تعانَقت اميال الساعةِ، عند (7:35) مساءً، دقت ساعة الصِفر، العمال يعودون الى منازلِهم، متلهفون لضَم زوجاتِهم، ونَظراتُ فرحِ اطفالِهم بمجيئهم، السُكارى يفتتحون جبهاتِهم، جبهاتُ اسقاط الهموم والاوجاع، القطط تجوب الشوارع تبحث عن طعامها، بائعات الهوى بدأ عملهن، تتراكض الاطفال حفاةٌ، بلا مبالاتٍ لنداء امهاتهم، خَـرجت من "الفُندق" مكان عملي، كالعادة، بلا كلل ومعتادٌ الروتين المُمِل، تمشيت عابراً الى المنطقة المقابلة، ببدلةِ الرسمية، التي جزِعتُ من ارتدائها يومياً، بسبب سياسة الفُندق البائس. عبرتُ شارعين لكي أصل في النهاية الى ذالك بائع الطعام المتجول، الذي بسيارة الطعام خاصته، يضاهي ما يقدمه من طعام، العديد من المطاعم الفاخرة، وبات يعرف طلبي حين يراني في الطابور، الذي كان وجبة برگر، بدونِ خضار. وبينما يُحظر الطلب، لفتت انباهيَ، "احداهُن"، ترتدي رداءً، اسوداً "عَـباء"، دافناً لجمالها، وبين يديها طفلٌ! لا علم لمن؟ لماذا تحمله؟ لماذا وجهُها شاحبٌ ومُصفَر؟ للحظات تزاحمت هذه التساؤلات في تفكيري، فأتى ايعاز من دماغيَ، يقول لي "ان النيكوتين بدأ يقل". اسحب سيجارةً لتهدئ، بقيت للبرهةٍ انظر اليها، ولاختلافها، فكان فيها شيءٌ غريب، لا اعلم ما هو! و فجأةً! دخل خلوة تفكيري بائع الطعام وقال بصوته اللعين "خذ الطلب، اكتمل يا رجل!"، عُدت الى الفُندق، وانا أتساءل عن هذه الفتاة، وكالمعتاد، غيرتُ ملابسي، تناولت العالم، غربت للنوم، لكي استقبل اليوم التالي من العمل، في الصباح الباكر.
الهاتفُ يرن، يرن..
- اللعنة، من هذا؟
اوه، ككل يوم ٍ، مدير العمل، يُنَبِهُني، ان أحافظ على الفندق، وكأنه "القصر الجمهوري"، نهضت من الفِراش ومن وسادتي، المحشوة بالحصى، لا القطن! ارتديت الملابس الرسمية، التي لم أكن مرتاحاً في ارتدائها قط، جلست في صالة استقبال الفندق "الرِسيبش "، لكي أُكمل ساعات العمل العَشر، النزلاء يخرجون، واحداً تلوى الاخر، كإنهم جيشُ نمل، يسيرون بإنتظام. الشاي يثوروا غضباً في الغلايةِ، يتعالى البخار، ويرسمُ احلاماً في الصالة، فيها الذين غادرونا، يرسمُ ملامحَ أميَ، التي اشتاق لها في كل حين، وانا في غربتي! بدأت اتصفح في صحيفة اليوم، متجاهلاً، صفحَتَي الاخبار والاعلانات، وعند صفحة الادب والفن، وجدتُ ضالتي، بمجموعةٍ من القصص القصيرة الجريئة، قصائد الشعر، والمقالات الادبية، اشعلت سيجارةً بيدي اليُمنى، وعانَق كوب الشاي برائحتهِ العطرة، الدافئة، اليد اليُسرى، ولكن لم تغرب، تلك الفتاة عن تفكيري، ولا شَعرُها، العكش، الغَجري اللامع، عن نظري، دبدبةٌ على السلالم!؟ ها هوَ العم مُشرق، يخرج من غرفته، منطلقاً الى عمله، في احدى المقاهي الشعبية، فَهوَ في الحقيقة، عسكري متقاعد، وعمله في المقهى، يجلس، يثرثر عن أوضاع البلد، ويقضي ساعاتٍ ويعود قبل غروب الشمس، نَزلَ هوَ الاخر! العم نَديم، هذا اقدمُ نزيلٍ في الفُندق، وكعادته السيئة، يمر من امامي، ويخرج من الفُندق، ولا يُلقي التحية، او ينبس بشيء، لا اعلم؟! هل انا اعمل في مصحة عقلية، منذ شهرين وانا اعمل في هذا المكان، يومياً ارى العجائب!
