
الانثى فوّارة، مبتهجة فاردة ذراعيها، لاعبة لاهية بطائرة ورقية مدورة وكأنها شمس ساطعة وامتداد خيوط وكأن الانثى تحلم بالهروب، أو الطيران بملابس مثيرة وجاذبة مع خصلة شعر سوداء داكنة تعطي طاقة مع مجاورة الوجه الأبيض. عالم الانثى مرصود بالعين أسقطت صورة عنه داخل الذهن. وهذه الصورة هي التي تشكل المادة الأولية، التي ستعالج لاحقاً وتفرز ويعاد تنظيمها وتخزينها. إن تدبر المعطيات الخارجية شأن من اختصاص المفاهيم، فهي وحدها قادرة على تحويل كل ما يتسرب الى الذهن من خارجه الى حقائق جديدة تعاد صياغتها في التجريد المفهومي. اللغة مكتملة الطاقة والتحفيز عندما تتمكن في تداولاتها وتصوغ الأفكار والمفاهيم التي للذهن كل ما هو به حاجة اليه، حتى يجعل من الحياة مرنة ، متجددة ، مانحة للباحث عن الخلاص هدوءاً واستقراراً حتى تصبح تعادلاً مع اللغة ويعاود الذهن نشاطه وطاقته وذا الشأن بعلاقته مع العقل والحضور الجبار هو الذي اكد عليه رولان بارت المدافع القوي عن تبعية البصري واللفظي، فالسيمولوجيا هي قطاع معترف يهتم بالمناطق اللفظية في الغالب ليست هي في الأصل، إنها تابعة للسانيات التي تستوعب داخلها كل الأنساق الأخرى وهكذا قد تكون الصورة في نظره حمالة لكل المعاني الممكنة ولكنها لن تسلم الا ما يسمح به اللفظ الذي يشرحها ويميز بين مستويات بناء المعنى داخلها/ سعيد بنكراد / سبق ذكره / ص68.
لم يكن اهتمام عاصم عبد الامير بالعلامات اعتباطاً بل هو تعبير عن الطاقة الكامنة بالعلامة بوصفها الإشارة الأولى في الحضارة، لذا انتشر التداول الثقافي بمصطلح حضارة الصورة، لأنها عتبة مبكرة وكما قال مالارميه بأن المبادرة للكلمات الأول وهي العلامة والرمز، وهي وحدها التي تعرف اين يكون الشعر والجمال. الكلمات الحقيقية هي التي نراها لأول مرة ونندهش بها، تسحرنا وتقودنا الى حيث تريد وليس لما علم به، نحن نتدرب معها ونمارس ما يتوفر من الجنون الكامن فيها.
قام التعاشق الثنائي بين العلامة والرمز في اللوحة المتداخلة بالتاريخ والأساطير والرموز والأشكال الهندسية. لوحة قادها عاصم الى قلب الانتظام وأسس التضاد، فالزقورة صاعدة بالقلوب وأخضعها الى التثليث مع صعود خطين من البرق البرتقالي حتى الزقورة برتقالية اللون ولذلك تبرير مقنع، لأن عاصم يدرك جيداً بأن هذا اللون روحي وشبقي. والزقورة مكان لنظام الروح والعلاقة مع الاله الاكبر، والقمة العليا هي التي تقيم علاقة الاتصال الذي عن طريق طقس/ عيد الزواج الالهي المقدس. هذا هو الكشف الذي ذهب اليه الفنانون ضمن حفريات عميقة وجعلوا من المكشوف لغة جديدة مطواعة تمتلك مؤهلات للكلام والتعبير عن اللحظة التاريخية.
