الضوء وما كان متوهجا، الأرواح، تقاطيع الوجوه، الإبتسامات العريضة، شعور الرؤوس السود، الملابس البيض الضيقة على الأجساد الممتلئة بالصحة والعافية، الطبيعة بأرضها الخضراء وأشجارها المورقة وورودها الضاحكة، يفقد رونقه ويسْود. هذه الحياة تذكرني بالصورة التي تلتقطها كاميرا الكوداك الفورية، في الوهلة الأولى ما أن تخرج الصورة من جوف الكاميرا حتى تبهرك بألوانها المثيرة وبمرور الوقت يهرب الضوء والألوان منها حتى تصبح في النهاية لوحة سوداء وكأن شيئا لم ينبت فيها في لحظة مسكها للزمن. في بداية السبعينيات كنا طلابا في الكلية، كانت الحياة بالنسبة لنا سباقا وحركة لا نعرف التوقف، ركض ولهاث من أجل اللحاق بالآخرين الذين يسبقوننا علما ومعرفة، ننصت للكبار في المقاهي والحانات، حين يتحدثون نتعلم منهم أي الكتب الثقافية علينا قراءتها كي تمنحنا مفاتيح أبواب الحياة. كان زميلي أحمد الأقرب الى نفسي وقد تربينا سوية في محلة ومدينة واحدة، همّنا الوطني لا يُعلى عليه همّ آخر ونتقاسم خبز الفكر، من التأمل والقراءة وحضور الاجتماعات، الذي يخرج الينا من تنور الواقع حارا شهيا أشبعنا التزاما اجتماعيا وزرع لدينا قيما مدنية وعصامية أخلاقية وشعورا بالمواطنة والعدالة والترفع عن كل الصغائر ومسح كل الشوائب والأشنات الضارة التي تلتصق بعقولنا وأفكارنا. كنا نلاحق الولائم الثقافية التي تقدمها معارض الكتب، دور السينما والمسارح والمراكز الاجتماعية والحلقات الحزبية التي يلتقي بها كبار المبدعين من شعراء وروائيين وأصحاب فكر وسياسيين مخضرمين. ما نأمله أن نمتلك لسانا باشطا كالسيف نستطيع أن نرطن به، حين تجمعنا المجالس، يميزنا عن الآخرين. تجدنا مع القوم أنّى يكونوا لكن خطواتنا وحيدة ومتفردة. نؤمن أن الثقافة وسيلة لامتلاك العالم ولا شيء أثمن منها ولا كل كنوز الدنيا من خلالها نبني الوطن كي يكون الأبهى والأكثر إشراقا بين كل بلدان العالم. كنا ثلاثة أنا وصديقي أحمد وزميلتنا ناهدة التي كانت تعد من أجمل طالبات الكلية، بالنسبة لي لم أر في حياتي أجمل منها، غزالة برية شاردة بشعر أصفر وعينين شهلاوين بلون شعرها وجسدا مكتنزا إنوثة يتمايل كالريشة مع أية هبة ريح. تنورة ناهدة في الزي الموحد، اللباس الشائع في الكليات في تلك الفترة، تكشف عن ساقين بلورين عمودين من رخام ينهضان بعجيزة ووسط مخصّر وصدر ينفر منه نهدان يناطحان بجمالهما كل المرتفعات الساحرة في تضاريس العالم. ثلاثتنا بعمر واحد وفي المرحلة الدراسية في الكلية نفسها، أنا واحمد كنا نسكن القسم الداخلي لأننا من أبناء المحافظات، زميلتنا ناهدة من سكنة بغداد. ما أن ينتهي يومنا الدراسي في الكلية حتى نسيح بشوارع بغداد، أزقتها، دروبها الخلفية، نكتفي بالقليل من الطعام، كنا نلاحق ما تعرضه دور السينما من أفلام ذي طابع ثوري مثل زت وساكو وفانزيتي والهروب وكل الأفلام التي تحمل رسائل إنسانية وتبث قيما معرفيا كنا نحرض زملاءنا وندعوهم لمشاهدتها ونلاحق المسرحيات التي كانت تقدمها الفرق الملتزمة كفرقة الفن