أيلول/سبتمبر 12
   
 
      
اللغة
    اعتقد البعض أن السرد الارتدادي هو مجرد العودة إلى الماضي (فلاش باك) عاكفا عليه ومتحررا من الحاضر بينما يرى طرفٌ آخر من النقاد هو فعل مرن يتحرك بأزمان مختلفة ولم يكن متوقفا على زمن الحدث، ويذكر سعيد يقطين في تحليل (لعبة النسيان) إن الارتداد الحقيقي هو في- النسيان- الذي يكمن في بعده ودلالته وهل هو حقيقي أو وهمي فلا يمكن فهم النسيان من دون التوغل في ذلك العالم البعيد القصي لتحوله إلى مادة حيّة تتجسد لنا ذهنيا وإن لم نرها، ومن هذا التصور نعتقد أن "ما يرتد" عن عالم الشخصيات الروائية لم يكن مقتصرا على لعبة الماضي وحرية التنقل فيه خالي من لغزية وقصديته ورمزية دلالته ومدى تأثير ذلك على الواقع .
في رواية (جنائن الوهم)*، نلاحظ أن قلق جميع أعضاء الفريق الفار من جحيم الغزو الأمريكي وافرازاته الجهنمية إلى رفاهية أوربا يكتنفه الهاجس والتوجس الحذر، ظنا منهم أن في هذا الهروب - وأن كان سوف يضع حدا لمعاناتهم - إلا أنه مشوب بالمخاطر.
 هم تسعة انفار يقودهم مهرب محلي (صبحي الصادق) الذي أكد للجميع نجاح عملية العبور إلى أوربا عبر إسبانيا وإن نسبة الفشل واحد بالمليون وسوف يلتحق بهم (حسون بطة) الذي يسكن في السويد ليدير عملية العبور إلى خمائل أوربا، فلهذا الهروب ارتدادات نفسية واجتماعية وفكرية وسياسية تتقاسمه شخصيات بائسة ومحرومة وناقمة على طريقة عيشها العبثي وكل منهم يعبر عن طريقة حجاجية يتضح من خلالها على الأقل  ذلك الروع أو النفور الذي يغلي في الداخل، كما نسمع ذلك الحسيس وهو يخرج من أعماقهم ،الراوي الذي يبيع نصف بيته وسيارته "مصدر رزقه "ومستلزمات أخرى (حشرت عائلتي في غرفتين كئيبتين في النصف الخلفي من البيت وبعت سيارتي وحاسبتي وتلفازا فائضا ومدفأة ورشاشة من طراز (كلاشنكوف) ومكتبتي التي جمعتها في عشرين سنة) ص12، زياد شاب في الثلاثين نزق ومع ذلك يتمتع باللباقة والشجاعة ولديه قدرة على المواجهة وهو (مخرج الفرقة المسرحية المزعومة) ، جمال الرسام ابن الحادية والعشرين ترك مشغله هربا من القتل، يعتقد (إنه يمتلك وثائق تهديد بالقتل وسوف يحصل على اللجوء فور عرضها على منظمة اللاجئين وكانت الوثيقة خطيرة مختومة بالختم الاحمر)ص17، امرأة وطفل بعمر الزهور لا يتجاوز الخمس سنوات أسمه (سمير)، وصديق الراوي الملقب بالشاعر فهو مهووس بالشعر ولا شيء غير الشعر يستولي على مشاعره، ومرهون بطة شقيق المهرب الرئيسي حسون بطة، أنسان متلون ومتذبذب ويدير اللقاءات بذكاء شيطاني.
 كل أعضاء هذه المجموعة على مختلف أعمارهم وهمومهم يحدوهم الأمل في الخروج من البلاء، فرغم اختلاف النوايا والمقاصد وهذا لا شك فيه، ولكن لا سبيل أمامهم سوى الوصول إلى عالم الطمأنينة والهدوء والأمان فلابد من التظاهر بالوحدة إلى حد الممكن.
