في كتابه الموسوم "عصر المرأة، كيف تُحِّرر النَّسَوِية الرجل أيضا"، يقول الكاتب ألكسندر دو كْرُو، رئيس وزراء بلجيكا الحالي منذ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2020، "أن المساواة بين الجنسين تعني تحُّررَ المرأةِ، وهذا غني عن القول. لكن يمكن لهذه المساواة أن تحرِّرَ أيضا الرجل. فالرجال يصبحون أفضل مثل أخواتهم النساء ولا يحتاجون أن يصطدموا كل يوم مع الظلم وعدم المساواة. وفي رأيه، هذا هو ان التحدي؛ إقناع الرجال بأن المساواة بين الجنسين ليست خطوة إلى الوراء بالنسبة لهم، ولكنها خطوة إلى الأمام بالنسبة للمرأة والرجل معا، وإقناع الرجال بأن حريتَهم مرتبطةٌ ارتباطا وثيقا بحرية النساء. كما قال مارتن لوتر كينج عن الأسود والأبيض. ووضَّح للرجال أن المساواة بين الجنسين هي شرط مسبق لجودة حياة أطفالهم وأحفادهم."(1).
ففي رواية دُنى غالي الموسومة "منازل الوحشة"، تلخص لنا الجملة الاستهلالية التي تخبرنا من خلالها الساردة تيمة النص السردي؛ "أتسلل من دون أن يشعرا بي لأستريح" ثمة موضوع تكتمه الأم وتعجز عن تسميته ومشاركة زوجها أسعد وابنهما سلوان أو بالأحرى فهم يتجنبون الحديث حوله. فهل أسعد فعلا سعيد في حياته وهل ابنهما سلوان يجسد معنى اسمه؟
إنها قصة عائلة عراقية مثقفة، تعيش وضعا صعبا، سياسيا واجتماعيا ونفسيا. وتغطي أحداث هذه الرواية فترة تمتد ما بين مطلع 2006 ونهاية عام 2008. كما أن هناك عودة إلى الوراء تسجل أحداث تسعينيات القرن الماضي.
مفهوم الصمت في النقد الثقافي
نلاحظ أن الصمت يخيم على حياة هذه العائلة أو بالأحرى يهيمن عليها. لكننا نعرف جيدا أن هذا "الصمت يتكلم" وأن بلاغته تلعب دورا حيويا في التواصل ويمكن أن تكون مخيفة مثل الصراخ. فبحسب بيير فان دين هوفل، يمكننا أن نميز بين نوعين من الصمت النصي. الصمت الطوعي والصمت غير الطوعي. فالفراغ الذي يتم تقديمه، عن قصد، كحيلة استطرادية والافتقار الذي يشير في النص إلى ما لا يوصف ولا يمكن تسميته. الأول يشير إلى ما لا يريد الكاتب قوله، والثاني إلى ما لا يستطيع قوله"(2).
هنا لن نتطرق إلى الصمت الطوعي كأسلوب في الكتابة عن طريق الجمل غير المكتملة أو الصفحات البيضاء إلخ، بل سنتطرق إلى ما اختارته كاتبة روايتنا؛ وهو الخطاب المبتور والحوار المشفر وغير الواضح. فهذا الصمت يدفع القارئ لتعبئة هذا الفراغ في الخطاب. أما الشخصيات فتتواصل، في هذه الحوارات، عن طريق صمت مسموع. وأحيانا تلجأ الكاتبة إلى وصف الصمت فيصبح مرئيا. "صمت له لون دخان ينزل ويتكثف في جوانب المطبخ، على الخزانات والجوارير والساعة المعطلة على الجدار، الوطن بات مقبرة." (م47) "صمت يتكرس يوما بعد يوم تصونه حيطان هذا البيت. تقشف في التعبير والتوصيل... وحتى الحيطان بدت وكأنها تصرخ لتحتمي بنا..." (م51)
ففي هذه الحالة، السؤال المطروح على الكاتبة ليس أن تقول، بل أن تصمت، لا أن تتكلم، بل أن تجعل المتلقي يتكلم. يبدو أن الزمن قد توقف بالنسبة لها. الراوية هي رمز الأرض/ الأم التي أُهملت وأصابها العطب والخلل والدمار وأُغرقت في الظلمات تحت التهديد والخوف والمساومة. فهي أم تحمي ابنها وزوجها من سخط المتنمرين والجهلة.