بين حينٍ واخر انظر إلى الساعة، تباً! بقيت سبعُ ساعاتٍ من العمل، دوماً كنت اود العمل، في صحيفةٍ، مطبعةٍ، مكتبةٍ، في مكاننٍ لا يخلو من رائحة الاوراق، وضجيج الطابعات، ترتطم بالورق، وتَخطُ مختلف النصوص. لكن الحياة حقيرةٌ، والقدر احقر، رمتني خلف مكتبٍ على كرسي. كم أكره الكراسي. يا ليتني، أستطيع ان أُسَرعَ الوقت، كي اذهب الى نفس المكان، نفس كُشك الطعام، وارى تلك الفتاة، تلك التي باتت ملتصقة في ذهني، في ذاكرتي. عساي ان افهم، من هي؟ ما حالُها؟ كيف واين تعيش؟
يمضي الوقت ببطيء شديد، وقرأت الصحيفة مرتين! والان حان الوقت للانتقال الى كتابي المفضل، الذي حصلت عليه منذ فترة، أهداه لي مؤلفه، وهو مجموعة قصصية، بعنوان "حكايات حميمة "، هذا الكتاب بالذات، اعز ما املك في حياتي، وأثمن ما اقتنيت يوماً ما، القصص فيه، تُرسم امامك، بمجرد قرائتها، وتعيش مع الشخوص، بجنونهم، وحزنهم، واحلامهم، والمؤلف لم يختر كلماته بدقة فقط، وانما هو فنانٌ لن يتكرر، وهوَ يُحَـرك الشخصيات بسردهِ.
امضي الوقت، ولم اشعر به، رفعت رأسي من الكتاب، ووجدتها عند الرابعة مساءً، حان موعد عودة النـزلاءالى الفُندق، اولهم العم نديم، المتشائم والجحش دوماً، ويتلوه العم مُشرق، الذي هو شخصية انسانية وعصامية بشدة، ففي كل مرة يعود، ندردش انا وهوَ على الاوضاع السياسية والاقتصادية، وعنما حدث وجرى في القرن العشرين، في وطننا، يأتي كما اعتدت ان اراه، بطيئاً بمشيته، بسبب تراكم تعب الزمن، وهو الان بعقده السابع، ولكن! اليوم اتى ولم يكن كعادته، اذ كانت يديه وشفتيه ترتجفان!!
- مابكَ يا عم؟
- انا مُتعب، ومريض جدا
- هل زُرت طبيباً؟
- نعم، واعطاني موعد لزيارتهِ بعد يومين.
- عليك بالذهاب اليه، وضعُك ليس طبيعي
- لا عليك، سأأخُذ قسطاً من الراحة واكون بخير!
تركني، وذهب الى غرفته، وانا مصدومٌ كيف يفكر!؟ ما علاقة النوم بالشفاء من المرض! وايضا انا خائفٌ عليه كثيراً، ولا اعلم ما حكايتهُ؟ ولماذا هو من تسعة اعوام يسكن في هذا الفندق؟ اين عائلته؟ ماذا جرى لهم؟ هو شخصٌ غامض! لا يتحدث كثيراً عن حياته، الاستفاهمات تتصارع في رأسيَ، وانا اربط الخيوط، عسى ان افهم ما بهِ هذا الرجل؟!