 
جذوة النص:
المحاولة أو مغامرة الهروب هي البؤرة الأساسية التي تتشعب عنها الحوادث والأفعال والصراع، وعملية البحث عن مكان آمن ماهي إلا وسيلة لتجاوز المحنة الكبرى بعد أن تعذر عليهم مواجهتها أو تفاديها وبقيت الأقدار تلاحقهم وتضيق الخناق عليهم داخل الوطن، فكان هذا النزوح هو مثابة تطهير للنفس وانعتاقها من عالم الخوف والتوجس والحذر، ولكن المفارقة تحدث أن متلازمة الخوف والقلق بقيت على حالها تضرب في جذور الأحاسيس بصنوف شتى من قساوة الضياع، الضياع الذي يشبه المرض المزمن ولم تعد هذه المغامرة إلا امتداد هائل لوهم النجاة من أسراب المحنة التي لا تكاد  تفارقهم  حتى تلتقيهم كالأعاصير أثناء التنقل بين محطات السفر.
فالراوي المغامر تجاوز الخمسين من العمر، مركب الشخصية، تجتمع فيه كل الشخصيات وترسم لنا شخصية واحدة، نافرة، شبقية، ملتزمة، انتقادية، مهادنة، يرى الشخصيات كالواقع مشوه، الضغوط النفسية والاجتماعية تترك أثرها الواضح على طبيعة اضطراب الهوية، بينما بقية الشخصيات الأخرى كانت متمتعة برؤيتها الخاصة، لم تأت انعكاسا لشخصية الراوي الضمني/المؤلف حيث كنا نعيش معها مخاضات تجاربها الفردية أثناء مجريات الرحلة المضنية.
فكلمة الفريق تطلق على كل هذه الشخصيات المشتركة في هذا النزوح الاضطراري، ولم تأتِ اعتباطا وإنما حاجة التمويه فرضت عليهم تشكيل فرقة مسرحية وهمية من أجل التغطية على هذه الرحلة التي يحلم بتحقيقها الجميع، ولذا كان لديهم كامل الاستعداد لتقبل هذه المجازفة وترويضها من أجل الوصول إلى مبتغاهم (الجنة الخضراء) الموعودة.
صراع الاجيال:
مشكلة صراع الأجيال في هذا النص قائمة على التمرد والتناقض والحجاج وهي مسألة طبيعية لبلد أنهكته ظروف الحروب ليبتلي بفقدان الأمن والاستقرار، تحديات المصير تثير نوازع الإنسان وإشكالياته في الانفعال والتوتر، ولهذا طوال الرحلة وتنقلاتها لم نجد الألفة والحميمية بين أعضاء الفريق النازح، يعني آثار الخوف والهلع مازالت تسري في نفوسهم الولهى نحو التغيير وتلقي بظلالها على كل واحد منهم، فالفجوة غير قابلة للردم مستفحلة للحد الذي نشعر فيه أن طبيعة الألفة فيما بينهم غير متماسكة فهي قابلة للتفتيت أو الانفجار في أي لحظة، التهور والجفاء والعجرفة والاستياء والنفور والتهكم، هذه الصفات هي من تتحكم بأهواء هذا الفريق وإن يتظاهر أحيانا عكس ذلك، فضمور الأحقاد وعملية الغدر لم يتبرأ منها حتى رئيس الفريق الذي يبدو ضاق ذرعا بأمزجة الفريق المتشكك وبالأخص الشاب الوسيم -زيد- الذي يعد محرضا ومشاغبا بين الأعضاء والخلاص منه عبر عملية مخادعة تبدو في ظاهرها طبيعية لا يقصد من ورائها الانتقام، وهكذا بدت لزيد أول المرتحلين على ظهر القارب المتجه نحو السواحل الإسبانية بأنه سبق أعضاء الفريق في هذه الخطوة إلى الحلم بينما في الحقيقة إنه كان " فرس رهان الرحلة" فالخروج واحدا بعد الآخر هو بحجة جس نبض حرس السواحل المغربية وهي طريقة  ماكرة غير مضمونة سلفا، فكان هذا الفخ قد أكل طعمه - زيد - من دون أن يعلم، وقبل بلوغ  القارب لحظة البدء بالشروع والنزول إلى المحيط، أحبطت العملية وأحتجز القارب وألقي القبض على الطاقم ومن ضمنهم الشاب زيد، الذي أثبت للجميع شهامته ورجولته حينما لم يفش بأسرار الرحلة عن الفريق الفني المزعوم أمام سلطات التحقيق المغربية، صبحي الصادق لم يفكر بمآلات هذا الفخ الذي صنعه لنفسه ولأعضاء الفريق.
