أيلول/سبتمبر 12
   

  انتهت العطلة الربيعية من منذ ثلاثة ايام ولم تظهر دنيا عند باب غرفتي لتحيتي مثل كل صباح. كما لم تظهر في حلقة نادي الكتاب التي اقيمها اسبوعيا في حديقة الكلية منذ عامين لمناقشة الكتاب الذي اتفقنا على قراءته في اخر لقاء لنا. كانت خطتي بسيطة لجعل مادة حقوق الانسان التي ادرسها أكثر جذبا للطالبات: اختيار كتب جلها روايات وقصص ومسرحيات ذات مضامين ثيمتها الاساس صراع الانسان من اجل حريته. اعرضها عليهن وحين يقع الاختيار على عنوان ما نلتقي بعد اسبوع لمناقشة اهم الافكار الواردة فيه. العام الدراسي الماضي لبت دعوتي للانضمام الى النادي عدد لا باس به من الطالبات تراجع مع اكتشافهن مراكز جذب أكبر في الكلية. بعد بضعة اسابيع لم يكن في النادي غير ثلاث طالبات 

هذا العام تسربت الطالبات مبكرا من النادي ولم يتبق من طالبات العام الدراسي المنصرم غير دنيا التي لم تكن تنتظر اليوم المخصص للنادي وصارت تظهر في باب غرفتي كل صباح لتعرض على ما تكتبه في دفترها من اقتباسات من الكتاب الذي قراته. كانت دنيا منعزلة ولم ارها تسير مع طالبة من مرحلتها شان طالبات المرحلة الاولى اللواتي يسرن في اروقة الكلية ممسكات بأيادي بعضهن بعضا. اتذكر انها كانت تجلس وحدها في كرسي اخر الصف منكبة على ما امامها من كتب واوراق ولم تكن تتفاعل في الصف. كان نادي القراءة المكان الوحيد الذي تظهر فيه. شيئا فشيئا صارت غرفتي ملاذها وكنت استقبل الطالبات والضيوف بينما تجلس في كرسي قرب الباب من دون ان تنطق بكلمة تكتب شيئا ما في دفترها الازرق او تقلب اوراقه.. كانت تنسحب بهدوء حين ترى زميلة تزورني. كان كثير من زميلاتي يعتقد ن ان ثمة صلة قرابة تجمعني بدنيا.

لم أكن اعرف الكثير عن دنيا مثلما لا اعرف الكثير عن المدينة التي جئتها العام الماضي ملتحقة بزوجي الذي يعمل في شركة نفطية. وافق عميد كليتي السابقة بسرور على طلب تنسيبي الى كلية التربية للبنات في الشطرة. كان وجودي في الكلية مصدر ازعاج وقلق له. لم يكن راضيا عن الطريقة التي ادرس فيها وكان يطالبني الالتزام بالمنهج الدراسي وعدم تناول امثلة من محيطنا الاجتماعي. في اخر مرة استدعاني فيها الى مكتبه لم يكن فظا في طريقة كلامه حسب بل لوح بإحالتي الى لجنة تحقيقية لأني كما قال "اهدد السلم المجتمعي بتحريضي الطالبات على اسرهن!!".

كل الذي اعرفه عن دنيا انها ابنة عسكري في الجيش ولديها اربعة اشقاء ذكور أحدهم يكبرها بالعمر وشقيقة في السادسة من العمر. كانت دنيا لا تجد في بيتها مساحة خاصة بها وكان نادي القراءة عالمها الذي يجعلها بعيدة عن اعمال المنزل والمقررات الدراسية. كانت دنيا تسكن في ناحية خارج مركز المدينة تقطع أكثر من ساعة في السيارة   لتصل الكلية. يصحبها اخوها الكبير الذي يعمل في الشفت الصباحي لمحل يبيع الملابس المستعملة في مركز المدينة. كانت تجلس بانتظاره حتى الانتهاء من عمله لتعود معه. لم تكن تتغيب عن الكلية حتى في الايام التي تسبق الامتحانات وتتفق فيها الطالبات على البقاء في منازلهن استعداداً للامتحانات.

