
ورد في معجم المعاني الجامع ان المصدر هو أوحى، وهو تلميح بشيء قريب الحدوث، هناك ايحاء بسقوط الطائرة في المحيط، ويرد ايضاً على انه تأثير في تفكير الشخص وسلوكه بغير استخدام اساليب الاقناع. كأن كلامه كله بايحاءٍ من زوجته، وفي المعجم الوسيط(1)، هناك ايحاء ذاتي وهو عملية عقلية تنتهي بقبول الفرد للأفكار التي تنجم في ذات نفسه دون نقد او تحقق. او ايحاء لنفسه باتخاذ موقف او سلوك من غير نقد او تحقق. وفي معجم الاصوات يأتي الايحاء من أوحى أي: الهمهُ بهِ/ كلَّمهُ بكلامٍ يخفى على غيره/ القاه اليه/ أشار/ كتب اليه/.
وجاء في معجم المعاني الجامع(2) أن الفعل أوحى، أوحى إلي/ أوحى لـ يوحي أوح إيحاءً، فهو موحٍ والمفعول موحى.. وأوحى اليه بسرٍ إي أفشاه ويوحي الله باياتهِ الى انبيائهِ، يلهمهم إياها".
ويأتي في معجم اللغة العربية المعاصر(3).. وحي..
الوحي: الاشارة والكتابة والرسالة والالهام والكلام الخفي، وكل ما القيته الى غيرك.
وحي الشعراء: ما يوحى به اليهم فيلهمهم الشعر، والوحي في القرآن: هو وحي من أمين الوحي جبريل عليه السلام. وهو ما يلقيه الله تعالى على قلب نبي من الانبياء بواسطة ملك او غير ملك وأمين الوحي هو جبريل عليه السلام.
والايحاء في الحقول المعرفية هو ما يمت بصلة لإشارةٍ ذهنية لثمة شيء قد يرد الى الذاكرة او قد يحدث او قد يأتي على المسامع والأنظار وهو حالة تسبق الوقوع والرؤية والسماع وبقدر قد يلجأ اليها الكاتب او المخرج او الرسام والنحات عبر ادواته المختلفة المتعددة كالضوء والكلمة واللون والشكل والحركة في الصورة والصوت. وما الى ذلك من حدود تعبيرية قد تأتي كشفرة او رسالة مسبقة قد تُدرَكْ وقد تكون خارجة عن الوعي، وقد يعبر الايحاء عن ايجازٍ لفكرة ما، يراد الاشارة اليها دون ابتذال واستهلاك ويشتغل الايحاء على مستويات التوقع والاحتمالات في مشاهد القصة الفيلمية، ذلك ما يتطلب في متابعتنا لمجريات الأحداث الفيلمية ان لا تكون سهلة الفهم والتفسير دون عناء، ودون تأمل، ودون اشتباك وتداخل ودون غموض، ولهذا نرى ان مستويات التشويق والتوتر والانجذاب تأتي من حالات الغموض والاسرار والعقد واخفاء الخيوط التي تقود الى حقيقة الافعال والاحداث وكسر التوقع لجعل المتلقي اكثر تفاعلاً واكثر فهماً واستيعاباً.
وفي السينما يعد الايحاء اشتغالا سابقا في منظومة المعنى، فهو يشتغل في كثير من الأفلام بتمثلات مختلفة، وكأنه جزء مهم ومثير تتضمنه معطيات السرد الفيلمي وأدواته الحاملة للمعنى، فهو تأثير في منطقة التلقي وتستهدف اللاوعي ويتبنى رسائل وعلامات وموجودات مرافقة للشعور والاحساس الذي يقود الى معانٍ معينة ومحددة، ويأتي الايحاء احياناً لغرض كشف وإظهار اثر شيء يسعى المتلقي لمعرفته او ثمة شيء او حدث قد اختفى ولم يعد يُرى، الا بما يشير او يدل عليه الايحاء، وقد ورد في كتاب علم جمال وعلم نفس السينما لجان ميتري بعض الأمثلة منها:
- فيلم وجدان انتقامي 1914 المستوحى من بعض قصص إدغار الن بو القصيرة، كان غريفيث يوحي بواسطة اللقطات المجسمة بما يدور في ذهن الاشخاص وبالحركة السرية الدفينة فيهم، وبسلوكهم النفسي، على غرار المنديل الذي تقبض اليد بتشنج عليه تحت المنضدة في حين يتردد الشباب وهو نهب الانفعال في الاجابة على اسئلة قاضي التحقيق، والقلم الذي ينقر به هذا الأخير على مكتبه دلالة على نفاد الصبر.. الخ.