الحديث. في المسرح والسينما كانت ناهدة تجلس بيني وبين أحمد، رائحة إنوثتها تدوخ حتى الذي لديه عطب في أعضائه التنفسية، كنت أنشغل طوال العرض وأنا أتعقب رائحتها في روحي حتى لم يعد مهما ما يعرض أمامي، رغم هذا كنت أضع مسافة بيني وبينها وأحاول أن أحشر نفسي في زاوية الكرسي خوف أن يلتصق فخذانا، يدانا، جسدانا في لحظة اندماجنا في ملاحقة ما يعرض أمامنا على شاشة السينما أو المسرح من أداء مبهر. ما أن ينتهي العرض حتى كنا نتناول عشاءا في أفقر المطاعم الشعبية، لا ننتبه الى ما تحويه الصمونة من غذاء لأننا منشغلون بمناقشة الفيلم أو العرض المسرحي. قبل أن يقترب نصف الليل وتهدأ شوارع العاصمة نركب آخر باص حكومي متجه الى حي البنوك حيث تسكن عائلة ناهدة وقد امتلأت أرواحنا سعادة وبشرْ وبهجة. نطرق الباب، وقد أصبحت عادة يومية، يفتحه أخوها كريم يسلم علينا بحرارة، يستلم ناهدة عزيزة مصانة ، يشكرنا على اهتمامنا الأخوي بها، نودعه ونحن بكامل الرضا بأننا سلّمنا الأمانة الى أهلها. رغم أن نظرتي اليها كانت أكثر من الأخت لكنها لم تغب عن بالي يوما ما. في أحلامي كانت تظهر لي كل ليلة بمفاتنها الباهرة وضحكتها الساحرة وما أن أمد يدي إليها حتى تركض مبتعدة وتختفي في الأثير، أفز من نومي وقلبي ممتلئ لوعة وحسرة، أقضي بقية الليل متنهدا غاضبا، أستقبل الصباح بملامح مكفهرة حانقة أدور في ممرات القسم الداخلي وغرفه الفارغة والألم يقرص روحي إذ كيف سولت لي نفسي حتى في الحلم أن أفكر مجرد تفكير بالاقتراب منها ومحاولة لمس جسدها..؟ صباحا نلتقي في الكلية وقد نفضت عن خيالي كل ما علق به من نزق صبياني زارني في الليل شجعني على أن أرتكب حماقة تافهة ولكن الحمد لله انقلب السحر على الساحر وعاد الصفاء الى نفسي لنقضي أنا وناهدة وأحمد باقي اليوم بين فصول الدراسة والفسح بين الدروس ونحن نتناول الشاي في نادي الكلية نتحاور في أمور السياسة وحال البلد، يمتد هذا النقاش في جولاتنا المسائية بين المقاهي والمسارح ودور السينما طيلة السنين الدراسية، مراقبة سلوك زملائنا وزميلاتنا الأعضاء معنا في اتحاد الطلبة وإنضاج أحلامهم الفتية وحثهم على تطوير ملاكاتهم الثقافية حيث هذا ما كان يشغلنا نحن الثلاثة إضافة لتفوقنا في دراستنا الجامعية لنبدو نماذج راقية تستحق أن يفتخر بها الآخرون. كنا متطرفين في التزامنا الأخلاقي، كان زميل وزميلة لنا في المرحلة الثالثة في الكلية وعضوان في اتحادنا وهم على علاقة حب معروفة للجميع وعلى وشك أن يعلنا الخطوبة ضبطناهما متلبسين في نادي الكلية الذي كان مدرّجا حيث يجلسان في أسفل درج وكان خاليا من الطلبة وهما يقبلان بعض، ثارت ثائرتي، كنت وقتها رئيسا لاتحاد الطلبة، عقدنا اجتماعا عصر ذلك اليوم، وقفت على رأس المجتمعين وأنا أكاد أشتعل من الغيظ قائلا..
_ أنا أطالب بفصلهما من الاتحاد ومقاطعتهما نهائيا ..
نهضت ناهدة وهي تنظر الي بعين الإجلال والاحترام قائلة..
_ أنا أضم صوتي إلى صوت زميلي عدي..
رفع أحمد يده وقال..
_ أنا أؤيد الزميلين ويجب معاقبتهما..