وضعية الرجل: الذكر
إننا نرى الصمت غير الطوعي يتجلى في نظرات سلوان المعجونة بشيء لا تعرف والدته كيف لها أن تحدده. "هو لا يوجهها مباشرة بل يعمد إلى تركها واضحة كل مرة وينهض مغادرا المطبخ، كأنه يناولها إياها مع الصحن الذي انتهى منه (...) وفي قدرته العجيبة على جعل الصمت حاضرا، قويا، بينهم الثلاثة. لا يجيب ولا يعلق. يتناولون طعامهم بصمت بينما يبقى ينتظر، بلا حراك وكأنه يراقب والديه خفية. أحيانا تشعر به والدته أنه يتعمد إيذاءهم، يمعن في جرحهم، وكأنه يجبر أباه على إبقاء وجهه في الصحن حتى ينهيه لينهض على عجلة من مكانه. يبدو ناقما، يبدع بإيلامه من أجل أن يكون لهذا الصمت لسان ساخر فاضح يدين بقوة عجزهما." (م27).
أما الصمت غير الطوعي، فإن القارئ لا يراه. فهو صمت نصي. تحجب الكاتبة عن نفسها، عن وعي أو بدونه، جهلَها بما يشغلها وما لا تجرؤ البوح به أو حتى التفكير فيه. إن للصمت في الخطاب اليومي، بحسب فان دين هوفل، قيمة لا تقدر بثمن، وله إمكانيات تعبيرية كثيرة جدا. فهو يشمل ما نعرف وما لا نريد قوله أو ما لا نتجرأ البوح به. وهو يفصح أيضا عن ما يمكن للكلام أن يُدمِّره.
فهذا الصمت يحسِّسنا بثقل الكلام، وقد ينقذ هذا الأخير من الخطر والفشل. "ويعد أيضا ميزة حسب تساؤل ريلكة: "فكيف لنا أن ندعم وننقذ المرئي، إذا لم نستعمل لغة الغياب، لغة اللامرئي."(3)
الراوية وزوجها أسعد يعجزان عن التحدث مع ابنهما. فهذا الفراغ يعبر عن عدم قدرتهما على التواصل مع ابنهما وعدم التمكن من وصف ما يشعران به والتطرق بوضوح لما يفكران به. فوظيفة هذه الكلمة المفقودة وكونها غير معبَّرة عنها، تعلمنا قيمة بقية كلمات النص المرئية والمقروءة.
إن اتخاذ هذا الصمت يكمن في حجتين، العجز أو الرفض أو هما معا. "يأتي العجز أي عدم قدرة الشخص على تلبية الحاجة التي أوجدها الموقف، إما عدم كفاية اللغة، أو من فقدان القدرة على الكلام. أما الرفض فيقوم على أساس تمردٍ موجَّهٍ إما ضد الخطاب الاجتماعي الذي يستبعد موضوعُه الاستخدامَ النمطي، أو ضد المُحاور الذي يرفض عرضَه للتواصل."(4). وفي روايتنا هذه، نجد شخصياتها تستخدم الحجتين. وتجاوزا لترتيب اللغة المرئية، فإن الصمت يحل محل اللغة، التي يصعب التعبير بها وتصبح الشخصيات تخمينية، بحسب ما يسميه جيرار جنيت "الفضيلة الإرشادية للمربع الفارغ"(5) هذا المربع الفارغ الذي تُرك لحرية المتلقي لكي يستنتج مفرداته ويعطيها معنى ويساهم في ملء هذا الفراغ الذي عجزت الشخصيات عن إكماله.