- فيلم الهارب (ت. إنيس، 1914) ويظهر أحد المشاهد بعض جنود الصِدام الأمريكيين وهم يلعبون الورق في حانة، احدهم يغش في اللعب، وخلال العراك الذي اعقب ذلك، وتعرّض طاولة اللعب لبعض التدافع، اختلطت اوراق اللعب بعضاً ببعض وانقلبت زجاجة الويسكي التي عليها آلة التصوير التي ظلت ملازمة موقعها، وبدلاً من ملاحقة الحركة الجارية بلقطات مروحية، لم تعد ترينا الا المنضدة الخالية، واوراق اللعب المبعثرة والزجاجة تستكمل إفراغ ما بقي فيها ببضع بقبقات حشرجة مرافقة. وهذا ما يوضح سمة الإيحاء لما تدل وتقود اليه حيثيات هذا المشهد من فوضى وعراك وضجيج وبعثرة الورق وتدافع وشجار وما الى ذلك من اجواء غير متوازنة، وموحية لما قد تنجم اليه من آثار وتداعيات، ويقول مارسيل مارتن "فكل صورة يمكنها أن تعني اكثر مما تظهر، والسينما لكونها قادرة على اظهار كل شيء، مضطرة الى أن تحصر نفسها في الإيحاء، لكن هذا الاضطرار بعيد عن أن يكون عائقاً، بل هو على العكس من ذلك تفوق وسر من اسرار قوة السينما المدهشة"(4).
وحينما يكون الايحاء عن طريق الضوء فهذا سبيل لتجسيد شكل حركي له قواه التعبيرية الدالة على المعنى والتبدل، ففي فيلم أماديوس للمخرج ميلوش فورمان 1984 – والذي يتناول حياة الموسيقار موتزارت يتعامل المخرج مع الاضاءة بمستويات تعبيرية مختلفة ومرافقة للحالة النفسية للموسيقار العجوز سيليري وهو في حالة احباط، حيث نرى خفوت الاضاءة وكذلك تشتد الاضاءة في حالة الراحة النفسية، فالمخرج اراد في هذا الايحاء عن طريق الضوء متابعة حالة الشخصية والتبدلات التي تحصل، وانتاج المعنى المكثف المشار اليه ايحاء دون شرح وسرد واطالة، اما ان يلجأ المخرج للتعامل مع اللون فتلك حالة لا تخلو من ايحاء، فنجد في افلام كثيرة يكون اللون فيها حاملاً دلالاته الايحائية لفهمٍ ما وحالةٍ ما، ففي افلام رعب واثارة كثيرة استخدمت اللون الازرق لغرض الايحاء بالوحشة والخوف والقلق والبرودة، فيما تعاملت بقية الالوان الاخرى لأغراض معروفة.
وفي عالم الصوت يقول بيلا بيلاج ".. أما في السينما فقد يكون الصمت شديد الحيوية والتنوع محملاً بالايحاءات والتعابير على الرغم من غياب الصوت، وقد توحي نظرة صامتة بالكثير ويجعلها صمتها اكثر تعبيراً لأنها ستدفعنا الى قراءة ايماءات وجه الشخص الصامت التي تشعرنا بثقلهٍ، وتوترهِ، وما يحمله من ترهيب، والصمت لا يوقف العمل في الفيلم بل يضيف اليه وجهاً حيّاً"(5).
في فيلم شمال – شمال غربي يستعمل هيتشكوك لقطة الرافعة للايحاء بما ينتظر إحدى الشخصيات، فحين يكتشف فيليب فاندام (جيمس ميسون) ان عشيقته عميلة امريكية، يقرر قتلها على ظهر طائرة، ويعلق قائلاً: "افضل طريقة للتخلص من هذه المسألة هي من ارتفاع شاهق – فوق الماء" وحين يذكر الارتفاع، تتحرك آلة التصوير على رافعة نحو الأعلى(6).