كنت ملزمة بالحضور يوميا لان مادة حقوق الانسان التي ادرسها لكل اقسام الكلية تجعل من حصولي على يوم واحد رفاهية لم يبد على دنيا ان لديها مكانا اخر تذهب اليه فكان نادي القراءة ومن ثم غرفتي ملاذها. شيئا فشيئا انتقلت دنيا   من تسجيل ما يثير انتباهها من عبارات وافكار من الكتب الى تدوين افكارها الخاصة. وحين بدأت هذا طلبت مني على استحياء ان تترك دفترها في مكتبي بعد انتهاء اليوم الدراسي. قالت ان لا مكان لديها تحتفظ به بما تكتب بعيدا عن انظار اخيها الذي كان يستمتع في تفتيش اوراقها وكتبها وموبايلها.

لم أفكر بتصفح دفتر دنيا القابع في درج مكتبي الا بعد ان رأيت اسم دنيا في يافطة نعي علقت بباب الجامعة بعد ثلاثة ايام من غيابها. اخبرتني رئيسة القسم انها ذهبت مع بعض التدريسيات لتقديم العزاء لوالدة دنيا حين علمن بوفاتها.

كانت بي حاجة لبعض الوقت لاستوعب مثل هذا الخبر. لم أعلق بغير سؤال واحد: كيف ماتت؟

  • بالنهر.. ماتت غركانة!

نظرت اليها انتظر التفاصيل لكنها تركت مكتبها وسبقتني الى الباب تحثني على التوجه الى الصف- دكتورة الطالبات بانتظارك!

يومها فتحت درج مكتبي واخرجت دفتر دنيا. سرت رعشة في جسدي وانا المس الدفتر لأضعه في الحقيبة مع اوراقي. في طريق العودة كان موت دنيا يهيمن على أحاديث التدريسيات اللواتي ارافقهن يوميا في رحلة الذهاب والاياب من مركز المدينة الى الكلية. لم اشترك بالحديث عن دنيا التي تحولت الى المرحومة.. عن مهابة مأتم العزاء والولائم التي اولمتها الاسرة للمعزين.

عرضت احداهن مرافقتي ان وددت الذهاب فقلت بصوت لا يكاد يسمع: بعدين اروح

سالت كيف ماتت؟

  • دنيا كانت مخطوبة وكانت مع والدتها ووالدة خطيبها رايحات للسوق حتى يشترن لوازم العرس. بالطريق طلبت دنيا من السايق يوكف قرب النهر. جانت دايخة من الطريق ورادت تغسل وجهها. امها ضاحكة وكايلة الها اخذي بطل المي واغسلي وجهج. مجاوبتها لا اريد اغسل وجهي وابلل رجلي بماي النهر. ام خطيبها كايلة لامها ماء النهر بيه بركة خليها تروح تغسل وجهها. تكول امها دنيا راحت للنهر واحنا بقينا بالسيارة نسولف .والسايق نزل ينظف جام السيارة ويدخن.

استبطينا دنيا.. راح السايق يشوفها مالكاها.. رجع كال ما لها أثر. ركضنا للمكان لكينا جنطتها                     وحذاءها.. وهي مالها إثر. المغرب يله لكوها الغواصين والشرطة النهرية.  

مرت سنتان على تحول تبارك الى ذكرى مقيتة لا يود أحد الحديث عنها.. تبارك صديقة طفولتي. انا ايضا صرت جثة تمضي الى النهاية بلا خوف او شعور بالتهديد.. لن يكون بمقدور أحد ما مسي بعد الان.. ان فعل لن اشعر بشيء.. صوته صار بعيدا الان.. خطواته المتجهة الي لن ترعبني بعد الان.. ولن يكون على امي تحمل شتائم ابي ولوم اخوتي لأنها لم تحسن تربيتي.. لن يطاردني بعد الان لفيح انفاسه وهو يقبع فوقي وكفه على فمي يكتم صراخي.

لن اجعل  مصيري مشابها لمصير تبارك التي هربت الى بغداد ولحق بها ابناء عمها ليقتلوها اويدفنوها  في يشن عشيرتهم . تبارك خافت من فضيحة صورها التي ارسلتها الى شاب تعرفت عليه عبر الانترنت . حين بدا يطلب منها المال مقابل عدم نشر صورها اتتني مستنجدة .نصحتها بان لاتفعل لكنها كانت مرعوبة من تنفيذ تهديده . لم تكن قابلته وجها لوجه.تواصلها معه كان عبر الواتساب . حضرت شابة في باب المدرسة  وتسلمت المبلغ . بعد اسبوعين عاود مطالبتها بمبلغ من المال . كان على تبارك تدبر المبلغ فاتت تطلب المساعدة.قلت لها انه لن يتوقف وعليها ان لاتثق بوعوده .كانت تبارك تدرك هذا في اعماقها لكنها لم تكن تملك من وسيلة غير هذه .اعطيتها ما املكه من مال وفرته على مدى سنوات .

