أيلول/سبتمبر 12
   
 
 
    في لحظة بدء الكتابة يَستحضرُ المبدعُ خبرتَهُ ورؤاه، ثم قراره في الشروع، وهذه جميعها غير قابلة للتراجع.. هكذا تُخبرُنا أفعال وأعمال ومؤلفات جميع المبدعين في العالم. و(محمد خضير) واحد من أولئك المبدعين الكبار، صانعي لبنة مهمة من لبنات الحضارة السردية. وهو في كتابه (الحديقة في الصيف) يُشَرّع لنا قانونين للكتابة، أولهما ان الكتابة ان لم تكن تنمو وتتغير بمواسمها فلن نرى لا زهورها ولا ثمارها، والقانون الثاني، ان الكتابة ان لم تكن مشحونة بحرارة الحياة والضوء ولا تنطفئ، فلا تُعَدُّ من حضارة السرد. وفوق ومع هذا فالكاتب السارد يدخلنا في عمق تجربته الشخصية، متبصراً مستفهماً مستذكراً موضحاً للحيثيات والرؤى الصانعة للكتابة عنده وعند غيره، وتجربته هي الأَولى بأن تصل إلينا، كونه وكونها قريبة منّا، وهو الأقدر على الإحاطة بأفضيتها وحوافزها وحفرياتها ومراحل تطورها. ونعدُّ هذا الكتاب (الحديقة في الصيف) من أغنى وأقرب التجارب للروح الشبابية التي يتمتع بها الكاتب، وهي من تجارب كتابة السيرة الثقافية الغنية جداً على مستوى الإبداع العربي، وللكتاب (الحديقة في الصيف) ومؤلفه الأصيل محمد خضير فضيلة الثناء على رواده الذين سبقوه، وفضيلة لنا ريادته للذين لحقوه.  بعد هذه اللمحة القيمية.. نود قراءة الكتاب على أساس حواشي الفهم الآتية:
 
  
أولاً: التبادل المعرفي:
هذا التبادل يخص التنافذ بين التجريب وخلاصة التجربة. وأول ما يلاحق فهمنا ويحاصر شكَّنا المعرفي هو السؤال: هل اكتملت تجربة الكاتب ليعطي الكاتب خلاصة لها؟ ان الجواب هو: لا ولن تكتمل التجربة، لكن محمد خضير أعطى لنا (أدبية) خاصة خالصة "الشعرية" لكيفية كتابة أدب السيرة الثقافية!. وهو ما يحفز على السؤال الآخر: هل هذا سرد لأسرار الكتابة؟ والجواب: نعم.
اننا.. عبر السؤالين والإجابتين يمكننا تحديد طبيعة التبادل المعرفي بين التجريب وخلاصته غير المكتملة. لنلجأ الى مقطع صغير يوضح "أدبية وأسرار" كتابة محمد خضير ضمن مؤلفه "الحديقة في الصيف"(1):
(لو كنا مجدّين في استعمال تقاليدنا المدفونة، وتحفيز هويتنا على الحفر الاركيولوجي في مدننا المجهولة، لاتصلنا بمجرات العشق والتأمل في حدائقنا الماورائية "(2). ان المقطع القصير هذا يعطينا مبرراً للقول: (ان حديقة السرد عندنا تحتاط للمستقبل بالماضي، وتحتاط بالتقاليد المدفونة (التراث) للتغلب على اشكالية ضياع وتفتت الهوية. ويرى الكاتب ان الجد والاجتهاد هو ما يحدد قيمة الحفر والتقاط لقى الجمال والحضارة، اللواتي سيضعن لنا كوناً هائل السعة من الجمال المتفرد بعشقه وافتتانه بالحياة، الحياة التي تضج بحيوية المدن الخالقة للرؤى الماورائية، التي تستقي خلودها وأزليتها من كشفنا لما يختبئ وراءها من فضائل العقل والمعرفة والتحضر). بمعنى ان التبادل المعرفي بين التجريب وخلاصة التجربة هو استمرار في تبني المشروعات الجمالية التي تحتفظ بلمعانها الفكري الفني المشع، تتجذر أُصولها عابرة الأزمان كلها لتتصل وتتواصل في التنافذ والتخاطر والتعاشق الغني المثمر فيما بينها، الخالق لدينونة قيامته التاريخية والجغرافية. ونرى ان محمد خضير يدعو الى (أدبية) تجريب مستمر موشى بمهابة الأدب الرافديني البديع للعصور جميعها. نرى ان تجربته ستسهم باستمرار تجددها بإضافات قيمة تحقق مشروع المصالحة العلمية الفلسفية الأدبية بين الأصالة والمعاصرة وما بعد المعاصرة. وكونه مجرباً واعياً مبتدعاً دون ادعاء لن يتنكر للتجارب العالمية والعربية والرافدينية وللمدى الذي تؤثر وتتأثر الواحدة بالأُخرى، أليست كلها حدائق العالم للعصور كلها!
 