  هذه الحادثة برهنت على ذروة الصراع الدائر بين أجيال الرحلة وهي انعكاسة ذكية لتفاوت الوعي في استيعاب ظروف المحنة وتأثيرها على الواقع وإن تردي مستوى الخبرة بين الأجيال والتجربة تؤدي إلى ضعف المواجهة أو انحلالها وتذويبها.
التعالي النصي:
في تعريف بسيط لهذا التعالي: هو "التماس" بين الشخصية النصية مع مرويات أخرى سواء كانت أمكنة أو شخصيات فنية أو سياسية يجري التلميح لها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد أحتفل النص ببعض هذه  النماذج منها: المرأة الأربعينية التي صادفها – الراوي – في المطار التي هربت من حضن الوطن بعد نكبتها بأبنها الوحيد الذي عثرت عليه في المشرحة فكانت رغم تلفعها بالحزن إلا أنها تتمتع بأنوثة جذابة فكان يسميها -ميريل ستريب- الممثلة الأمريكية التي حصدت عدة جوائز عن مشاركتها في بطولة فيلم –صائد الغزلان – وهي مستوحية عن رواية – ثلاثة رفاق- للكاتب الالماني -ايرك ماريا- وقام بإخراج الفيلم الناشط الاجتماعي سايكل شيمنو، والفلم يعد صرخة بوجه النظام الرأسمالي الأمريكي اتجاه حرب الإبادة في فيتنام، فشخصية – ميريل ستريب- الجميلة تستنكر ذهاب الشباب للحرب وبشاعتها، فالمرأة الأربعينية لاتختلف عن  احتجاج هذه الممثلة إزاء  فعل الحروب ومجازرها فهما تجسيد لمعنى القبح والجمال في آن إزاء ما يحدث بين الواقع والفيلم هو لم يكن تناصا بقدر ماكان مشابها لردة الفعل التي قامت بها -ستريب- أو المرأة الأربعينية والأثنان يقدمان شكلا احتجاجيا متعاليا لطبيعة الحرب.
والإشارة الثانية التي تتكرر عند الراوي كلمة – كازا بلانكا – وتعني -الدار البيضاء- التي بناها السلطان محمد بن عبد الله (1756 -1790) وهو حفيد مولى اسماعيل وهذه التسمية من أطلقها هم الإسبان عليها، وقد كان البطل الراوي يلمح من خلال هذه التسمية إلى الانعتاق من البؤس والحرمان، أي هي محاولة لتجسير التمنيات المفقودة وشحن الذات بالتفاؤل، فالرغبة المكبوتة تحاول أن تنفذ من قيودها إلى سلطان الحرية، ولهذا بقي التشبث بهذا التكرار لردم هوة الانكسار في داخل الذات.
الإشارة الثالثة التي أعتقد لها صلة مباشرة بالتعالي النصي هو ما حصل من انعكاس واضح لعملية صنع القرار، فانتظار الشخصية الغامضة نوع ما – حسون بطة – الذي لعب بعواطف  الفريق ومشاعره من أول وهلة صعود الفريق بالطائرة من العراق وحتى وصوله  إلى  العاصمة المغربية ولم تتح لهم فرصة اللقاء به لا  في عمان ولا في الدوحة كما هو مقرر لذلك مما زاد توتر الجميع من أجل إنقاذ الموقف، خصوصا بعد ألقاء القبض على زيد، اصبح الوضع متأزما ومربكا وتأثيره قاسيا على الجميع  وهذا يعني ثمة لعبة رمزية، أي أن الفريق الذي يقاد من الخارج كيف يمكن له أن يحقق طموح الأعضاء الآخرين.
       رواية (جنائن الوهم) أعطتنا صورة جلية عن قدرة النصوص على مقاومة أزمنتها واختراق الواقع مهما كان قاتما براهنية الكتابة على تحريك الساكن وفتح شفرات المضمر وكشف التواءات المغمور.
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جنائن الوهم / رواية: علي حسين عبيد . اصدار دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2024  
عباس خلف علي: روائي وناقد من كربلاء، رئيس اتحاد ادباء وكتاب كربلاء سابقاً