لقد تأزم وضع سلوان النفسي خصوصا بعد عام 2003. وفقد والده أسعد كل وسائل التواصل مع ابنه الذي اقترب آنذاك من الثلاثين من عمره. وبدأ يهرب إلى الكتابة والرسم. أما الراوية، (أم سلوان)، فتحار كيف تشرح حالة ابنها ذي الوضعية الخاصة منذ طفولته لزوجها، فتلوذ إلى الصمت. والشيء الأكيد أن هذا الصمت يُسمعُ. ففي النص الادبي، نلاحظه ونحسُّه. فتأثير ظهور هذا الصمت يتجسد في غير المعبّر عنه في النص. وعادة عندما لا يحضر الكلام، يتم تحويل ما هو غير منطوق إلى قول من قبل القارئ اليقظ بفضل الافتراضات المسبقة والسياق الضمني.
كان أسعد قريبا من الشيوعيين لكنه ابتعد وانزوى، كما والد الراوية الذي هو أيضا ابتعد عن السياسة ساخرا منها وكان لا يحلو له السهر إلا مع سجناء سياسيين من ستينيات القرن الماضي. فبعد مغادرتهم السجون، عاشوا منعزلين، مهمشين، واختار أن يشاركهم ذلك. أما أسعد، المصنف ضمن مجموعة اليسار الصامتة أو الفئة المستقلة، فقد حاول الابتعاد والمغادرة وابنه إلى عمان عام 1991؛ وذلك لإيجاد فرصة عمل أفضل ومساعدة سلوان في بدء حياة أخرى جديدة.
الصمت، يتجسد أيضا في إهمال الراوية لنفسها ولنظافة بيتها والاعتناء بالحديقة وبأسلوب حياتهم كاملة. فكل شيء يدور حول وضعية سلوان. لا يجرؤ أحد على التطرق إلى المشكلة الأساسية التي تؤرقهم؛ هي ماهية الرجولة! فسلوان المنزوي في غرفته مرعوب من مجرد فكرة التواصل مع العالم الخارجي. ويتذكر: لقد "التذ الأولاد في تعذيبي وفي التحرش والتنكيل بي، حتى ظننت أن الجميع يعرف سري أينما ذهبت" (م 173)
لذلك فضلت والدته البقاء بالبيت والاعتناء به. أما والده أسعد فباع قطعة أرض ليعفيه من الخدمة العسكرية. لكنه، حتى في عمّان، لم يسلم من التنمر. فشلَّة مراهقين عراقيين ضايقوه واعتدوا عليه في الفندق. فمرض على أثرها وكان يتقيأ باستمرار. فهذه الحادثة وهو طفل أثرت فيه كثيرا. كما صعُب عليه سرد تفاصيل ما حدث لأمه. فحاول الانتحار مرتين. كانت المحاولة الأولى بعد أسبوعين من نجاة والده أسعد من الاختطاف وعودته إلى البيت وقد وجده والده آنذاك مُمدَّدا في المطبخ، أما المحاولة الثانية فقد أمسكته أمه وفي يده موسى الحلاقة. وتتساءل: "أين اختبأ كل هذا ليبرر لنا فجأة ويشلَّ ألستَنا؟ لماذا نحن؟ لماذا في هذه البقعة من العالم؟")م 28)
فبعد الاحتلال الأمريكي للعراق وسقوط النظام البائد، عاد اسعد إلى وظيفته في معهد الفنون. لكن بعد سنة من العمل عادت له مخاوفه. لم يكن سياسيا. لكنه كان يدقق في القضايا بمقاييس العدالة وبمقياس الصح والخطأ الأخلاقيين. أحسَّ أنه لم يعد ينسجم مع وسط بدا له غريبا هجينا. لكن بعد اختطافه لم يستطع العودة إلى العمل.