ثانياً: في فلسفة التجربة:
تجربة الكتابة لدى محمد خضير تجربة تنام للوعي والأدوات والتخيل. فعلى ص19من الكتاب يقول) غالباً ما يواجه الكاتب، وأي مُنتج في جنس من الأجناس الأدبية، موقفين في حياته الإبداعية، موقف الافتتاح وموقف الاختتام. غير أنه بالنسبة لكثير من الكتاب فان الموقف الافتتاحي قد يكون هو الموقف الختامي نفسه"(3). يكمل الكاتب خياراته على وفق الآتي: (بحث رولان بارت عن اسم لتجربته التي تمدد جسمه (وفكره أيضاً) في التاريخ فوجده في Sapientia)). وهذا الاسم يعني اشتقاقياً: "لا سلطة، ولا نفوذ، وقليل من المعرفة ، وشيء من الحكمة ،وأكثر ما يمكن من الالتذاذ"، حيث تؤول الكتابة برمتها الى تأمل ابيقوري للجسد في الزمن والمكان التاريخيين. أو حيث يتحلل الجسد، او امتداداته، علاماتياً، في النص الذي انتجه (4). ما الذي يريد محمد خضير ان نستقيه من هاتين الفكرتين؟ أعتقد انه يهدف من الفكرة الأولى القول: (ان المقدمات مرتبطة بالنهايات، التي تديم أحداهما الأُخرى). (وان للكتابة موقفين متراصين في النص الواحد هما حتمية البداية وحتمية النهاية وربما حتمية حدوثهما معاً بلحظة واحدة مثل عسر الولادة التي تبقي الوليد وتهلك الأُم). وهدف الفكرة الثانية هي الشطر التنفيذي من الكتابة، إذ الكتابة التي يهتدي بها محمد خضير نوع من الذوبان بالأثر، فيحل جسد الكتابة محل جسد الكاتب وبالعكس، ثم يُدفع بأي تجربة لـ (أدبية) حقة لتتصير جسماً وفكراً في مدونة الأحداث الإنسانية التي تتمتع بشرطين، (ميزتين) الحرية والمتعة. اننا نرى بان الكاتب يعدنا بتجربة طازجة ناضجة لها أجنحة من آثار لذة (جامع النص) و(ابيقورية) بارت، فضلاً عن ثراء التجربة النصية التي جعلت من الكاتب ذاته نصاً لنصه يطير به بلحظة واحدة من البداية الى النهاية وبالعكس، ويصير باصرة لجسد وعلامات الكاتب والكتابة. ان هذه الرؤية رؤية فلسفية أكثر منها اجرائية. ربما هي استقراء لمستقبل كتابة ما بعد المعاصرة.
 
ثالثاً: قلقل المحتوى:
لعل فلسفة البداية هي النهاية الطائرة بين الفكرة ونفاد وقتها التي تسبب قلق في المحتوى ثم عدم اكتمال أي قصة، وان المعطيات المتصلة والمحفزة عليها لن تتقيد بعشرية محمد الساكنة أرواح (الموقد، النَّهر، العَجلة، المِحبرة، المِجرشة، المرآة، الصندوق، السلم، النول، الخف) = الحديقة. هذا القلق توصل الى ان للكتابة ثلاثة أجنة ملحقة بتلك السلسلة هي: (الجدار، الجسر، الفجوة)، وجميع مناول الفعل القصصي لدى محمد لن تتقيد بنموذج (ما)، انما تسمح للمعرفة السردية بأن تسيل نحو النص العابر للأجناس، مع لزوميات مساندة، يدخلها ولا يخرج ألّا إليها، وقد بين ذلك بوضوح أدبي فلسفي بمخطط قصتيه (الشفيع والأسماك)، ولو انني أرى قصة (البرج والمئذنة) أكثر تمثيلاً للحال هذه. أرى أيضاً ان رائد القص العربي لهذه المرحلة، (محمد خضير)، قد عبر ما بعد المعاصرة نحو هجين المعرفة بجمعه بين رؤيته للمكان ورؤيته للمتخيل من الزمان في بصرياثا وباصورا ،فقد جلب الجمالي للسوسيولوجيا الفنية ،وأرّخ المكان بأركيولوجيا (حضارة الناس في العمل) ،وليس الحجارة وما تحتها من مأثورات.. لقد جُعلتْ كتبه رسائل متخطية زمانها ومكانها، تتيح للتعلم والابتكار والجري بين المسننات الحادة بمجازفات مستمرة مستعرة بحديقة الصيف المثمرة بجنتها وجحيمها. الحديقة تتغير بفصول نمائها وتتغير كتابة محمد خضير لتبتكر قلقاً فنياً منتجاً سماه عشبة التاريخ التي هيأت الفجوة الكبيرة بين عشبة كلكامش وعشبة باصورا محمد! إذن قلق المحتوى لم يكن سوى طواف حول قص الحقيقة، وقص الاعتراف، والقص المئوي، وثلاثتهم من بين طبق يرشدنا إليه هو طبق السرد العابر للتجنيس. الذي هو أكبر مغامرات قلق المحتوى التجريبي لتجربة محمد خضير متجددة الابتكار والتجريب المستمر.
 