في ظهيرة  شتوية اتت والدة تبارك الى منزلنا تسال عن تبارك . لم اكن قد رايت تبارك في المدرسة ذلك اليوم .كنا نستعد لامتحانات منتصف العام وغادرنا المدرسة مبكرا .

جلست والدتها تسالني ان كنت اعرف  صديقات يمكن ان تكون تبارك عندهن . اخبرتها بعدم معرفتي . كانت انظار والدتها معلقة بشفتي  تتامل خلاصا . كانت تبكي وتلطم وجهها صارخة" صخام بوجهي .. شراح يخلصنا من ابوها .. شراح اكول لابوها من يجي ومايلكيها بالبيت !

حاولت امي التخفيف عنها وتهدئتها .رايت الرعب بوجه والدتي . رعب لا يمكن وصفه .كان  رعبا ممتزجا بذهول .كانت تحاول طمانة والدة تبارك  وكانها في عالم اخر . تنظر الى وجهي بذهول وهي تربت على كتف والدة ام تبارك التي جلست على الارض  تضرب وجهها وصدرها وتشد شعرها بهستيرية .مرددة "شراح اكول لابوها .. بنتك طلعت ومارجعت!

في غضون ساعات كان خبر اختفاء تبارك حديث الحي  واخذ والد تبارك وابناء عمها يبحثون في المستشفيات ومراكز الشرطة علهم يعثرون على اثر لها . ذهب والدها الى بيت مديرة المدرسة وحملها مسؤولية اختفاء ابنته . وتناقل الناس مشاجرة عنيفة كادت  ان تتطور الى استعمال السلاح بين والد تبارك وبين زوج مديرة المدرسة لولا تدخل الجيران .  لم يكن والدي في البيت . وحين عاد بعد اسبوع في اجازته الدورية نظر الى وجه والدتي بحضوري وقال لها "اي شيء يصير لدنيا اقتلك "

كان والدي يردد مكان البنت بيت زوجها . امي كانت تريد  ان اكمل الدراسة لاعمل وان لا اكون بحاجة الى الاعتماد على الزوج . لم تكن امي قد درست غير بضع  سنوات بالمدرسة وبالكاد تستطيع القراءة . كانت تكتم غيرتها من  ابنة خالتها التي صارت معلمة  تزوجت من شخص لم تجبر على الزواج منه .

بعد اختفاء تبارك تغيرت حياة طالبات المدرسة.  كثير من الاهل منعوا بناتهم من مواصلة الدراسة اما والدتي فكانت ترافقني الى المدرسة صباحا واجدها بانتظاري حين اخرج .عبثا حاولت مديرة المدرسة اقناع الاهل ان تبارك لم تختف من المدرسة وان لا علاقة للمدرسة باختفاء تبارك.

