أيلول/سبتمبر 12
   
 
ري براد بري
 
*عن الكاتب والقصة: ري دوغلاس براد بري 1920- 2012من أشهر كتّاب أدب الخيال العلمي ومن الذين تبنت وكالة ناسا الفضائية الكثير من أفكاره وتوقعاته المستقبلية . ومن أشهر أعماله " في درجة 451 فهرنهايت" " التفاحات الذهبية للشمس "،" الوقائع المريخية" التي أرسلت بنسخة رقمية إلى كوكب المريخ سنة 2008من قبل وكالة ناسا. ومن أطرف ما عُرِفَ به برادبري أنه لم يتعلم سياقة السيارة مكتفياً بدراجته الهوائية وسيارات الأجرة. تقول زوجته مارغريت التي كانت تعمل في المكتبة التي كان يرتادها في شبابه انها كانت تراقبه مخافة أن يسرق كتاباً لكنه بدلاً من ذلك سرقَ قلبها.
في هذه القصة يعطينا الكاتب صورة شبحية لمستقبل الإنسان وانغلاقه على نفسه نتيجة لسيطرة التكنلوجيا على خصوصياته وحريته الشخصية بأسلوب لا يخلو من السخرية على الرغم من سوداوية الموقف. نشرت لأول مرة في مجلة (ريبورتر)عام 1951 ثم تكرر نشرها في عدة مصادر وتعد الركيزة الأولى لروايته في درجة 451 فهرنهايت الصادرة سنة 1953.
   
