أيلول/سبتمبر 12
   
    لست ادري كيف حملتني قدماي، وأنا أجتاز عتبة البوابة الرئيسية لـ "أبو غريب". فقد تطبعتا خلال السنوات العشرين التي قضيتها فيه، على مساحة الزنازين التي حبسوني فيها، فضلاً عن أنهما باتتا متورمتين من كثرة الفلقة التي كنت أتلقاها من الجلادين الذين لم يتركوا مكانا في جسدي الا وزارته سياطهم القاسية.
عندما أغلقت البوابة ورائي لم أعد أحس بشئ سوى دوي سؤال مترنح لجواب لم تتضح معالمه بعد: الى أين؟ وكيف؟ لي أن أذهب وحيدا ولا أحدٌ في انتظاري كان ذلك في بداية تموز، من الألفية الجديدة. حرارة الشمس فيه قاسية تذيب الأسفلت، ولا من بشر هنا. لكنني لمحت سيارة مركونة في الظل. امعنت النظر اليها وانا اتقدم نحوها بخطى ثقيلة، فبدا لي في داخلها رجل جلس وراء المقود في شبه إغماضة. عندما رآني ترجل من سيارته وبادرني بالسؤال:
 - يا أخ هل خرجت انت الآن من هذه البوابة ؟ أجبته
- نعم
- هل كنت سجينا؟
- كلا، بل كنت ازور قريبا لي.
- طيب أخي، أنا لدي شقيق يقبع في هذا السجن ولا أعرف كيف أصل اليه. وأنا آتي في كل يوم تقريباً أسأل عنه ولا أحد يجيب.
- هل شقيقك مسجون بتهمة سياسية؟
- كلا، أو بالأحرى لا أعرف.
مع أن جوابه بدا مُطًمئِناً لكن هاجس الخوف من الغرباء أخذ يتلبسني منذ أن إجتزت عتبة المعتقل. لا أدري لماذا كذبت عليه. لم أقل له أنني كنت نزيلاً في هذا المعتقل الرهيب. هل لأن الخوف من تلك السنوات الطويلة المرعبة التي عشتها في الاقبية والزنازين وكنت  فيها من الموت قاب قوسين أو أدنى، هي من جعلني اخاف حتى من ظلي؟ جائز، قلت ذلك في نفسي.. ولكني كنت واثقاً من ذلك، فليس ثمة سبب آخر جلي وراء تصرفي.
- تحب أن أوصلك الى مكان؟ الى أين ذاهب أنت؟ سألني السائق.
- الى بغداد
- وأنا في طريقي الى هناك.
- شكراً جزيلاً
فتح باب سيارته ودعاني للجلوس الى جانبه في المقعد الأمامي. كانت السيارة من نوع لادا الروسية، أو الأصح السوفيتية الصنع. وربما هذا ما جعلني اكثر اطمئناناً، حاولت ان ابتسم على هذه الطرفة.
تبادلنا ونحن على الطريق أحاديث كثيرة عامة.. حدثني عن نفسه وقال ان اسمه حامد ويعمل في ورشة لتصليح السيارات. وأن أخاه أُعتقل من دون تهمة بعينها وأنه لايعرف مصيره.
حاولت جهد إمكاني أن، أبعد الحديث عن أخيه، لكي لا أتمادى في الكلام عن المعتقلات ومآسيها، حتى لا أفتِّق الجروح الندية، وأن لا أكشف له عن وضعي، ونجحت في ذلك الى حدٍ ما.
 أوصلني الرجل الى ساحة كهرمانة فشكرته وأردت أن أعطيه بعض ما عندي من نقود لكنه انتقدني بأسلوب أنيق:
-  يبدو أنك لست عراقياً، أنت تهينني يارجل
-  اعتذرت له وشكرته مجدداً ونزلت من السيارة.
كنت ارتدى دشداشة وسترة وبيدي امسك كيسا فيه ملابسي الداخلية. وفي جيبي بضعة دراهم اعطاني اياها سمير، زميلي في الزنزانة... قال انها ستكفيك لأخذ سيارة تاكسي الى بيتكم... وها انا قد وفّرت جزءا منها، بعد أن اقلني صاحب السيارة من "ابو غريب" الى ساحة كهرمانة.
بقيت أتطلع حولي غير مصدق، أتطلع خلسة الى وجوه الناس علني المح شخصاً أعرفه. انتابتني مشاعر مختلطة وأنا أحاول التعرف على ملامح بغداد ماقبل 28 عاماً، حوالي سبع سنوات منها قضيتها في الخارج، والباقية في السجون داخل البلاد. لقد تغيرت مدينتي كثيراً.