شعرت بالارتياح لمرافقة والدتي لي.  جنبني ذلك الخوف الذي كان يلازمني مذ كنت في السابعة من عمري حين رايته في باب المدرسة .اتى ليأخذني من المدرسة حين  تعرضت والدتي لنزيف اثناء ولادتها اخي ما اضطر والدي نقلها الى مستشفى المدينة رافقتها زوجة عمي جاء عمي الى البيت واخذ اخوتي الى بيته ثم اتى الى المدرسة لاخذي الى بيته .كان عمي يكبر والدي بعشر سنوات .كان قد تجاوز الاربعين من عمره  . رأيت عمي عند باب المدرسة يومها انتابتني مشاعر خوف وقلق . كنت اتجنبه منذ  اشهر لكن ظهوره افقدني الخوف منه الى الخوف على والدي. خلت ان شيئا سيئا حدث لوالدي  . اخبرني  ان علينا الذهاب الى البيت لاخذ ما احتاج من ملابس قبل الذهاب الى بيته . اخرج عمي من جيبه مفاتيح البيت ونظر الي يستعجلني بالدخول . اسرعت الى  دولاب الملابس احضر ملابس اخوتي . تفاجأت  به يقف خلفي يربت على كتفي طالبا مني ان لا اخاف . كان صوته  مرتبكا وغريبا وهو يقولها لي مقتربا من عنقي . شعرت بانفاسه وهو يرفع غطاء شعري ويصب كلماته باذني. تجمدت من الخوف وتيبست أطرافي. حملني بين يديه وانا متصلبة من الخوف ووضعني على الملابس التي كنت قد صففتها على سرير والدتي . رفع تنورتي المدرسية الطويلة وهو يطبق على فمي .اخر ما رايته هو عيناه الجاحظتان ولمعان جبينه المتعرق . شعرت بألم لا يوصف وسؤال وحيد كان يتردد في ذهني "شنو سويت حتى يعاقبني عمي؟"  صرخت بقوة حين ادخل ما خلته اداة حادة  بين فخذي .. ربما غبت عن الوعي لوقت لا اعرف كم استمر. صحوت على صفعة منه وحين فتحت عيني رايته ينظف الدم المنساب على فخذي .. حملني خارج الغرفة وعاد لينظف اثار دمي على فراش والدي .. بقينا في البيت لوقت من الزمن  .كنت ممددة على ارض غرفة الضيوف انظر الى باب الغرفة خائفة لا اعرف ما افعل. كنت ارغب بالهروب من البيت خشية ان يعاود تعذيبي وكنت خائفة ان يلحق بي ويضربني . دخل عمي وهو يحمل  كيسا حشر فيه الملابس التي كنت انوي اخذها لاخوتي.  جلب لي كوب ماء وامرني ان اشرب الماء. نفذت ما طلبه بصمت بينما وقف امامي يمشط شعره امام مراة علقت قرب باب الغرفة . جلس جنبي وقال"اذا عرف اي احد اللي صار راح اذبحج انت وامج..  مفهوم؟ اشرت براسي .كرر اريد اسمع منج. خرج صوتي بصعوبة مفهوم .

 بقيت امي بالمستشفى اكثر من اسبوعين كنا خلالها في بيت عمي تهتم بنا ابنة عمي الكبيرة اخذني خلالها مرتين الى البيت وعاود مافعله معي . في تلك الايام كنت اخشى النوم لئلا اتبول في فراشي وتتندر ابنة عمي بالحديث عني صباحا.

كانت تبارك الابنة الوحيدة ولها  اخوة صغار في السن .تولى اولاد عمها البحث عنها بينما التزم والدها البيت ولم يخرج منه  اطلاقا. بعد اشهر من اختفائها تمكن اولاد عمها من الوصول الى المكان الذي تعيش فيه تبارك. كانت  تعيش في بغداد في شقة تسكن فيها فتيات هربن من اسرهن يعمل بعضهن في محلات مساج واخريات يمضين النهار بالتسول في تقاطعات الطرق وراقصات في الملاهي الليلية . كانت تبارك تتسول ونسيت وضع نقاب على وجها فتعرف عليها  سائق سيارة اجرة كان يقود سيارته في بغداد. لم  يحضرها اولاد عمها الى بيت الاسرة. توجه اولاد عمها مباشرة الى يشن العشيرة الذي يبعد عدة كيلومترات عن المنطقة. توجهوا بها الى هناك وانتهوا من الامر بسرعة. دفنوها وعادوا الى بيوتهم ليحلقوا ذقونهم ويبدلوا ثيابهم وحياتهم من جديد .في اليوم التالي خرج  والد تبارك لاول مرة من بيته مذ اختفاء تبارك وهو يسير بوهن  يسنده أولاد اخيه الى مضيف شيخ العشيرة.

أتذكر جيدا ذلك اليوم . كنا في البيوت في عطلة المراجعة التي تسبق امتحانات البكلوريا. يومها تناقلت زميلاتنا في الصف خبر العثور على تبارك  . كانت حفلة بكاء ورعب عاودنا بعدها الحياة من دون تبارك ولم يات على ذكرها احد بعد ذلك !