قررنا فصلهما وتحريم مخالطتهما من الجميع وهذا ما دفعهما على التقوقع على نفسيهما وأعلنا خطوبتهما بعد أقل من شهر ليدفعا عنهما هذه الجريمة الأخلاقية النكراء في نظر زملائهما وعلى الرغم من كل الحب والتودد والاعتذار للآخرين إلا أنها لم تجد نفعا وبقيا وحيدين يعاقران خيبتهما حتى التخرج. الألوان في الصورة الفورية التي نقف فيها، نحن الثلاثة، ما زالت بهية. افترقنا بعد التخرج، كان جميع الزملاء يعتقدون بأني سأتقدم لخطبة ناهدة وهي ما كانت تفكر به أيضا ولكن هذا الأمر لم يخطر على بال لأني لم أفكر بالزواج مطلقا فقد كان الوضع المالي لعائلتي عسيرا وهدفي إن تعينت أن أخدم وطني من خلال الموقع الوظيفي الذي سأحتله. قضيت خدمتي العسكرية في شمال العراق زمن التمرد الكردي وكدت أفقد حياتي مرات عدة، حيث ينصب المقاتلون الكرد مفارز آنية يصطادون بها الجنود الغافلين والمتسربين من الخدمة أو ينقضون على الربايا، حين يجثم الليل ثقيلا في ساعاته الأخيرة، يقبضون أرواح المتعبين الذين قضوا نهارهم في حمّى الواجب العسكري الذي يبدأ مع طلوع الشمس ولا ينتهي مع زحف الليل بفرقه السود التي لا تعرف سوى التقدم. سرحت من العسكرية بعد خدمة ما يقرب من السنتين والتحقت في الخدمة المدنية، ما أن حاولت أن أرتب أوراقي وأراجع نفسي وما سأقدمه تميزا عن الآخرين في خدمة وطني حتى قرعت الحرب العراقية الإيرانية أجراسها ودخلتُ في أتون معركة حامية استمرت لثمان سنوات، خرجت منها كيانا محطما محتضرا فقير الأحلام وروحي غائمة، ما تتركه الحروب من شظايا تقتل كل ما هو فكري وإنساني وعقلاني وتقلع كل عُقد الجمال ليغدو البشر قطيعا لا همّ لديه سوى أن يبقى حيّا ما أمكن وما تتركه من آثار وبقع في النفس لا تقدر كل المنظفات والمعقمات على إزالتها. نظرت في الصورة الفورية فقد فقدت ملامحنا الكثير من خطوطها وبقع السواد امتدت على وجوهنا وأجسادنا. قارب عمري الثلاثة والثلاثين، لا أعرف ما حلّ بناهدة، هل تزوجت، هاجرت، أم مازالت عزباء..؟ فكرت بالزواج كي أمسح صورة ناهدة وجسدها الشهي وضحكتها التي تتفطر لها روحي ولم تفارق خيالي يوما ما. إقترنت بفتاة دلني على عائلتها أحد الأصدقاء، لم أرتو من جسدها كي أزيح ناهدة من فراش أحلامي وهي تلاحقني كظلي، لم ألتقط بعد أنفاس الراحة والتأمل واذا بالعراق محتلا للكويت، أحضرنا حقائبنا و(يطغاتنا) وزيّتنا بنادقنا للحرب التي قرعت أبوابنا وحدودنا وأصواتها المزمجرة ملأت الآفاق، تزبد وترعد وتتوعدنا بالقصاص الذي ستصبه جيوش ثلاثة وثلاثين بلدا غربيا وعربيا جامَ غضبها فوق رؤوسنا. خرجنا من نيرانها بقدرة قادر إضطر الكثير من العراقيين على مغادرة البلد مفضلين الإنحناء للغربة على الركوع عند قدمي نظام جائر ومنهم صديقي أحمد الذي اختار إيطاليا عشا يفقس فيه خيباته. وبعدها فقدنا صديقا عزيزا لبلدنا حين إنهار الإتحاد السوفياتي وتشظى الى دويلات صغيرة هزيلة لنكون بين فكي التنين الأمريكي بلا ناصر أو معين وقد فرضوا علينا حصارا لعينا إستمر قرابة الاثنتي عشرة سنة لعنّا فيها