قررت ايقاف هذا التقاطع في الأحاسيس في داخلي، وأشرت الى سيارة اجرة تقلني الى بيتنا، وأنا لست متيقنا من أن أهلي مازالوا هناك، فلربما انتقلوا الى سكن آخر ومنطقة اخرى، إذ انقطع الاتصال مع الأهل منذ فترة طويلة. ولا أحد من العائلة يعرف انني قضيت عقدين ونيف بالسجن، سوى أخي أمير الذي كان يحاول متابعة أخباري بشتى الطرق. أما الوالد والوالدة وأختي وسناء فلا يعلمون عني شيئاً سوى أنني أدرس خارج البلاد..
كانت المفاجأة شديدة الوطأة علي، حينما فتح طفل يبدو في الرابعة عشرة من العمر الباب الذي طرقته ليسألني:
- من تريد عمو.. سألته أن كان هذا منزل أبو طلعت؟ فأجابني:
- نعم ولكن جدي توفي منذ فترة.
حاولت أن أتمالك نفسي، لكن دمعة سقطت من عيني رغماً عني. تأثر الطفل من المشهد وطلب مني الانتظار لكي ينادي على والده الذي عندما رآني وقف مشدوهاً لم ينطق بحرف. وبعد برهة من التطلع في وجهي أخذني بعناق شديد وسحبني الى الداخل. تفاجأت والدتي من منظري وحدست من أنني لم أت من خارج البلاد. فقد كنت أرتدي دشداشة من دون أن أسحب ورائي حقيبة سفر كأي مغترب عاد الى أهله. ارتميت في حضنها وبكيت.. لأول مرة بكيت منذ اعتقالي منذ أكثر من عشرين عاماً.. لم يبكني تعذيبهم القاسي وكنت على شفا الموت في اقبيتهم.. بكيت في حضن أمي كطفل صغير.. أحسست بولادة جديدة حين شممت رائحة الحليب على صدرها الحنون، فمازال ندياً في ذاكرتي. بكت أمي ثم جففت دموعها وظلت تتأملني.
- لقد نحفت كثيراً يا بني
 - نعم، ولكني الآن استعدت عافيتي وانا بين ذراعيك وحضنك الدافئ ايتها الام الحنونة.
طلبت من أهلي أن لا يخبروا أحداً عن مسألة سجني، فمازلت غير واثق من  أنني مطلق السراح تماماً. وما زالت قرقعة اقفال الابواب الحديدية والقيود التي وثقوني بها يتردد صداها في اذني.
أخذت حماماً ساخناً وإستبدلت ثيابي بأخرى نظيفة، ودخلت كي أنام، على السرير الذي كان يوماً ما سريري، وفي غيابي استعاره أبن أخي، وهذا حسب وصفه هو اذ قال لي:
- عمو أنه سريرك وأنا أستعرته
- شكراً عمو، لافرق بيننا
لا ادري كم مضى من الوقت وأنا مدد في الفراش. في البداية لم أستطع النوم. فقد داهمتني مشاعر مختلطة من كل صوب. لكن جسدي المنهك كان متعطشاً الى الراحة فساعدني على أن أبتعد عنها تحت مظلة الزمن المفقود. بل أحسست بشئ من الاطمئنان المبطن بالحلم. لم أكن أحلم ولكني كنت أسمع اسمي يتردد في الوسادة. كان ذلك صدى ما كان يدور في رأسي. كنت اسمع أحاديثهم المضطربة عبر مسامات خشب الصندوق الذي أجلسوني فيه وأحكموا اقفاله، وأنا معصوب العينين ومكمم الفم، وخدر عظيم في جسمي يتصاعد الى رأسي. سمعتهم يقولون:
- أنه سوف لا يصمد كثيراً في الأمن العامة. سوف ينهار ويتعاون معنا...
