أيلول/سبتمبر 12
   
   
 
صدرتْ مؤخرا عن دار النسيم للنشر والتوزيع بمصر رواية "الفجر جرح أسود" للكاتبة الجزائرية والأستاذة الجامعية وهيبة سقاي وهي باكورة رواياتها وليست أولى كتاباتها فقد نشرت قبلها مجموعتين قصصيتين ورواية مترجمة من العربية إلى الانجليزية٠
تعدّ الرواية مائةً واثنتين وأربعين صفحةً وتوزعت أحداثها على خمسةَ عشرَ فصلا في بناء الرواية وبين الجزائر وأوربا أطرًا مكانية لحركة مجموعة من الشبان الحاصلين على شهادات عليا وعاطلين عن العمل. أصبح الموضوع في حدّ ذاته مستهلَكا إذ تناوبت عليه أقلام الأدباء نثرا وشعرا وعالجته البحوث الاجتماعية، وكذا الباحثون في الاقتصاد والسياسة وهذا الاهتمام من شأنه أن يمثل صعوبةً أمام الكاتبة إذ عليها أن تتميّز وأن تكون لها إضافة وبصمة خاصة ولعلّ حرصها على إنتاج نصّ سردي طريف ينم عن موهبتها التي جعلتها تغوص في نفسية شخصياتها حتّى لتنصهر فيها فكأنها هي، وهذه المقاربة النفسية، تبدأ من عتبة الرواية/ عنوانها الفجر جرح أسود.
نحويا: ينهض العنوان على جملة أسمية مكونة من (مبتدأ) ورد اسما مفردا معرفا (الفجر) و(خبر) هو مركب نعتي اسمي (جرح أسود) فهي بهذه المكونات تدلّ على الثبوت والاستمرار وتوكيد المعنى، وبهذا المعنى لن يكون الفجر مجرد إطار زماني للأحداث يتغيّر بحسب الدورة الفلكية بل هو قائم ثابت لا يتزحزح ولا تتغيّر خصائصه التي ذكرت (جرح أسود).
 
بلاغيا العنوان، تشبيه مؤكّد أي حذفت منه الأداة مما يقوّي وجه الشبه وهو (السواد) وبهذا تنزاح الكاتبة بالفجر عن دلالته التقليدية في الادب وهي التبشير بالتحول من وقت الى وقت ومن حال سلبية عموما إلى أخرى إيجابية لأنّ الفجر يعلن عن الضوء والنور والشروق إلى دلالة مستَحدَثةٍ نلمسها في الاستعارة (جرح) وكظاهرة بلاغية تتواشج مع التشبيه للتأكيد على أن الفجر هو زمن الأوجاع القاتمة والمعاناة التي لا تنتهي، ويصبح الفجر امتدادا لليل، ويعلن عن رواية "البداياتُ فيها نهاياتٌ" وتلك خصائص المأساة.
نستنتج أنّ العنوان قد:
                        - كشف قدرة الكاتبة على التحكم في سجلاتها اللغوية (لأنها  المسؤولة عن اختيار العنوان وليس الراوي)
                        - قد حدّد نوعية السرد في الرواية: القتامة فيها ثابتة
                        - رواية التفاعل والانفعال أكثر مما هي رواية الأحداث
                          والأفعال
 
بنية الحكاية:
حكاية "ناصر"، خريج الجامعة وابن شهيد قدم حياته  في سبيل استقلال الوطن والعيش الكريم لن يحظ بالعيش الكريم وسيمثل في الرواية شريحةً متعلمة ومهمشةً منهم (كمال الحاصل على  شهادة في إدارة الأعمال وأحمد الحاصل على شهادة في الترجمة من سنوات وشريف خريج كلية الحقوق بتقدير جيّد وخالد الخبير الكهربائي و سعيد مهندس الإلكترونيك ص٢٧)تقول عنهم الراوية"شباب من خيرة ما أنجبت كليات الوطن "وستنضاف إلى قائمة الشخصيات هذه شخصية نسائية هي حنان خريجة كلية الحقوق، سيكون للشخصيات الرجالية تجربة موحدة يستقطبها ناصر لذلك سيعمد الراوي الى بناء هذه الشخصية صعدا عبر رواية الأحداث ويكتشفها القارئ من حيث الخصائص الفيزيولوجية والانتماء الاجتماعي والطبع والمزاج تدريجيا ليتبين فعلا أنه انموذج لشريحة ناضلت اجتماعيا حتى ترتقي بوضعها لكنها ستصطدم بفئة أخرى من دعاة النضال والانتهازيين الذين سيتحكمون في مصائر الناس من دون وجه حقّ وسيتخذ بعضهم المتاجرة بالبشر وسيلة لربح الأموال، يمثل هذه الفئة في الرواية شخصية عيسى الضابط المتقاعد سمسار قوارب الموت وجاء على لسان فاطمة (أم ناصر) "يا اكذوبة من أكاذيب زمن الثورة… منذ فجر الاستقلال وانتم عاقدون العزمَ على تدمير الطاقات الشابة من النخبة المثقفة…".
هذه الوضعية الاجتماعية المتأزمة ستمثل ما قبل الرواية لأنّ الحكاية المرويةَ ستنطلق من رغبة الشخصيات في الانعتاق (واقفٌ هو على حافة الجرف الصخريّ يتأمّل البحر الأزرق المترامي…)، وهذه الرغبة ستكون بمثابة اللحظة المفصلية التي ستتحكم في نموّ الرواية في اتجاهين: اتجاه الماضي الذي تعود فيه الشخصية إلى مسافة ما قبل الرواية لتنتقي ما يخدم سيرها في اتجاه الحاضر/ المستقبل، ثم تنمو الحكاية في خطّ البحث عن حلّ للمشكل وكل شخصية ستعيش مغامرة البحث بشكل فردي: فناصر وأصدقاؤه سيختارون قارب الموت لكنّ كلاّ سيتجه في طريق بعد ذلك، أما حنان فستجد حلا لوضعها الاجتماعي في صفقة زواج بمحام ثريّ و  أما فاطمة أمّ ناصر فسيكون سبيلها إلى إنقاذ ابنتها من الإعاقة العضوية الوساطة، وما تحرك الشخصيات بشكل فرديّ إلا دليل على فساد الحكم في الجزائر وتهميش رأس المال البشري وعجز المؤسسات عن إدارة شؤون الناس وتفريغ الوطن من كفاءاته، فيكثر الانتهازيون والاستغلاليون وتحتدّ الطبقية وتنحلّ القيم فيتحلل النسيج الاجتماعي نفسه بل تهيمن المافيا وأساليبها الإجرامية، وفي وضع كهذا يتساوى الموت والحياة لذلك كانت خاتمة الطريق بعد ستّ سنوات (زمن ديمومة الأحداث) درامية بالنسبة الى كل الشخصيات ماعدا كمالا، نهاية اختزنها عنوان الرواية كما بيّنا أعلاه ونهاية حتمية بحكم الجمود الذي ارتهن إرادة التغيير  وتحول العقلية الاستعمارية من قوى القمع الخارجية الى قوى داخلية، وكأنّ قدر شعوب الدول النامية أن تنغلق أمامها أبواب المستقبل فتعيش تاريخها ليلا أبديا.
 