أنا قريب جدا من الفنان عاصم وأستطيع الاهتداء الى لوحة له وسط عشرات الاعمال لفنانين، ودائماً ما يحصل هذا مع غيره، لا بسبب سيادة النمطية والطريقة الجاهزة وإنما للتماثل بالثيمات والوحدات والنقل ووحدة الأسلوب، ودائماً ما تكون اللوحة هي الوسيط الكاشف عن الفنان أو الحوار مع المبدع. وتكرر المفردات التي تتحول بالتدريج قاسماً مشتركاً للتعبير عن رؤيته ولعل أهم المزاولات المساعدة على إضافة الحوار مع الفنان والتعرف على منجزه هي الحرية الفردية وتكوّن العقل والوعي، الذي يأخذه للتعرف على تفاصيل العناصر والمجالات، ولعل أكثر المشابهات هي تكون الألوان أو الزوايا والنقاط اللونية التي تخضع لمكان محدود جداً. وأكثر العوامل المساعدة للتعرف على ملامح الفنان عبر لوحاته كما قال الفنان نوري الراوي. استعادته للحرية في التأمل وزوال حالة الأمية في قراءة الفن وتذوقه، وهي حالة لم تعد ممكنة حتى تنشأ حالة التوازن الحر بين الجانبين. الاعتياد على اللغة السائدة حتى تتحول الى وسيط كلامي اجتماعي متداول.
أنا ارتبط بعلاقة ثقافية وفنية مع عاصم، حتى تشربت بتنوع تجاربه منذ زمان قديم، أنا متحاور معه ومحاضر عنه وكاتب آراء وأعتقد بأني نشرت مقالاً مبكراً عنه. والمثير في مثل هذه التجربة ما تميزت به وسط جماعة فنية عاشت تاريخاً وظل هو تلميح خاص به وعاصم حريص على سلامة تجربته، لا يلوذ بالآخر، ويحوز منه مثلما يتكرر لغيره.. لديه شخصية وتحكم بالألوان والرموز وتكرس الموروثات. وارادة للذاكرة تستعيد صحوة الماضي وتقوده للحاضر. الذي يمثل خزانا للذاكرة والالوان.
للمكان دور جوهري وبارز في ترسيم شخصية الفنان منذ طفولته، ودائماً ما تظل الطفولة هي المرمى كما قال جان جينيه، تغذيه. وتختزن ذاكرته أهم الصور والمعالم والمشاهدات لذا ودائماً ما نجد لهذه المرحلة ترددات وانعكاسات مع استعارة رموز ريفية وعلامات هي المغذي للغة البدئية، ولأن عاصم الامير ولد في الريف ونشأ وتكونت ملامحه، اختزنت ذاكرته كثيراً من الموروثات ولم يقو على مفارقتها ولأنها خزانه الثقافي. وأشار لها مراراً واستفاد من التناصات الموروثة والتراث الفني للأفراد والجماعات، ولائقة بالرأي الذي يجرد الفنان الفطري من امكانات توفره على الحرية. لم يتنكر عاصم لأصوله الأولى وعناصره البدئية وتجسد ذلك بامتداد البيئة وخصوصاً لوحته الخاصة عن المزمار، ليس التي تحدثت عنها الآن بل هي مبكرة جداً في تجربته وأشار في شهادة له من احدى لوحاته وقال: لوحة تستمد قوامها من الأجواء الجمالية التي تزخر بها البسط الشعبية العراقية، لكنها هنا مرحلة لمنطقة تصويرية أخرى يؤدي فيها اللون الأسود والأحمر دوراً نشيطاً والمعالجة هنا تمثل جانباً من اهتماماتي في اعادة قراءة انتاج الموروث الشعبي والتراث التصويري العربي والاسلامي. لكني افترض قناعة ما قاله عاصم باستثمار الموروث والتراث العربي الاسلامي، لكني لم التقط مشتركات في لوحته مثلما أكد عليه واستعين برأي الفنان نوري الراوي: نقف اليوم على خط مفترض من خطوط الدفاع عن الوطن إذا لم يكن واضحاً على الارض فإنما هو واضح في أعماق ضمائرنا ونفوسنا وكحد السيف، لا بد لنا حين الاجتياز أن نحس به دوماً.