 

  افكر باختي الصغيرة.. انها في الخامسة .. لم يتبق لها الكثير لتعيش... ماهي الا اشهر وسوف تفقد شرائط شعرها الملونة واللعب امام باب الدار مع بنات الجيران .. سيكون عليها ان تعتاد تكوير شعرها الطويل ولفه قبل ان تخرج الى المدرسة او حين يزورنا ضيوف .. هي تلعب هذه اللعبة مع صديقاتها الان.. تاخذ عباءة امنا وتتلفع بها .. يلعبن دور الامهات .. انها لعبة لعبتها  حين كنت  بعمرها... لن تتاخر طويلا .. سؤال يعذبني:من يحمي اختي الصغيرة؟. هل سيتحول الى اختي  ان انهيت حياتي؟ نظراته اليها قبل ايام ارعبتني وهي تسرع لحضن عمها الطيب الحنون الذي جلب الحلوى لها الحلوى واجلسها على فخذه!        

تمكنت من المناورة كثيرا بمساعدة امي في ثني والدي من تزويجي.. في النهاية.. الزواج هو مصير البنات. مافائدة الدراسة؟  هذه المرة من المستحيل المماطلة فقد وافق الشاب على شرط والدتي با ن اكمل دراستي الشاب من ابناء عمومة والدي وهو وان لم يكمل تعليمه لكنه لايرفض فكرة الزواج بامراة تعمل مدرسة في مدرسة بنات

 وجدت امي  في العريس فرصة جيدة وبدات  تحضيراتها للعرس . منذ اسبوعين وهي تحثني على مرافقتها الى السوق لشراء الملابس . اتت والدة العريس واخواته والبسنني خاتم الخطوبة . الخاتم الذي اخلعه كلما وصلت الى الكلية كي لا اضطر البوح عن ما حرصت سنوات على كتمانه.  سالتيني عدة مرات عن سبب شرودي وارتباكي وتغيبي عن الدروس والاكتفاء بالجلوس في  حديقة الكلية .. كنت اراك تتحدثين مع الطالبات المتجمعات تحت شمس الشتاء اللذيذة وانظارك مصوبة للطالبة التي تهرب من الدفء الى الظل على مصطبة صدئة تحت شجرة الزيتون الهرمة !

اجلس هنا لأكتب اليك اخر أوراقي . ستكون هذه الحروف اخر ورقة في حياتي .. لا تستحق مني امي الغضب والعنف واللوم الذي  سيصبه والدي عليها . سيحملها مسؤولية مالحق به من عار .. ربما سيمنع اختي ليس من المدرسة فقط بل من الحياة بتزويجها  حال بلوغها الثانية عشرة  !  لن يكون اخي قادرا على الخروج من البيت ومواصلة حياته قبل ان يغسل عاره .. اتخيل مايحدث حين يكتشف العريس اني لست عذراء وسوف يعيدني الى اهلي  بالليلة ذاتها لاتلقى مصيري.. وقد يقوم عمي بقتلي بنفسه ان لم يجرؤ والدي واخي على قتلي ! نعم .. لا تستغربي سيكون عليه قتلي للمرة الاخيرة ! عمي عميد الاسرة والمرشح ليكون شيخ العشيرة! عمي الذي  يلجا  اليه الناس للاستفادة من  حكمته في حل مشاكل افراد العشيرة . لن امنحه هذه الفرصة ليشمت بوالدتي التي لم يكن موافقا على زواج والدي منها .. والدتي كانت مختلفة عنهم. كان يقول عنها انها "مو من طرزنا" اتى بها ابي من الحلة حين كان يؤدي خدمته العسكرية هناك. 

اقضي ايامي هذه بالتفكير بالطريقة التي علي ان اختارها لانهاء حياتي! تناول السم او شنق نفسي بتعليق حجابي في المروحة السقفية وركل الكرسي مثلما فعل ابن جيراننا الشاب ؟ فكرة استعمال السلاح الذي نخبئه في البيت ترعبني. اعرف اني سوف اتردد ولن افعلها .ما رأيك في ان ارمي نفسي امام سيارة ؟  انها مخاطرة فقد لا اموت واخرج بكسور فقط .علي ان اختار مكانا على الطريق السريع وفي الظلام  لكي اضمن ان تكون السيارة مسرعة ولا يتمكن السائق من تفادي صدمي ! سوف تنشغل اسرة  صاحب السيارة واسرتي بالفصل العشائري ولايفكرون بي وتنتهي قصتي بسلام.لكن كيف لي  ان اصل الطريق السريع وحدي.لن يسمح لي اخي ان اكون وحدي قد يثير هذا تساؤلات اهلي عن سبب وجودي في مكان مثل هذا بالليل ؟ قبل اشهر طلبت من اخي ان يعلمني قيادة السيارة فسخر مني وحولها الى موضوع للضحك بينه وبين والدي.لم تضحك والدتي وعلقت ان شاء الله تتخرج وتشتغل ويصير عدها فلوس تشتري سيارة تاخذني بيها للحلة اشوف اخواتي بلا منية منكم!

