
بدأ برتولت برشت بالتنظيرِ إلى أعماله المسرحية على أنها تجارب تهدف إلى إظهار أن العالم بحاجة إلى التغيير. وأن المسرح هو المرشحُ الكبير بالقيامِ بهذا التغيير. وقد سبق حركة برشت، به الملحمية في المسرح، العديد من الكُتاب المرموقين، الذين أثروا الحركة المسرحية في عموم ألمانيا، وكذلك على نطاق أوربا أيضاً. ومن بين المسرحيين الذين كان لهم دور كبير في هذهِ النهضة المسرحية: (كارل جورج بوشنر) وأعماله في الفترة ما بين الأعوام 1813 ولغاية العام 1837، والتي عُرفتْ على نطاق واسع مثل (Woyzeck)، وكذلك المسرحيات التي كتبها (فرانك فيديكيند). الذي يمثلُ النهضة الفكرية على خشبة المسرح، كما يمثلُ الخروج على نمطية الأداء المسرحي. حيث كان فرانك فدكيند كاتبٌ ومخرج مسرحي، وشاعر، وقاص، وممثل حاولَ الأبتعاد عن نمطية الأداء على خشبة المسرح. وفي العودة إلى النظرية البرشتية على المسرح، نلاحظُ بأنه لم يكن برشت يرغب في الاكتفاء بتصوير العالم كما هو عليه بالمعنى الطبيعي. بل أراد تغيير ذلك العالم والنظرة إليهِ كذلك. ولهذا السبب، جمع برشت عناصر مسرحية كثيرة مستمدة من التجارب التي سبقته، وبفطنة كبيرة ودراية عالية بمُرادهِ من النظرية الملحمية في المسرح، والتي نظّرَ إليها كثيراً، أستطاع أن يحول كل تلك التجارب إلى واقعٍ ملموس على خشبة المسرح. وقد حقق نجاحاً كبيراً في مسرحيته (الأم الشجاعة وأولادها) عام 1941، حيث استخدم مصطلح المسرح الملحمي بشكل حصري تقريباً في هذهِ المسرحية والمسرحيات التي تلت تلك المسرحية، والتي أعدها النقاد الانطلاقة الحقيقة نحو المسرح الملحمي بتجلياتهِ التي نظر إليها برتولت برشت. ومن المسرحيات المهمة لـبرشت والتي نالت استحسانا كبيراً، وتعرضت للنقد الكبير، وحظيت بالكثير من السجالِ والنقاش هي مسرحية (القائلُ نعم، والقائلُ لا)، هذهِ المسرحية التي تُعدُ من أغرب اعمال برشت، وأكثرها إثارة للسجال، وهي مسرحية تحملُ عنوانين: (ذاك الذي يقول نعم) و (ذاك الذي يقول لا). وإذا كان بعض دارسي اعمال برشت يقولون إن هذا الكاتب المسرحي الالماني الكبير، قد كتب العملين معاً، كنوعين مختلفين على موقف واحد، حيثُ يحاول الكاتب أن يرسم لنا حلّين له، لكل منهما ايديولوجيته ومبرراته، على غرار ما فعل غوته في مسرحية (ستيلا) ومسرحية (تاسو). فإن البحث الاكثر دقة يفيدنا بأن برشت كتب العمل الاول... ثم، امام الصخب الذي أثارته أيديولوجية ذلك العمل، كتب العمل الثاني على شكل اقتراح لنهاية أخرى تحمل مضموناً فكرياً مختلفاً تماماً. والحال أن التناقض الجذري في التصورات التي تقف في جوهر كل جزء من هذه (الثنائية)، يبرر هذا التفسير الأخير. خصوصاً إذا أدركنا أن النقد، من بعد تقديم (ذاك الذي يقول نعم) انقسم حيال برشت، فوقف (الرجعيون) و (اليمينيون) معه، فيما وقف ضده غلاة (التقدميين).