مضيتُ في قراءة كتابي، وانهيت ما يقارب خمسة قصص قصيرة. لكن هذا الكتاب عجيبٌ جداً، ففي كل مرة يتجدد عنصر التشويق، وتزداد الرغبة في القراءة والقراءة، نظرت الى الساعة، وحان الوقت لكي استحم، وأُغير ملابسي، فقد انتهت عشر ساعات عمل لعينة! حان موعد تناول العشاء والنوم، كعادتي تناولت العشاء عند البائع المتجول. لكن لم تكن تلك الفتاة موجودة في هذا اليوم، تسائلت عن سبب عدم وجودها؟! قررت وبكل جرأة ان اسأل صاحب كشك الطعام عن هذه الفتاة ومن هي؟ اين هي؟ اين تسكن، وصفتها له، وقال لي "هذه الفتاة، هي وجَمع الاطفال القذرين معها، متسولة، تسكن في احدى هذه المباني المشبوهة، وصباح اليوم، جاء مدير البليدة، وتم اجلاء جميع النزلاء المشبوهين". صُدمت بما قال، عدتُ وقدماي تدبدب ببطيء، والدمع في عينيَ. وصلتُ الفندقَ، غربتُ للنوم، متعباً، غارقاً في مدينة الاحلام.
" ماي اروو، ماي ارووو، عتيگ، عتيگ، العنده ثلاجات، مبردات، طحين، للبيييع."
هكذا استيقظت اليوم، على سمفونية البائعة المتجولين، بائع الماء والخردة والاخرون. اشرقت شمسُ الوطن! وانارت كل الازقةِ والحارات. البائعة المتجولين يجوبون المدينةَ؛ العمال بدأ كدحهم؛ ورائحة طعام المطاعم الشعبية، تشرح القلب، وتلتمس قلوب المارة. كانت ليلة أمس، بائسةً، لم أنم جيداً. بقيَ العم مشرق يشغل تفكيري، استيقظت باكراً اليوم، وانا اعيش نفس الروتين، لكن أجمل ما في يومي هي القراءة. الصُحف بالذات لولاها، لما استطعت مقاومة الملل.
في هذا اليوم منذ الصباح الباكر، كانت الكهرباء في صالة الفُندق، مُعطله. اتصلت بعمال الصيانة، وبينما انا اشرب الشاي، احتلوا خلوتي. كنت أراقبهم وهم يصلحون العطل. ثم تنبهت الى امرٍ غريب، العم مشرق لم يخرج من غرفته!؟ صعدت الى الطابق الأول حيث يسكن، طرقت الباب، "عمو مشرق.. عمو مشرق..". لم يرد على إطلاقا. نزلت الى صالة الفُندق واتصلت على المدير لكي اسرد له ما يحدث، فالعم مُشرق لا يبقى هكذا مدة في غرفته. منذ اربعة ساعات وهو لم يغادر الفُندق.
لم يكن مدير الفُندق يُجيب على اتصالاتي، بقيت محتاراً عن ماذا سأفعل؟! اتصل.. واتصل.. لكن بلا مجيب! بقيت جالساً على المكتب في صالة الفُندق. أكملوا العمال صيانة الكهرباء. وبعد ساعة من اتصالاتي، اجاب المدير الساذج، وبعد سرد له ما يجري، قال لي "سآتي بعد قليل". عدت لطرق باب غرفة العم مشرق وايضا لا يوجد من يُجيب، وصل المدير، بدأنا بطرق الباب بقوة!، لا يوجد اي صوت في الغرفة! حتى توصلنا لحل، بكسر الباب، ضربناها بقوة. ودخلنا الغرفة، وجدنا مصيبة! العم مُشرق ممددٌ على الارض، بلا روح، جسدٌ باهت، بارد، ولا نعلم كيف مات، اتصلنا بالأمن. وبعد لحظات امتلئ الشارع بسيارات الأمن، حققوا معنا، ثم صعدنا جميعاً الى غرفة العم مُشرق، دخلوا التقطوا صوراً للجثةِ، كان وجه العم مُشرق باهتً، مسمر وجاف. حينما انتهى التحقيق وتم نقل الجثة بسيارة الامن الى الطب العدلي.