لقد أفلت أسعد للتو من موت كان قريبا باختطافه وأصبح انسانا معطوبا، يسير في البيت مثل آلة. فإن تمكن في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي من التواري عن طريق عمله كموظف في مكتب مدفون في قبر، بين أكداس الأضابير والملفات أو كعنصر يساري مستقل، فإنهم لم يكونوا بعدها في أمان. لقد انتكس أسعد، بينما "آخرون عادوا ليتماشوا مع الوضع بشكله الجديد القديم. لكن هو لا، لن يستطيع أن يقاوم" (م51)
كانت العائلة تلجأ للصمت ليس فقط عن ما يحدث في البلد لكن أيضا عن حياتهم الشخصية. لقد كان أسعد يرفض أن يسأل. كان يريد أن يرى ابنه شابا يصادق البنات ويتبضع ويسهر مع الأصدقاء ويجامل الضيوف. كان يريده أن يكون رجلا. فالساردة - الأم أيضا تحاكي نفسها: "لكننا لم نكن لا أنا ولا هو ولا سلوان نعرف معنى أن يكون رجلا حقا" (م 62) فكانت تنظر إلى عينيه طويلا لتستفهم ما يقصده. لكنه ينسل حائرا في وجهته. وبصمتهما الطوعي يتجنبا الاجهار حتى مع نفسيهما بوضعية ابنهما وتقبله كما هو. والسؤال كيف يصبح الذكر رجلا؟ ماهي مقومات تكوين شخصية الرجل؟ ماذا ينتظر المجتمع من الرجل؟ أيجب أن " يسرع ليكبر وأن يظهر خشونة وأن يتماشى مع الكبار...وهو الذي يلقبونه بابن أمه..." (م173) واسئلة كثيرة يصعب عليهما ذكرها وتطبيقها على شخصية ابنهما. فضَّلا استراتيجية الصمت الطوعي، لأن الخطاب حُكمَ عليه بالصمت، الذي تفرضه التقاليد والموروث الثقافي الديني في مجتمع تقليدي.
ففي صيف عام 2006، عاد أسعد للمرة الثانية، اختياريا، إلى عمان. التقى صديقا كان قد غادر العراق إلى براغ في ثمانينيات القرن الماضي. فاسترجعا الحماسة الوطنية التي دفعت بالصديق إلى أن يكون شيوعيا، ذاق مرارة السجن وهذه الحماسة نفسها دفعت أسعد إلى التوقف والتراجع. لقد كان يحس أيضا بالفشل ويسأل زوجته فيما إذا كانت تريد أن يعود إلى ما كانوا عليه جميعا بعدما أدار ظهره للعالم. وهو لا يدري ماذا سيفعل لا لشخصه ولا لمساعدة ابنه. يحس بأنه خذل زوجته. لكنه يعترف أن لكل منهما طاقة محدودة. يعلم أنه جعلها تختار بينه وبين ابنهما. وأنه لا يعد نفسه بطلا ولم تكن له قوة جبارة لكي يحتمل لجوء سلوان لها في سريرهما. فتجيبه بأن سلوان مازال طفلا. لكن أسعد يحسب ابنه رجلا ويقول لها بأنها تتستر عليه بما يفعل وما يقول إنهما يختلفان في تقبل وضعية سلوان. وكانا يفضلان الصمت. فأسعد يتساءل أيضا عن ماهية الأبوة، وأنه فكر كثيرا في ما تشعر به هي كأم. واعترف لها أمام نفسه أنه لا طاقة لديه على تحمل ذلك كرجل. لكن الأم لم تكن تريد أن تبدو له كما يراها الآن. لقد كانت تريد أن توفر عليه عبء المسؤولية. أما سلوان الذي يفكر في جيناته المعطوبة (م178)، فكان يقارن نفسه بفأره الذي يؤنسه في وحدته. ويخلص "أن على الابن أن يثبت لأبيه أنه رجل وعلى الرجل أن يثبت لزوجته أنه رجل، بينما الفأر...