والغريب في الأمر أن الفريق كان يضم طلاب مدرسة (كارل ماركس) في مدينة برلين، من الذين طرحوا على العمل كلّه سؤالاً جوهرياً، تمعّن فيه برشت وقرر بالتالي أن يكتب شكلاً آخر للمسرحية نفسها، يبعدها من الحل الميتافيزيقي، ويقربها من الواقع، وإيقاد جذوة التفكير الإنسانية البحتة.
وفي الأساس، كانت (ذاك الذي يقول نعم) مسرحية تعليمية قصيرة استوحى برتولت برشت شكلها في العام 1930، من مسرحيات (النو) اليابانية التي كان بدأ يطّلع عليها، وينشدّ الى الكتابة على منوالها. وهكذا اختار لذلك العمل الذي قدّم على شكل (اوبريت مدرسية) للمرة الاولى في حزيران (يونيو) 1930، على ايقاع موسيقى كتبها كورت فايل. وكان من بين الطلاب الفتيان فتى، ينكشف خلال الطريق أنه هو بدوره، مصاب بالوباء، الذي كانت امه احدى اوائل الذين اصيبوا به، هو الذي كانت غايته من الرحلة شفاء أمه قبل أي إنسان آخر. وهكذا إذ يتهالك الفتى ويبدو واضحاً من أنه لم يعد في إمكانه أن يواصل الرحلة مع رفاقه، كان لا بد لهؤلاء من أن يسألوه إذ صار عائقاً في وجه إكمال الرحلة، عما إذا كان يرضى بأن يترك في المكان، وذلك تبعاً لتقاليد عريقة تفرض طرح مثل هذا السؤال. الفتى يرضى بأن يتم التخلي عنه، من اجل أن يواصل الطلاب رحلتهم قائلاً: (لا ينبغي أن تعودوا على أعقابكم بسببي. أنا اقبل أن أتركُ في المكان هنا، ولكنني اخاف أن أبقى وحيداً حتى اموت في بطء. لذلك ارجو منكم ان ترموني في قعر الوادي). ويستجيب الرفاق إلى طلبه، بحيث أننا في المشهد الاخير نرى ثلاثة من رفاقه يحملونه ليلقوا به في الوادي فيما هو يقول صارخاً: (كنت اعلم تمام العلم أن هذه الرحلة ستكلفني حياتي... ارجوكم خذوا ابريقي واحضروا الترياق فيه... اعطوه لأمي لدى عودتكم).

لقد كانت هذه النهاية التي تنمّ عن نوع من افتداء الآخرين، خصوصاً أن الطلاب بعدما رموا رفيقهم في الوادي، راحوا ينوحون على (مجريات العالم الحزين وشرائعه الظالمة)، هي ما أثار اعجاب من يسميهم الباحثون في تاريخ برشت (النقاد البورجوازيين، من متدينين وعلمانيين) حتى من الذين راقهم بُعد المسرحية من السياسة المباشرة وما فيها من دلالة على أن التضحية بالفتى تعني أنْ الكون يخص العناية الإلهية التي ينبغي أنْ تطاع كلمتها بكل حرية وفي شكل تلقائي (كما قال الناقد فالتر ديكس يومها، فيما اثنى ناقد آخر على عمل فيه هذا القدر من الوعظ بالاستسلام والقبول بالتضحية بالذات وبالحياة في سبيل افتداء البشرية. لم تكن طبعاً مثل ردود الفعل هذه، ما كان من شأنها أن ترضي برشت، إذ اتت ممن اعتادوا معاداته بسبب أفكارهِ التقدمية. لكنه كان من شأنه أن يغض الطرف عنها، لولا إن اليساريين والتقدميين هاجموا المسرحية للأسباب ذاتها، حيث كان شعارهم (لا... لذاك الذي يقول نعم)، ورأوا في المسرحية، على رغم تقنياتها الفنية الكبيرة (خلاصة العناصر السيئة التي تتسم الفكر الرجعي). حين ذكّرتهم بكل (أولئك الذين لم يترددوا عن ان يقولوا نعم... للحرب). اذاً، امام هذه المواقف، كان لا بد لبرشت من أن يتحرك ملتفاً. والحال أن السؤال الاساس الذي وجهه إليه طلاب مدرسة (كارل ماركس)، كان هو الذي اعطاه وحيه الجديد. كان السؤال: ترى، ألم يكن على رفاق الفتى أن ينقذوه بأن يربطوا له حبلاً حول جذعه ما يقيه الوصول قتيلاً إلى أسفل الوادي؟ ثم لماذا لم يعد الفريق على أعقابه حاملاً معه المريض؟ والخير الذي كان يمكن توقعه من مواصلة الرحلة هل كان مساوياً للتضحية الكبرى التي قام بها الفتى؟
وهكذا، امام مثل هذه الاسئلة، انفتحت امام برشت آفاق جديدة: فكتب مسرحية اخرى هي (ذاك الذي يقول لا). وأصرّ على تقديم العملين دائماً معاً، في فتح لكل آفاق الحلول ولكل الامكانات. وفي هذا الجزء الثاني من العمل تدور الاحداث اولاً، تماماً كما دارت في (ذاك الذي يقول نعم). ثم حين يقع الفتى صريع المرض ويبدو عليه إنه لم يعد في امكانه إكمال الطريق... واذ يأتي رفاقه ليسألوه ما الحل، طالبين منه ضمنياً الموافقة على تقاليد التضحية بالنفس العريقة بعدما كان قد تعهّد اول الطريق بأن (يفعل كل ما سيبدو ضرورياً)، يقول هنا أنه غير موافق: (لقد كان جوابي سيئاً، لكن سؤالكم أسوأ. إن من يقوم بالخطوة الاولى ليس مجبراً، وبالضرورة، على أن يقوم بالخطوة الثانية. كذلك يمكن المرء أن يعرف أن الخطوة الاولى مخطئة. اما التقاليد العريقة فليس فيها أي حس سليم. ما أنا في حاجة إليه إنما هو تقاليد عريقة جديدة، سنعمل منذ الآن على توطيدها: تقاليد تقوم في التفكير من جديد، امام كل موقف جديد). وهكذا لا يعود امام الفتيان إلا أن يحملوا رفيقهم المريض، الرافض للتضحية بنفسه على مذبح الارادة الميتافيزيقية، عائدين به إلى الديار. غير أن هذا كله لم يمنع برشت من أن يخفف من مضمون البعد الايديولوجي للعمل: إذ أن في الجزء الاول القديم كانت غاية الرحلة الاتيان بالترياق، اما في هذا الجزء الجديد فالغاية استكشافية بحتة... ما مكّن الناقد (جون ويليت) من أن يقول معقباً: (إذاً، لئن كان برشت قد استنكف هنا عن ان يقدم لنا حلاً بطولياً، فإنه على الاقل قدم لنا حلاً إنسانياً فيه نهاية سعيدة بعض الشيء).
لقد كتب برشت في العام 1930، هذه المسرحية التعليمية (الثنائية) وسط جملة من مسرحيات أخرى قصيرة كتبها في الوقت نفسه تقريباً، وكانت غايته منها تعليمية، كان في الثانية والثلاثين من عمره، وكان قد وطد مكانته ككاتب طليعي كبير عبر سلسلة اعمال كتبها ومثلت وقوبلت بسجالات حافلة ومن ابرزها (في أدغال المدن) و (رجل مقابل رجل) و (أوبرا القروش الثلاثة)، كما أنه كان يستعد لكتابة العملين الكبيرين (الأم) و (قديسة جان المسالخ)... والحقيقة أن الايديولوجية التي تجدها مسيطرة على هاتين المسرحيتين، تمتّ بصلة وثيقة إلى الاسئلة الشائكة والحادة التي طرحها برشت في (ذاك الذي يقول نعم) و (ذاك الذي يقول لا...).
استند الكاتب في مقالته على الى المصدر ادناه:
- Ilja Fradkin, Bertolt Brecht-Weg und Methode Verlag / Reclam, Leipzig, 1974.