وقفت باب الفندق، مودعاً العم مُشرق. رحل عنا بطريقة بشعة جداً، غادَرَنا بلا وداعٍ. كانت عيون المودعين تهمس بحزنٍ، عما جرى للعم مُشرق، سيارة الامن تبتعد وتبتعد.. ومعها ذهبَ هو بلا عودة، دخلت الفندقَ، غيرتُ ثيابي، استحممت وانا ابكي بهستيريا. هذه ليست المرة الأولى التي ارى فيها جثة، واشمُ رائحة الموت. صعدت الى غرفتهِ، بدأت انظر الى ممتلكاتهِ، باحثاً عن هاتفه لكي اتصل بأهلهِ، الذين لا اعلم عنهم شيء، صُحفٌ كثيرة متناثرةٌ على الارض، بينها وجدت هاتفه، بحثت بين الاسماء، ووجدت اسم شخص كان يتصل فيه كثيراً.
اتصلت على الرقم.
- الو، الو، مرحباً.
- اهلا وسهلا، من معي؟
- هل تعرفين العم مُشرق؟
- نعم انا ابنته، ماذا به؟
- لقد توفى اليوم!
صرخت بشدة، حتى اهتزت مشاعري. وبعد قليل عاود الاتصال رجل. قال انه زوج ابنة العم مُشرق، ابلغته بما حدث. تركت الهاتف في مكانه، وذهبت الى غرفتي، لم أستطع النوم اطلاقا، السجائر ملئت فمي، واحدة تلوى الأخرى. القلق كان يلتهم عقلي المشوش، بقيت مستيظاً حتى الصباح، وكان قراري ان اترك العمل في هذا الفُندق اللعين. لكن قبلها كنت انتظر قدوم عائلة العم مُشرق، لانني اعطيتهم موقع الفُندق لكي يأخذوا اغراض ابيهم. وانا جالسٌ في صالة الاستعلامات، انتظروا قدومهم، وبعدها أغادر الفندق للأبد. وقفت سيارة امام الفندق، خرجت منها امرأة اربعينية واثنين من الشباب واخرهم رجلٌ كبيرٌ بالسن. دخلوا الفندق واول ما سئلوا عنه، من هنا مدير الفندق؟ اجبت انني اعمل هنا والمسؤول عنه، فطبلوا مني سرد ما حدث لهم، وبعد حيثٍ طويل، كانت ابنته تبكي بحرقة، وهي مُطأطأت الرأس. اصحبتهم الى غرفة العم مُشرق، وامام باب الغرفة انهارت ابنته.
خرجت من الفُندق، دون ان اتحدث لأيِ احدٍ عن تركي للعمل، حقيبة ملابسي في يدي اليمنى، وكتابي المفضل باليد الاخرى، اسير ولا اعلم الى اينَ اذهب؟! تاركاً خلفي كل شيء، فالفندق بات مُظلماً. وستبقى الارواح تحومُ فيه، ارواح الذين عاشوا بائسين، وحيدين، ورحلوا بكل هدوء. كان العم مُشرق، حسب ما قالت لي ابنته، قد غادر المنزل منذ عقدٍ، بلا سبب، ولم يجدوه اطلاقا، وبين الحين والاخر، يتصلون به ولكن لا يُجيب، والان بات لا يجيب على اي أحد، فذهب ولن يعود اطلاقاً.
"هذه القصة، كانت احدى كتابات مريض في مستشفى المجانين، في دفتر مذاكرته، بعدما مات، وُجِدت لديه، مع عدت قصص وقصائد شعريه".
مرتجى ايار: صحفي وكاتب قصة شاب من ديالى.