ههه... يحاول أن يُثبت لي جُبنَه ليسلمَ، أين تختبئ؟ يا لك من كائن مسكين."(م166) يبدو أن أسعد تغيَّر؛ فربما الوحدة في غربته ساعدته على التفكير. لقد احسَّت زوجته أنه بدأ يفهمها. فبحسبه، "من المؤسف أنهما لم ينشآ في محيط أكبر من هذا الذي تربيا عليه ليتمكنا من توسيع عقولهما وتحليل الأمور من زاوية أخرى، غير تقليدية. ويستطيعا أن يفهما ويقدرا الدوافع بشكل افضل، أو على الأقل يزناها بشكل غير غريزي." (م96)
ونخلص أن "الصمت، إذا جاز التعبير هو الأرضية التي ينضج فيها الزمن."(6) وصدق جوزيف رسام عندما قال: "إن الصمت يكمِّلُ الكلامَ، سواء حاولنا إضعافَه أو تعطيلَه."(7)
الشخصية الذكورية الأخرى هو الدكتور حسام الذي يزور العائلة ويزودها بالدواء لسلوان. لكن سلوان لا يحب مخالطته ولا يرتاح لوجوده في البيت. فينسحب إلى غرفته وما أن يطرق الباب. حتى أحرجه وعندما ذكر له نعتا دارجا، كان الأولاد يطلقونه عليه. كانت والدة سلوان فكانت ترتاح للحديث مع الدكتور حسام. لقد تلقيا دروسا في الموسيقى والعزف على البيانو أوائل السبعينات من المُدرِّسة الروسية نفسها. مع هذا، كانت تشعر خلال التحدث معه أنه ينتظر أن تشجعه على الحديث في ما يرغب. "وأنه كل مرة يغادر من دون قول ما يريد. كما أنها تلاحظ انكسارا في عينيه يثير عاطفة ما تجاهه." (م108) فبعد أحد الزيارات، أخبرها سلوان بأن صديقها الدكتور حسام مِثْلي (هومو) وأنها ستكون غبية إن لم تلحظ ذلك." (م110).
وضعية المرأة: الأنثى
يبدو أن وضعية المرأة في هذه الرواية أفضل بكثير من مكانة الرجل في المجتمع. فالشخصيات النسائية الثلاثة المهمة هن الراوية – والدة سلوان والجدة - ذهب وسأل.
الراوية – الأم تسْقيل من عملها كممثلة مسرحية لكي تهتم بابنها الوحيد سلوان وبزوجها وبوالدها، فترة مرضه. فتحاول أن تحمي ابنها حتى من أبيه. تتحمل كل الأعباء داخل وخارج البيت وكذلك بُعد زوجها عنها. وبذلك تنسى نفسها و تهملها. كان زوجها، أحيانا، يواسيها. لكنها ترفض، ناقمة على عجزها وتخبره أن حياتها لا قيمة لها ولا قيمة لهم وهو يعيشون في جحيم الخوف. وتضيف: " أتمنى أن أختفي من حياتي. ما الذي تفكر فيه أمٌّ مِثْلي؟ ما الذي تقوله الأمهات عني؟ لعلي كنت قد سلمت بالأمر لو ولدته مشوها أو معوقا، أو لو كانت الحروب هي التي أعادته إلي معطوبا منخورا كما أعادت باقي الأبناء إلى أمهاتهم." (م67) فكل الخلل الذي يشوب حياتهم له علاقة بابنهما سلوان، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فبعد طلاق والديها، عاشت بعيدة عن والدتها ولم تحس يوما بحنانها. والدتها - الجدة التي لم تخشى شيئا في حياتها، "ولم ترتجف لا لأمريكي ولا لعراقي ولا لإيراني،" (م103) امرأة قوية تهتم بنفسها، إن كانت متزوجة أو مطلقة. فكل ما تفعله تفعله لنفسها. ولها طقوس تلتزم بها لتجعل حياتها احتفالا يميزها عن البشر. فهي تعرف ما تريد وتصمم على أخذ حقها بإصرار ونفس طويل. وبمعيَّتِها ، فالجدة "ذهب" هي التي أنقذت أسعد من هلاك إبان اختطافه. كان أسعد يسميها ابنة الحياة، لأنها هي المتحركة وزوجته هي التي تتقوقع وتتخلف. كما كانت أيضا تعاتب ابنتها لإهمالها نفسها ولحمايتها المفرطة لحفيدها سلوان. وتذكِّر ابنتَها بأن " الرجل ينتكس بشكل عام من دون قضيبه وفلوسه و..."