 وأنتِ تقرئين دفتري سوف تفكرين لماذا اشركك بما كتبت؟ وانا بعيدة في مكان اعرف انه ارحم من المكان الذي انا به الان . لا اريد ان يبدو الامر وكانه انتحار .. لا اريد لهم ان يحملوني وصمة الكفر .الانتحار حرام . ستبكي امي وسوف يحاولون معرفة سبب انتحاري وستنتشر الشائعات . ما احتاجه هو نهاية سعيدة لحياتي من اجل امي واختي على المدى البعيد. يجب ان يبدو موتي طبيعيا او نتيجة خطا ما. اذن الانسب ان اختار حادثة اليس كذلك؟

اريد ان تحزن امي لموتي بسبب حادث فقط .. حينها يكون لها ان تبكي وتحاط بنساء الحي وقريباتنا وجاراتنا وسيكون العزاء مهيبا .موت ابنتهم الشابة ! اريد ان يكون لي شاهدة قبر معلومة  في وادي السلام في النجف تهتدي اليه  امي  بسهولة في الاعياد والمناسبات حين تزور احبتها المدفونين  هناك  .تجهر بحزنها ودموعها من دون خشية او لوم .

  حين أصاب وباء كورونا أسرتي رجوت من الله ان لا انجو من الوباء. لم اتناول العلاج وتدهورت حالتي لكني تعافيت في النهاية .. كنا في معمعمة الوباء حين فاتحت جارتنا والدتي لتزويجي من ابنها  فوجدت في التوقيت اشارة ربانية لنهاية حياتي بالوباء! .

أتكلم كثيرا . لا وقت لدي للصمت. اترك دفتري عندك لاني اعرف انك سوف تقرئين سطوري هذه  بعد موتي. ستفتقدين حضوري الى الكلية وسوف تعرفين لاحقا باني لم اعد في هذه الحياة . ما ارجوه منك ان تنقذي اختي . لا اعرف كيف ولكني واثقة من انك ستجدين طريقة للوصول الى امي وتحذيرها . كان علي اخبار امي حين حدث لي ماحدث ولكني كنت صغيرة  احمل رعبا يفتت الحجر. كنت خائفة من عمي. اخاف ان يقتلني ويقتل امي .او يخبر والدي ليقتلني وامي .كان دخول غرفة امي يصيبني بالذعر  وارفض بعناد دخول الغرفة  حين تطلب مني  امي الدخول الى الغرفة لأجلب لها شيء ما ا. رفضت الذهاب الى المدرسة ولم اعد الى اليها غير بعد عامين .كان باب المدرسة يبعث الرعب في ولا اسيطر على مثانتي واعود الى البيت تطاردني سخرية البنات اللواتي كنت ارافقهن الى المدرسة . كنت امضي معظم وقتي متكورة تحت درج البيت ولم اكن استجيب لامي الا بصعوبة. كان والدي يطالب امي ان تضربني لكي يستقيم سلوكي الغريب لكن امي لم تفعل.كنت بنتها الوحيدة حينذاك  .حاولت كثيرا ان تعرف مايخيفني وحين فشلت استسلمت لالحاح جدتي التي كانت ترى اني اصبت بالحسد أخذتني الى "السيد"  الذي وضع يده على راسي وقرا المعوذات وتمتمم بأدعية لطرد العين الشريرة التي اصابتني، لم ينجح "السيد "في اخراج الرعب الذي ينتابني حين  اسمع خطوات عمي وهو يدخل البيت عند عودة والدي في اجازاته الدورية  كنت اختبيء في سطح البيت حتى خروجه.وحين كبرت كنت اتجنب وجوده او التحدث اليه. وفي ايام الاعياد حين يناديني لاخذ العيدية اترك مسافة بيني وبينه ولا انظر اليه. لاحظت امي هذا  وحين سالتني لم ارد بغير القول"ما احبه" لم تسالني بعدها لانها كانت تشاطرني المشاعر ذاتها وربما مر في ذهنها ان عدم حبي عمي هو نوع من الدعم لها !