 أن يدخلَ صمت المدينة المُلفّعة بالضباب ويضع يديه في جيبيّه وهو يَعبر وصلات الثَيل ليضع قدميه على الرصيف؛ هذا ما كان يحبه السيد (ليونارد ميد) . الساعة الثامنة من مساء تشرين الثاني سنة 2052. يروق له أن يقف عند تقاطع الأرصفة ويفكر تحت ضوء القمر أي رصيف يختار. لكن لا فرق في هذا طالما كان وحيدا. مهما يكن فقد وضع قدميه على الرصيف وهو ينفث أنفاسه المضببة كدخان السجائر.
 يمشي أحياناً لساعات ويقطع عدة أميال ثم يعود الى منزله بعد منتصف الليل ويتطلع في طريقه الى نوافذ البيوت المظلمة وهو أمر لا يختلف عن السير في مقبرة حيث لا يرى غير لمعان خافت لفراشات الليل وهي تخرج من السراديب ذات الشواهد المرمرية التي مَسّها ضوء القمر الباهت وربما يسمع أحياناً غمغمة تخرج إليه من المجهول. يتوقف السيد (ميد) أحياناً ويرفع رأسه مرهفاً السمع ويتطلع ثم يواصل مشيه بهدوء. كان قد غيّرَ حذاءه الجلدي بحذاء رياضي منذ زمن تجنبا لإثارة نباح الكلاب البوليسية التي ما أن تشعر بوجوده حتى ينقلب سكون الليل الى مصابيح كاشفة.
لقد اختار أن يمشي هذا المساء غرباً نحو الساحل. كان البرد قارساً يَقطع الأنف ويثلج الرئتين ليجعلهما مثل شجرة عيد الميلاد تضيء وتنطفئ وهو يرهف السمع الى هسهسة خطواته فوق أوراق الخريف أو يُصفر لحنا هادئاً، ومن حين لآخر كان يلتقط إحدى أوراق الخريف، يشم رائحتها القديمة ويتأمل عروقها تحت ضوء القمر الباهت.
"مرحى يامَن هناك!" هكذا يهمس مخاطباً لا أحد كُلّما مَرَّ بأحد البيوت، "ما هي أخبار القنوات4،7،9 لديكم؟ أين ذهب الأمريكيون؟ هل لاحت رؤوس حراب الفرسان فوق الروابي وجاءوا لإنقاذنا؟".
كان الشارع صامتا فارغاً على مَد البصر إلا من ظِله كأنّه ظلُّ طنطل وسط البلاد. لو أغمضَ السيد (ميد) عينيه ووقف ساكنا، لوجد نفسه مُحلقا فوق سهول أريزونا الساكنة شتاءً حيث يبعد منزل عن الآخر مسافة أميال.
ليس هناك من يرافقه في سيره غير قيعان الأنهر الجافة والشوارع الخالية.
"ما لذي يجري الآن؟" خاطب البيوت وهو ينظر الى ساعته، " الثامنة والنصف مساءً؟" أهو موعد عرض مسلسل القتلة؟ أهو موعد برنامج اختبر معلوماتك؟ هل حانت فقرة الرقص الاستعراضي؟ أم تمثيلية هزلية رخيصة؟"
خُيلَ إليه انه سمع غمغمة ضحك في أحد البيوت التي كساها ضوء القمر؟ تردد قليلا لكنه واصل المشي بسلام، فقط تعثر بحافة الرصيف، كانت مرتفعة قليلا فوق المستوى المطلوب ولم يرها لأنها مغطاة بالعشب.
مضى على خروجه للتمشي اليومي عَشرُ سنين، لا فرق لديه نهاراً كان أم ليلاً، لكنه لَم يلتق بشخص يمشي مثله طوال تلك السنين.
وصل الى تقاطع الطريق المؤدي الى مركز المدينة وقد ساده الصمت ولا يسمح بالانعطاف نحو اليسار. كان الطريق هذا ذات يوم مزدحما بضجيج السيارات ومحطات الوقود تعمل ليل نهار وكانت السيارات تتهادى عائدة الى الديار أينما تكون. لكن هذه الطريق بدت خالية الآن من سيل السيارات مثل الأنهار التي جفت ولم يتبق منها غير الصخور البيض وهي تعكس ضوء القمر.
استدار راجعا. كان على مسافة قريبة من منزله عندما فوجئ بظهور سيارة الشرطة من أحد الأزقة وسلطت مصابيحها الحادة على وجهه. صعقه الضوء مثل فراشة ليل.
"قف! لا تتحرك!" خاطبه مُكبر صوت.
"ارفع يديك!"
"ولكن .... !"
"ارفع يديك وإلا نطلق النار!"
شيء غريب حقاً! أن تكون سيارة شرطة واحدة لمدينة سكانها ثلاثة ملايين نسمة. لقد تم تقليص عدد السيارات بعد انتخابات سنة 2051 نظراً لتراجع معدلات الجريمة ولم يعد واجب الشرطة غير التأكد من خلو الشوارع فقط.
"اسمك ؟" سأله مكبر الصوت.
" ليونارد ميد."
"ارفع صوتك !"
" ليونارد ميد ! "
" مهنتك ؟"
" تستطيع أن تقول إنني كاتب ."
" هذا يعني انك عاطل في نظر القانون."
بدا والأضواء مسلطة عليه مثل تمثال في متحف.
" نعم ، ربّما أنتم على الحق في هذا."
لم يكتب السيد (ميد) شيئاً منذ أن توقف بيع الصحف و المجلات والكتب لأن كل شيء كان يُبَث في بيوت كأنها المقابر باستثناء الضوء الرمادي للشاشات الذي ينعكس على الوجوه الشاحبة.
"ما لذي جعلك تخرج إذاً وأنت بلا عمل؟" سأله الصوت المعدني الأخَن.
" أتمشى."
" تتمشى !"
" نعم، أتمشى فقط."
"  هل قلتَ تتمشى فقط؟!"
"نعم سيدي."
"  إلى أين ؟ ولأي غرض؟"
" للتنزه في الهواء الطلق ."
" عنوانك؟"
" شارع جيمس 11 سانت ساوث."
"هل لديك مكيف هواء يا سيد نيد؟"
"نعم."
"هل لديك شاشة عرض ؟"
" كلا."
" كلا؟!" ردد مُكبر الصوت متسائلا بقلق ثم صمتَ مسجلاً تهمة المخالفة القانونية.
" أمتزوج أنت يا سيد ميد؟"
" كلا."
"لستَ متزوجاً ؟!" زعق مكبر صوت السيارة من وراء المصابيح المسلطة .
 كان القمر بدراً يكسو البيوت الصامتة بضوئه الرمادي.
" نعم ، لم أكن مَحط إعجاب النساء."
" أجب على قدر السؤال يا سيد ميد ولا تضف شيئاً!"
ظل السيد (ميد)منتظراً في الليل البارد.
"هل قلتَ إنك تتمشى فقط يا سيد ميد؟"
" نعم."
" لَمْ تذكر لنا سبباً لذلك."
" قلت لكم أتنزه في الهواء الطلق ."
" أتفعل ذلك منذ مدة؟"
" نعم كل ليلة منذ سنين."
كانت سيارة الشرطة تقف كحاجز مانع وسط الشارع ومكبرة الصوت في طنين مستمر.
" حسناً يا سيد ميد ."
"  حسناً، أفهم أن المشكلة منتهية."
" نعم ، لكن تفضل معنا ." سمع السيد نيد صوتا خافتاً  سرعان ما تحول الى صرير عال لباب السيارة الخلفي وهو ينفتح واسعا بشكل تلقائي.
" هيا اصعد."
" لكن مهلا يا سيدي ، لم أقترف ذنباً !"
" اصعد."
" أنا احتج ."
"  سيد ميد !"
أطلَّ برأسه الى داخل السيارة ولمّا لم يرَ أحداً في المقعد الأمامي كما توقع ، نظر الى المقعد الخلفي فوجده مجرد زنزانة صغيرة تفوح منها رائحة حادة لقضبان الفولاذ ومواد مطهرة.
وخاطبه الصوت الآلي:
" لو كان لديك زوجة لقدمت لنا دليلاً على براءتك ... ولكنك ... .
"إلى أين تأخذونني؟"
لم ترد عليه مكبرة الصوت بغير طقطقة خفيفة ثم خرجت له بطاقة مثقبة من أسفل كاميرا صغيرة طُبِعَ عليها: ــــــ إلى مركز العلاج النفسي للتأكد من ميولك العدوانية ـــــ
حين أصبح داخل السيارة، أُغلِق الباب عليه بصوت مكتوم وانطلقت السيارة بمصابيحها المشعشعة ومرت بالبيت الوحيد الذي أضيئت نوافذه بلون أصفر دافئ أما البيوت الأخرى فكانت غارقة في الظلام.
" هو ذا منزلي !"
لم يرد عليه أي صوت.
كانت الشوارع التي تسلكها السيارة مهجورة مثل أنهر بلا مياه؛ لا صوت لا حركة ،ذات ليلة باردة من ليالي تشرين الثاني.