اليوم الذي ولدنا فيه وتصاعدت صرخات جوعنا وآلامنا وموتنا المجاني حتى تمزقت آذان الآفاق الأربعة دون أن يلتفت أحد الينا حتى انفرجت الكثير من الأيادي وارتفعت الرؤوس نحو السماء ولهجت الألسن بالدعاء أن يُنقذ العراقيين حتى لو جاء إبن صهيون لحكمهم وهذا ما حصل عام 2003 حين أسقط المحتلون الأمريكان النظام الدكتاتوري وأعلنوا بداية عهد فوضوي جديد حيث شرعت أبواب البلد على مصراعيها ليدخل، الإرهابيون والمرتزقة والقتلة والفاسدون والمتسولون والمعتاشون على مزابل الأجنبي والكثير منهم يلبسون جلباب الدين، على الدبابة الأمريكية وأشاعوا في البلد الفوضى والخراب والجرائم الشنيعة. أخرجت الصورة الفورية لم أتمكن التعرف على الواقفين في الصورة فقد اسودت ولم يبن منها سوى ضحكة ناهدة الساحرة التي نثت على رؤوسنا الفرح الذي لم أره في الصورة التي بين يدي لكنها كخيط حاد أتحسسه الآن كنصل رفيع ما زال يطعن قلبي يؤلمني كما في السابق، لكن ما انتبهت اليه أن عقلي قد تشوش ولم يعد قادرا على مواجهة النفايات وآفات الغرائز التي يفرزها الواقع الجديد ولم أستطع لها كبحا وتزغللت الرؤيا وتشظت المرايا والفكرة انعكست آلافا ضاعت الحقيقة فيها. اليقين أصبح أعمى يحتاج الى من يدله على الطريق لدي وما كنت أؤمن به في السابق لم تعد تتلمسه أصابع تفكيري جيدا وقد طمرته أزبال الحياة الجديدة وفوضاها وغياب النظم والإرادة السياسية ما أدخل البلد في دوامة من الصراع من أجل البقاء على قيد الأسى والعدم. شعرت أن رأسي تتسرب منه الأفكار والقيم الفاضلة كما يتسرب الرمل من بين أصابع الزمن، بمرور الوقت انغرزت في عقلي أفكارا وقيما جديدة لم أعهدها في السابق ولكن يبقى السؤال من المسؤول عن غرسها مع أن تربة عقلي لم تكن مهيأة لها.. سافرت حين توفرت لي فرصة ذهبية للسفر الى أوربا لألتقي صديقي أحمد في إيطاليا، أكيد أنه سيأخذ بيدي ويضعني على طريق الهداية كي أعرف رأسي من رجلي ولكني وجدته تائها، ضائعا، لا يتحدث إلا بالأرقام وكم سيجني من هذا الجهد المضني أو ذاك، بعد كل سنين الغربة، لم أجده مختلفا عني رغم أنه يعيش في بيئة مختلفة. سألته وأنا في حيرة من أمري..
_ أحمد، على الرغم من أننا نعيش في بيئتين مختلفتين ولكن تفكيرنا يكاد يكون واحدا في هذا الزمن الجديد. مع تفشي الأصولية الدينية عندنا..
تفرس أحمد في وجهي زمنا ثم قال معقبا..
_ أتعلم يا عدي أن الواقع هو من يصوغ أفكار الناس ويحدد نمط حياتهم، هناك في بلدنا حيث الفوضى والواقع متجه كاملا نحو الجشع والاستغلال وكيف يجني الفاسدون المزيد من الأموال، هنا الأمر نفسه رغم أن إيطاليا بلد حضاري عريق ولكن نظامه السياسي القائم هو كيف تجني الشركات العملاقة الأرباح وكيف يمتص الغني دم الفقير، هناك طغيان للتفكير الغرائزي. تزوجت هنا من إيطالية وأنجبت منها ولدا لكننا افترقنا وهي تطالبني بنصف ثروتي، أشعر أني بلا قيمة هنا وقد سحقتني عجلة الرأسمال، لا أعلم ما ينتظرنا..
ساد سكون حذر بيننا، كان أحدنا ينتظر العون من الآخر، بادرت كسرا للصمت الثقيل..