رابعاً: محايثة الكتابة والمحو:
ثمة خلاصة غريبة للمقال الفني لدى محمد خضير لننظر الى الآتي: "لابد ان يبصر الكاتب حدود كتابته، ويؤلف عاجلاً كتابه الأخير الذي ينقله الى العالم الخالي من الحروف. ان الكاتب لا يؤلف إلّا عدداً محدوداً من الكتب. التوقف عن الكتابة هاجس غير محدد بعمر أو حالة نفسية؛ ذلك ان التخلي عن استعمال الحروف يمثل نهاية التفكير بالعبارات والكتب، التوقف عن انتاج العلامات والأشكال والصور الظاهرة، والتماهي في عالم النشأة الأخيرة الخالي من الاشارات والتنبيهات"(5). ان من يتمعن بهذا المقطع سيفهم ان الكاتب الذي يفقد خصلة القدرة على الكتابة يموت، وكأن المؤلف يدعو للتخلي عن الموت في الكتابة، او التخلي عن آلة التدوين المكونة من الحروف ثم الكلمات ثم الجمل ثم العلامات التي تؤلف اشارات تجتمع لتكون اللغة الصوتية والكتابية. كأن الكاتب اخترع لغة بلا تقنية سابقة لها، فماذا يسميها إذاً؟!، وما جدوى وجودها؟! نعتقد ان هذا القول تجربة فلسفية تحاول التصريح بـ :(ان اللغة ليست هي من يموت وليس الكاتب من يموت. ومحمد خضير انما يدعو لموت ما كانت عليه ولادة الكاتب السابقة. بمعنى ان الكاتب الحقيقي من يجدد ولادته بموت معنوي لخطواته السابقة. وفي هذا فرق كبير بين موت المؤلف عند (بارت)، وموت خطوات سابقة عند (محمد خضير). ونتساءل هل ثمة توضيح عملي للمحايثة بين محو الكتابة السابقة وولادة الكتابة اللاحقة؟
لننظر في: "يصبح اختيار الصفة الدالة على عملي الادبي يسيراً ومقبولاً.. اذا اخترت كتابة القصة القصيرة مرة، والمقالة مرة، وسيرة المكان ثالثة، فذلك لأني أبحث عن "التخليقية" البسيطة، بآليات انتظام ذاتية عبر انعكاسها في المكان "الآخر" والزمن الممتد في جسد التاريخ، او جسد النص. وما أكتبه بصيغ نوعية موزعة على أجناس مختلفة، يعكس دورة التقاليد الكبرى وتوحيدها في نوع جوهري بسيط؛ هو على حد ظني السرد القصصي القصير"(6).
في القول اعلاه، بدلاً من ان نعرف نوع وعلاقة التجنيس والتخليق النوعي ندخل بفهم أعلى جديد. الفهم المقصود أوضح بأن الولادة الجديدة له تكون بثلاث رؤى، هي رؤى في التجديد الكلي بموت المرحلة السابقة، رؤى اختصار الأنواع السردية بجوهر مبسط يحقق لذة القراءة وتواصل الوعي، وثالثة هي رؤى في اختيار الفن الخالد الذي قرره سابقاً بانه النص اللامجنس ،لكنه في الرؤية الثالثة يجنسه بالقصة القصيرة!. ونخمن بأنه يدعو الى القصة القريبة من رواية (النوفيلا)، التي ربما هي الجنين الملاصق لجميع الفنون السردية.
خامساً: شأن في قص تشرين: لن أشرح ولن أُوضح هذا المدخل كون الكاتب محمد خضير قد أوضح جلياً نفسه، ووصف آليته بقوله الآتي: "من...الزاوية التاريخية، زاوية تشرين 2019 ـ 2020 اختبرت المواقف الثورية لشخصيات "المحجر" وأُتيح لها استعادة نماذج مندثرة في صفحات التاريخ العدمي...مارست شخصيات "المحجر" ادوار الثورة باعتبارها تمارين تطهيرية. ولا أحسب هذه الزاوية، زاوية تشرين ستمتلئ كلياً بذلك الخيال الريادي القصير"(7)
 
الهوامش
  • محمد خضير، كتاب الحديقة في الصيف، دار أهوار، بغداد، 2022
  • محمد خضير، المصدر السابق نفسه، ص8
  • محمد خضير، المصدر السابق نفسه، ص19  
  • محمد خضير، مصدر سابق، ص19
  • محمد خضير، مصدر سابق، ص41
  • محمد خضير، مصدر سابق، ص24
  • محمد خضير، مصدر سابق، ص71، ص72