استخدم كاتبا سيناريو فيلم (الدكتور سترينجلاف) العديد من الرموز والاسماء والنكات والمواقف الهزلية ذات الايحاءات الجنسية في الفيلم، وذلك في محاولة للربط بين الحرب وهوس الجنس ومن ضمن ذلك ان الاسماء المستخدمة لجميع شخصيات الفيلم الرئيسية ذات ايحاءات جنسية مباشرة، او غير مباشرة، مثل (الدكتور سترينجلاف) الذي يعني (الحب المنحرف) والكولونيل جاك ريبر المأخوذة عن اسم جاك السفاح، والميجر كنج كونج وهو اسم القرد العملاق الذي يعشق امرأة شقراء في فيلم الخيال العلمي الشهير كنج كونج.
- فيلم ليون (لوك بيسون)
فيلم يتناول فتاة مفجوعة بمقتل عائلتها، وتلجأ الى صديق قناص ماهر (ليون) يدربها على طريقه الأخذ بثأر عائلتها، ففي بداية الفيلم تخطو الفتاة (ناتالي بورتمان) باتجاه شقة الجار (ليون) متجاهلة باب شقتها وما رأته من جثث عائلتها، وكأن باب شقة الجار هو ما تقصده وهو منزلها، وهي تسير وشحنات القلق والرعب والتوتر يغلف وجهها وجسدها وهي ترتجف، ولن تتوقع ان باب الجار سيفتح دون عناء، ولكن عند فتح الباب والكاميرا تلاحق وجهها وقد رافقه سطوع الضوء الذي طبع على وجهها تعبيراً عن (ايحاء) يحمل دلالة نتنفس الحياة بدلاً من الموت، وهو ذات التعبير والدلالة التي يشعر به المشاهد وهو يتابع سير الفتاة، بشعور خفي، من خلال الإضاءة، دون وسائل اخرى لإيصال المعنى ادراكاً، وهنا استغلت الإضاءة (موحية) بما يمكن ان يتبدل بفعل دلالة الضوء دون العتمة التي تمر بها (ناتالي).
- فيلم أماديوس (ميلوش فورمان) 1984.
في التحفة السينمائية اماديوس Amadeus كان هناك استغلال للاضاءة بشكل رائع للغاية، ويبرز هذا في مشاهد اعتراف الموسيقار العجوز (سيلييري) للقسيس، إذ نلاحظ في هذه المشاهد تغييراً في الإضاءة من الشدة الى الخفوت، وتغّير الضوء يتماشى مع تغّير الحالة النفسية للموسيقار، ارتفاعاً وهبوطاً، فعندما يكون محبط تظلم الغرفة وعند انشراحه تضيء، وهكذا احتل الضوء موقع (الايحاء) فأصبح دليلاً معبراً عن مشاعر بطل الفيلم، والحاجة الى استخدام (الإيحاء) كهذا تنبع من رغبة المخرج في تكثيف المعنى، وايصاله بشكل مركز، دون مزيد من الشرح والاطالة، فالمعنى سيتسرب ويستقر في نفس المشاهد بطريقة غير مباشرة دون أن يدرك كيف والى متى، ولو اراد ادراك ذلك، فهو بحاجة الى التركيز في كافة عناصر المشهد من ديكور واداء ولون وموسيقى وإضاءة، لأن هناك دلالات خفيّة ستكون ملقاة هنا وهناك لن نراها عياناً لكننا نحس ونشعر بها(7).
الهوامش:
(1) المعجم الوسيط.
(2) معجم المعاني الجامع.
(3) معجم اللغة العربية المعاصر.
(4) مارسيل مارتن، (اللغة السينمائية والكتابة بالصور، ترجمة: سعد مكاوي، الفن السابع، دمشق، 2009)، ص70.
(5) لويس جاكوب، (الوسيط السينمائي، الفن السابع، دمشق، 2006)، ص315.
(6) تشريح الافلام – برنارد ف.ديك – الفن السابع – ص109.
(7) رجا سايرا المطيري، (الإيحاء في السينما، جريدة الرياض، العدد 14038، الرياض، 2006).