_ أحمد، هل كنا على خطأ..؟
زفر أحمد بحرقة، أجاب بألم..
_ أفكارنا ليست خاطئة لكنه الزمن الحديث الذي تسيد فيه النظام الرأسمالي في نهاية القرن العشرين أشاع الرثاثة والقبح وقمع الأفكار، كل شيء أصبح سلعة الثقافة، الدين، الأخلاق ..و
انهمرت الدموع من عينيه، شعرت بالأسى نحوه، رأى الشفقة في عيني، حاول أن يبدو قويا واختياره الغربة لم يكن خطأ قاتلا، ألصق ابتسامة هجينة على وجهه بدت نشازا، غيّر دفة الحديث قائلا..
_ بالمناسبة ما هي أخبار ناهدة..؟ أعتقد أن سلوكنا نحن الثلاثة كان ملائكيا في ذلك الزمن، أنا أحسد نفسي عليه وأسميه الزمن الجميل..
أردفت قائلا..
_ لم أرها مذ تخرجنا في الكلية، لقد عرفت في هذا الزمن الجديد كيف يُزرع الشيطان في النفوس..
أيامنا الأخيرة في بغداد وقد اقتربت من السبعين عاما، أخرجت الصورة الفورية كانت سوداء كالليل البهيم واختفينا نحن الثلاثة ولم يعد لنا وجود. في زمن الفوضى تسقط القيم ولم يعد للوجود من معنى. حقا الصدفة أفضل من إي ميعاد، في أحد المسارح وفي صالة الانتظار وجدت نفسي وجها لوجه مع ناهدة لم أعرفها ولم تنتبه لي لكن نبرة صوتها، وهي تتحدث مع صديقة لها، محفورة عميقا في روحي ترن في مسامعي منذ ما يقرب من خمسين عاما. اقتربت منهما وسلمت عليها، تأملتني وهي تقيس أبعادي في ذاكرتها وشيئا فشيئا اتسعت عيناها اللتان ما زالتا براقتين تكتنزان جمالا دفينا وفمها فيه بقايا من طراوة وهي تنظر اليّ غير مصدقة.. قالت دون أن تحاول غلق فمها..
_ عدي..!
_ ناهدة..!
تقدمت نحوي وكادت أن تحضنني لكن الأعراف الجديدة قد ترجُمها وتصفها بأقذع الأوصاف، تأملتها من فوق لتحت، ترهل جسدها وهي تقاربني عمرا وامتلأ رأسها شيبا، ما يثيرني فيها أن عينيها الجريئتين الهاذيتين تغوشتا بغبار الأحزان. جلسنا سوية في المسرح، سألتها عن دورة حياتها، منذ سبعينيات القرن الماضي، من يوم تخرجنا، قالت بألم..
_ تزوجت من رجل لا أحبه، أنجبت منه ولدا يعيش الآن في السويد، مات زوجي بعد أن تزوج عليّ، أنا الآن وحيدة أسكن في بيت زوجي الذي تركه لي.. وأنت ما أخبارك..؟
لا أعرف بم أجيبها، لكن اضطررت الى البوح لها..
_ لا أعرف من أنا، روح ميتة وجسد شهواني على الرغم من تقدمي في السن..
أطفئت أضوية المسرح، لم يكن ما يشغلني ما يعرض على المسرح ولكني قلبت سجل ذاكرتي الذي كانت خطوطه واضحة وتقاسيم جسد ناهدة في الماضي المطبوعة فيه، ما زالت تطرق نوافذ شبقي الذي رفع رأسه رغم تقدمي في العمر. لم أشعر إلا ويدي تمتد تداعب جسدها، فخذها، ما ترهل من بطنها وصدرها، كنت أتوقع أن أجابه بردة عنيفة وقد تصفعني وتصرخ مستنجدة تسبب بطردي من المسرح. إلتفت ناهدة نحوي، التقت عيوننا، كانت ابتسامة شكر مرتسمة على وجهها وهي تدنو جسدها أكثر مني، لم أسحب يدي ولكني بادلتها بابتسامة أعرض تتسع مع كل مداعبة جريئة وعلى وجهي بشائر البطل المنتصر الذي فتح في النهاية قلاعا كانت في يوم ما عصية عليه..