(م62) ولكي تخرج حفيدها من قوقعته، أتت يوما بأسَل. هذه الشابة الحالمة بالحرية والهروب من الوسط الضيق الذي يخنقها إلى خارج العراق؛ وهي التي ترملت بعد اشهر من زواجها تطمح ان تكون شاعرة، فأبرمت عقدا مع سلوان لكي ينقذا بعضهما البعض. فدبرت الأم عقد زواج لهما من أجل استخراج جوازي سفر. كانت أمنيتها أن يغادر ابنها إلى مكان أكثر رحمة به. وأخيرا، أكمل سلوان ديوانه الشعري الذي كتبه من أجل أبيه، الذي لم يشعر يوما بأنه فرح بابنه أو وثق به. مع هذا ترك ديوانه لأسل. فما يهمُّ هذه الأخيرة هو اسمها على هذا الديوان الشعري. فهي أقوى منه. وعلى الرغم من أنها هي التي انتشلته من غرقه المحتوم وأعادته إلى العالم فهي أيضا التي تخلَّصت منه. لكن رُبَّ ضارة نافعة! لقد كان سلوان به حاجة إلى الاختلاء، فبُعده عن وسطه الاجتماعي الضيق وغربته جعلاه يفكِّر ليعثر على نفسه بنفسه. وأخيرا، اطمأنت والدته بعد أن عرفت أنه في رعاية صديق عراقي شاب، يشاركه كتابة الشعر وأفكاره المجنونة.
ففي هذه الرواية، نرى كيف يمكن للصمت أن يلعب دورا رئيسيا في حياة عائلة عراقية مثقفة، تتكون من فنانين، أسعد والراوية وابنهما الوحيد، سلوان. يعيشون في ظروف صعبة، على الصعيد الشخصي والعام. آنذاك، كان الوضع الأمني متأزما؛ فوثقت بأن بغداد كانت "مثل ذبيحة خرجت أحشاؤها ..." (م46)، وأن الوضع بالبصرة مسخّم (م 52) وأن سامراء العراق شهدت تفجير ضريح العسكريين، الإمامين علي الهادي والحسن العسكري مرتين، عامي 2006 و2007. وأننا صُعقنا، عام 2008، بخبر اغتيال الباحث والمثقف كامل شياع، كما غادرنا، في العام نفسه ، الكاتب والروائي فؤاد التكرلي.
الهوامش:
الرمز: (م) يشير إلى الرواية الموسومة "منازل الوحشة" لدُنى غالي، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2013.
(1) Alexander De Croo، De eeuw van de vrouw، hoe feminisme ook mannen bevrijdt، Polis، Amsterdam، 2018، p.192
(2) Pierre van den Heuvel، Parole، Mot، Silence، pour une poétique de l’énonciation، Jone Corti، Paris، 1984، p.94
(3) Rilke Rainer Maria، Briefe، Frankfurd، Insel Verlag، 1980، Cf Van den heuvel، Parole، Mot، Silence، p.80
(4) Van den Heuvel، op. cit.، p.79
(5) Ibid.، p.96
(6) Max Picard، De Wereld van het zwijgen، De tijdstroom، Lochem، 1950، p.10
(7) Joseph Rassam، Le silence comme introduction à la métaphysique، le Mirail série A- Tome 44، Toulouse، 1980، p. 30