كانوا يسفروني خلسة.. لحظات وشعرت بإهتزاز الصندوق الذي كان يحمله بضعة اشخاص وضعوني على الأرض.  مر وقت ليس بالقليل قبل ان شعرت برافعة آلية سحبتني الى اعلى وتركتني معلقاً في فراغ برهة، ثم سمعت اصواتاً تطالب بانزالي على أرضية ما تخيلته باص لنقل المسافرين داخل فناء المطار. سار الباص سريعاَ ثم توقف. وما هي الا دقائق معدودات حتى فُتح الصندوق وانطلقت اصوات تأمرني ان اخرج منه. أخرجوني وأنا معصوب العينين، ملصق الفم لم أستطع الوقوف على قدمي لشدة ما تكورت عظام ساقي في الصندوق، حيث أجلسوني القرفصاء فيه. بعد ذلك اقتادني شخصان عبر ممر طويل الى خرطوم طائرة كانت جاثمة بعيداً عن مبنى المطار، أحسست بذلك عندما دوى محركها.. أردت أن اصرخ لكن فمي كان مكمماً بشريط لاصق.. سمعت حركة اقدام تتجه نحوي من الخلف، وشعرت بيدٍ تمتد الى رأسي. رفعوا عصابة العين ومكمم الفم واجلسوني في المقعد الخلفي في طائرة لم تتبين هويتها وكان على متنها اشخاص معدودون. ايقنت انها طائرة دبلوماسية خاصة. قال لي أحد الرجلين الذين اقتاداني الى الطائرة..
- لا تخف سوف لا نقتلك الآن لكنك ستموت هناك في بغداد.
- لماذا؟
حاولت أن أسأله لكن صوتي ضاع في حشرجة التفكير في محاولة لاستعادة ما جرى خلال اليوم السابق عندما دخلت السفارة لإجراء معاملتي، كوني طالب ادرس على حسابي الخاص، وعليَّ تصديق الوثيقة التي حصلت عليها من ادارة الجامعة التي ادرس فيها لتُرسل بعد ذلك الى وزارة التربية، دائرة البعثات. وهذا يتم عبر القنصلية. كان ذلك من ضمن حقوقي كمواطن، لم اقم بمخالفة او جرم، سوى انني ناشط سياسي، اسعى للدفاع عن المضطهدين وحرية الفكر والعقيدة، وهي امور ولدّت انزعاجاً لدى العناصر التي كانت تحاول تلميع وجه النظام.
أعدت شريط احداث الساعات الماضية وكيف وصلت الى هنا. تذكرت أنني ما أن دخلت مبنى السفارة حتى وضعوا الأصفاد في يدي وأدخلوني غرفة انتظرت فيها بضع ساعات، ثم جاءوا بكأس عصير أجبروني على تجرعه، وماهي الا دقائق حتى فقدت صلتي بالمكان.. ولم اعد أفهم او ارى ما كان يجري حولي. لكنني كنت أسمع وقع خطىً وجلبة وأصوات تصرخ بهم وتردد اسمي.. وتطالب الخاطفين بإطلاق سراحي، لأعود الى مقاعد الدراسة. كان المتظاهرون يهتفون بلغات مختلفة. وجوه كثيره أراها في خيالي تتدافع من اجل إنقاذي. سمعت أحدهم يخبر آخر بأن حملات كثيرة تنظم الآن من أجل إيقاف محركات الطائرة لمنعها من الطيران... ثم اختفت الحركة والأصوات على نحو مفاجئ. ولم تمض سوى بضع ثوان حتى شعرت بيدين غليظتين تمسكان بي وتدفعاني الى أمام.
ما زلت معصوب العينين ومصفّد اليدين، حين ساروا بي في ردهات شممت فيها روائح مختلفة، سمعت أبواباً تفتح وتغلق، وخطىً مختلفة الايقاع تمر.. عادت تلك الاصوات ترن في اذني، لكنها تغيرت، ولم تعد بتلك الكثافة التي كنت أسمعها، قبل ساعات. حاولت جهدي أن أخمّن مكان وجودي، بعدما أفقت من تأثير المخدر، لكن الصوت الذي سمعته في السفارة، يعود من جديد ليقول لي بأنني الآن في بغداد، وفي ضيافة المخابرات العامة.
فكوا وثاقي ورفعوا الخرقة التي سدوا بها عيني، وطلبوا مني خلع ملابسي ووضعها في كيس من البلاستك، ثم أدخلوني الى غرفة طويلة وامطروني برشاش ماء بارد.. اعطوني بنطالا مهلهلاً وقميصا ووجبة طعام، وأمروني بالجلوس على كرسي وسط غرفة موصدة مضاءة بمصباح أحمر طغى على فضائها.. سمعتهم يقولون عنها الغرفة الحمراء...مكثت اياماً وشهور في تلك الزنزانة "الحمراء"، لم التق ولم أرَ خلالها أحداَ. كانت بقياس متر مربع واحد في وسطها انتصب عمود صب من الكونكريت لها باب حديدي صغير حُفرت به كوّة صغيرة يمررون من خلالها الاكل وليس فيها نافذة. وبعد شهور من التعذيب والمعاملة الفَضّة من قبل رجال الاستخبارات، فُتح باب الزنزانة ودخل شرطيان اقتاداني الى الخارج. قال لي أحدهما:
- أنك ستمثل أمام محكمة الثورة.