خصائص السرد في الرواية
الراوي هو هوية أدبية لا تعيش الا داخل النصّ وهو ذات متميزة عن الكاتب لكنه يبقى صنيعه.
السارد في هذه الرواية يسرد حكاية غيره، ويتخذ موقعا خارجيا يكون عن طريقه ملاحظا يتابع حركة الشخصيات، وأوكلت إليه الكاتبة وظيفة هندسة العالم القصصي، وتتبّع الشخصيات فهو من هذا المنطلق تتساوى معرفته بمعرفة المتلقّي، لكنّ القارئ سيكتشف أنّ الراوي يخترق ذهن الشخصية ويعيش انفعالاتها وينقل مواقفها بل ويستشرف مستقبلها وهو يسرد بضمير الغائب  كما في قوله "همهمات الرياح يحسها موسيقى جنائزية تعزفها فرقة هياكل موتى تفوح منها رائحة العفن  ص8""ذكريات مشحونة بالألم و رائحة الموت انتصبت بين الاثنين فأفسدت ما كان من ودّ ومحبّة وتقارب روحيّ …ص7" ،وكثيرة هي المواقع التي ينصهر فيها الراوي بالشخصية بل يمكن ان نذهب الى أبعد من ذلك  فنتيّن انّ الانصهار ثلاثيّ :الراوي/الشخصية /الكاتبة  إذا تعلّق الأمر بتعرية الواقع وإصدار موقف منه فالكاتبة في حقيقة الأمر هي المسؤولة عن اللغة وعن قناعات الشخصية وإن تدارت بالراوي ودسّتْ في ما ينطق به جهرا مواقفها همسا  وقد يصبح الأمر مفضوحا في سرد الأقوال خاصة فعندما تصرخ فاطمة المرأة المتواضعة تعليما وثقافةً  في وجه عيسى الضابط المتقاعد "مجنون وخبيث بوجهين قبيحين…ترتدي وجه المخادع السافل على وجه الوطنيّ المحنّك …السمّ في أعماقك والزيف يلطّخ وجهك كأصباغ على وجه مومس…"ص39 لا يغيب عن القارئ تدخل الكاتبة في الاختيارات اللغوية وكذلك في الموقف من تلك الشرذمة المتاجرة بالوطن والوطنية ويتأكد ذلك في استقراء ناصر للواقع الدرامي "اقصد أولئك الذين امتصوا خيرات الوطن …غرسوا أذرعهم الطويلة السامة في كل زاوية من زواياه ثمّ شدّوا الخناق عليه وها هو يصارع حتى الموت…لقد استحلوا كلّ شيء باسم الثورة و التاريخ النضالي والوطن و أنتِ ما زلت بسذاجتك تؤمنين انه بإمكانكِ الحفر في الرمل حيث السراب علّك تعثرين على منبع ماء عذب"، ص55
انّ الهمس بإدانة النظام السياسي وفضح كل الممارسات اللامسؤولة التي أدّت إلى غياب الحرية والعدالة الاجتماعية وانهيار القيم  وتهميش الشباب ودفعه بالتالي الى ركوب قوارب الموت في مغامرة نهايتها سوداوية "لقد رحل (ناصر) وحيدا وبعيدا كطائر سقط في دبق الأكاذيب والخداع وعجز عن متابعة مباهج هجرته……سيتفتت جسده في صمت مفجع في مياه التايمز الجليدية البرودة …لا أحد سيسمع نحيبه الأخرس وصراخه المكتوم …لا أحد أبدا"، ص140
تلك كانت نهاية ناصر الشخصية التي اختزنت مآسي جيل بل أجيال في أوطان ظنت انها قد استقلت من الهيمنة الخارجية وستكون الكرامة فيها مضمونة فلم توفر لهم سياسة الفساد والتخريب غير الموت فكان الخروج من الليل الى الليل وكان الفجر جرحا أسود صوره الراوي ومن ورائه الكاتبة بلغة تنضح مأساةً وعاشت خلاله الشخصيات مغامرات قدرها الفشل.