لا اعرف ان كنت ستطلعين امي على ماكتبت .امي تستطيع القراءة وان كان ذلك بصعوبة فلم تكن قد اكملت دراستها الابتدائية  حين توفيت والدتها وصارت مسؤولة عن اخوتها واخواتها  . لا اعرف ما ستفعل ومارد فعلها حين تعرف بالامر.هل تخبر والدي وتواجه عمي! لا اعرف ولا اريد ان اتخيل مايحدث .كل الذي ارجوه ان تحمي اختي من عمي ومن امثاله . اقول امثاله لاني اخشى من كل الرجال..اخشى ابي واخي وعمي واقاربي وكل مايحيط بي من رجال . اشعر ان مهمتهم الرئيسة في الحياة هو تعذيبنا .

أستاذتي الغالية: لم اكن اتصور انك ستكونين محط اسراري حين دخلت علينا الصف اول مرة  . احسست بانك من كوكب اخر .لم يكن هذا شعوري وحدي . لكن مكتبة النادي التي   اعرف كم اجتهدت من اجل تحقيقها  جعلتني  ادرك انك تحاولين مساعدتنا بطريقة غير مباشرة لتحسين حياتنا .انت الوحيدة التي لم توبخنا او تتعالى علينا . حين تتكلمين في قاعة الدرس او خارجها نشعر بانك تتحدثين عن كوكب اخر لايمكن لنا رؤيته بالعين المجردة!  اعرف انك لاتنتمين الى هذه المدينة ولا تعرفين عما يدور في البيوت .. تنظرين الى الشوارع والسيارات والمؤسسات الحكومية والجامعة لكنك لاتعرفين اننا نعيش حياتنا اليومية بشكل مختلف .فانا مثلا اعيش في بيت فيه اجهزة كهربائية ووالدي في مؤسسة عسكرية لكن حين تحدث مشكلة ما فان ملاذنا هو العشيرة وليس القانون. نأخذ حقوقنا بأيدينا.

تتحدثين عن الحق في الحياة والاختفاء القسري وحقوق النساء والاقليات واصحاب الحاجات الخاصة  لكني واثقة انك لا تعرفين ان لكل عشيرة من عشائرنا مكانها الخاص لدفن النساء ! لا يحتاج الامر للتفكير والتحقيق والبحث ان كانت المراة مخطئة او بريئة . اشاعة واحدة كفيلة بان يكون مكانها في يشن العشيرة !  قد تكون ضحية اغتصاب او ربما لم تفعل غير رد تحية رجل حياها في الطريق وشهد احدهم واقعة التحية ونقلها الى اخيها وقد تكون هربت مع رجل تزوجته من دون موافقة اسرتها وربما صغيرة خافت من تداول صورها على الانترنت مثل تبارك التي قتلت ودفنت في ايشان العشيرة في تلال اثرية لم تصلها ايادي التنقيب بعد تخيلي معي ان تجد فرق التنقيب بعد عقود بقايا نساء ينتمين للقرن الحادي و العشرين  مع بقايا نساء ينتمين الى حضارة لارسا واريدو!

اعرف أنك ستطلبين من زوجك اخذك الى هناك وربما ستجدين احدى الامهات تجلس عند تل تبكي ابنتها المغدورة وقد تتعثرين ببقايا ضفيرة لجثة صغيرة نهشتها الكلاب السائبة! لا انصحك بالذهاب الى هناك لكني ارجو ان تساعدي اختي لكي لايكون مصيرها مشابها لمصيري او مصير تبارك وبقية المغدورات.

لكني لن أكون مثلهن وسأضع نهاية سعيدة لوجودي في هذه الحياة.

كمن يذرف الدموع على دفعات أعدت قراءة دفتر دنيا مرات ومرات علني أحظى بلحظات افصل فيها بين دنيا وبين ما تركته من سطور. استعيد ها تقف في باب غرفتي كل صباح وما كنت أتخيله عنها وعن أخريات اقابلهن يوميا في قاعات الدرس وفي حدائق الكلية من دون ان اعرف أنهن يمضين أيامهن منهمكات في البحث عن نهايات سعيدة للآخرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

إرادة الجبوري: اكاديمية وروائية عراقية