- وماهي تهمتي؟
لم أحصل على جواب.
سار بي الشرطيان الى أحد الأبواب المغلقة. وتوقفنا برهة، ثم طرق أحد الشرطيين الباب وفتحه دون ان ينتظر الاذن بالدخول. دخلنا نحن الثلاثة الى قاعة صغيرة تتصدرها طاولة جلس وراءها ثلاثة أشخاص، وأمامهم نُصِبَ كرسي فارغ. طلب مني الرجل الجالس في الوسط، الجلوس عليه. وكما توقعت، كان هذا رئيس المحكمة الذي قرأ لائحة من عدة اتهامات، ثم لخصها في قيامي التشهير بالحكومة أمام المجتمع الدولي.
لم يسمع القاضي دفاعي على ادعاءات المحكمة واتهاماتها ضدي، بل قاطعني وأنا أقول
- يا سيادة القاضي....،
وراح يقرأ في ورقة اخرى أمامه:
- حكمت محكمة الثورة المشَكّلة في هذا اليوم على المتهم طلعت سمعان بالإعدام شنقاً حتى الموت.
أصابني الذهول مما سمعت. أخرجوني من القاعة وأنا أحاول أن أستوعب ما يجري. تساءلت في نفسي، هل يستحق ما قمت به من نشاط سلمي من اجل وطنٍ حر، يعيش فيه الناس سعداء، لا سجون ولا معتقلات لأصحاب الرأي.. وهذا مثبت في اللائحة الدولية لحقوق الانسان. فالى هذ الحد هم خائفون؟ إذن أنا على حق في كشفهم للرأي العام!  ولست نادماَ، بالعكس أنا فخور بنفسي فقد صمدت وقاومت كل ممارساتهم القميئة مستلهما الدروس والعبر من مناضلين أشداء سقطوا على الأرض من جراء التعذيب والتنكيل، بعلو هاماتهم.  بعد هذا الحوار مع النفس، هدأتُ قليلاً ورحت أفكر بأمور تتعلق بكيفية تحصين نفسي استعداداَ لما سيأتي. 
أعادني ذات الرجلين الى زنزانتي الحمراء التي مكثت فيها عدة أيام بانتظار تنفيذ حكم الاعدام الذي لم ينفذ، بل أُستبدل بالمؤبد.. سمعت أن ذلك جرى بعد الحملة الدولية التي نظمتها منظمات المجتمع المدني العالمية وبرلمانيون أوروبيون وشخصيات أخرى بالضغط على الحكومة للعدول عن قرار الاعدام والحكم بالمؤبد. وهو اعدام مع وقف التنفيذ.
في السجن التقيت شخصيات من مختلف النماذج، والخلفيات الاثنية والحزبية، سياسيون وأدباء وفنانين، علمانيين ومتدينين علماء أو جهلة وأيضا مجرمين سراق وقتلة. محكومين بجرائم   مختلفة.
في لحظة ما، تنبهت الى أن أبن أخي كان يحدق بي صامتاً، وأنا أقص على الحاضرين حكايتي.. كانت دموع أمي التي سالت بصمت تبوح بأشياء حبستها في دواخلها سنوات طوال، أشياء فاضت بها نفسها الطيبة فكشفت عنها بمزيج من الحزن والدعاء والشكر للرب، على انني لم أعدم. وخرجت حياَ.
أردت التوقف عن الكلام، لكن شغف ابن أخي لسماع الحكاية كاملة، دفعني الى الاستمرار في الحديث عن تلك السنوات الطويلة العجاف التي قضيتها في "أبو غريب" وما تعرضت له وباقي السجناء السياسيين من تعذيب ومحاولات كسر الارادة وحتى التصفية الجسدية. لكني لم أمت ولم أخنع للحاكم وجلاديه. وربما يسألني سائل عن السر في ذلك. أقول الصلابة والصمود والتحدي كان يهز الجلادين من الأعماق. حياة السجن بطبيعتها قاسية، فكيف إذا طالت لأكثر من عقدين من الزمان؟ لكن قسوتها يمكن للإنسان ان يتحملها اذا ظل وفياَ لمبادئه النبيلة. وأنا أقول الجملة الأخيرة داهمني الإعياء، فاعتذرت عن مواصلة الحديث. لكن وعدتهم بشرح تفاصيل أخرى من قصتي مع السجن في وقت لاحق.