نشر د. عاصم عبدالامير مقالاً في (الاديب) بوصفه عدداً مكرساً عن تجربتي العدد 133- 13/9/2006 وما قاله عاصم / ناجح المعموري / الاسطورة التي تبقى وحدها كافية لمن يطلع عليها ويتفحصها بدقة سيدرك بلا شك أن عاصم الامير خلقته الالهة العراقية القديمة من عجينة الاسطورة وسحريات الشعائر، لذا اختار طريقاً صعباً ومعقداً، مشاكساً ومعانداً. ومن تأثيرها مارس حضوراً ذكياً وبالغ الأهمية في الوسط الذي لم يستطع مقاومة انعكاسات مهاراته وتنوع خبراته وتوظيف ما استوطن الذاكرة الكبرى للجماعات وهذا ما اتضح بالمقالة التي هي من أهم الشهادات المكتوبة عن تجربتي، لأنه نجح في قراءته وكشف عن ثقافته عن العلوم الانسانية والانثربولوجيا والأساطير، وما ساعدني أكثر على الاقتراب اليه هو رصانته الثقافية والمعرفية اللتين فاضتا على عدد من الفنانين الذين حاولوا تضبيب منجزاته وتجاهلها وعرقلة كل ما يميزها، لكن قوة عاصم وتفرغه والهدوء في انجازات مشغله الذي تعرفت عليه بشكل جيد وهو يعمل ووفر لي فرصة سعيدة لحظة دعوتي للحديث عنه لفضائية (الحرة) وفعلاً تشكلت لي ملاحظات جديدة عن تجربة فريدة لم يبتعد فيها عن الأسطورة، بل اقترب اليها من خلال يحيى الواسطي .
أنا مبتهج بعوالم عاصم عبدالامير الغنية التي لا تتعطل ولا تتقشر بل هي تكبر متغذية بثقافة رصينة ومعرفة استعانت بالفلسفة وما عرفته جماليات الحداثة وهو يكتب عن جواد سليم حيث تمكن من انجاز اهم ما كتب عن تجربة جواد سليم وتعمقه ببدئيات سومر الفنية وكذلك أكد بعد أن تشكلت متغذية من سومر وأضافت لها ومكنتها معلماً فنياً عظيماً ومكرساً. ولأن عاصم الامير كما ذكرت مثقف من طراز خاص استطاع بمهارات لديه من توظيف مفارقة عن حضارة البدئيات الاولى التي وظفها بمهارة عالية في الفن التشكيلي العراقي من هنا كانت وظلت تجربة مميزة ومتفردة في المتحقق التشكيلي.
وأجد ضرورة ملحة التقاط بعض مما قاله د. عاصم الامير عن مشروعي الثقافي والمعرفي وما تحقق لي من انجازات في منهج النقد الاسطوري، وما سأستعين به عاملا مساعدا للتعرف على ما اختزنه عاصم ولأن له انعكاسا كبيرا لان الثقافة والتعرف العميق على ما اختزنته النصوص والملاحم وتفاصيل الديانات ومبتدأ الشعائر السحرية تبديات متمنية وهي بارزة فما عرفنا من تفاصيل عاصم الفنية التي ازاحت كل ما هو متكتم عليه وحضرت صور لائقة، لان عاصم الامير يدرك جيدا ضرورة الذهاب الى الاسطورة والسحرية واهمية وضع الملتقي امام ما توصلت له التجربة العراقية، عاصم الامير منشغل كليا بالعناصر المكونة للأسطورة وتمظهر ذلك في الزمان والمكان، والتحققات الفنية كاشفة عن مخاوف عاصم الحقيقية على الاسطورة فبذل جهدا جبارا من اجل وضعها وسط المشهد الفني من مفاهيم عاصم المركزية دعوته لضرورة عزل وطرد العموديات في كشوفاته الثقافية والاعتماد على الحركة المرنة في كل المجالات التي يعمل فيها المثقف منتجا للأدب او قارئا له. وهذه رؤية جديدة تنطوي على موقف شجاع وجريء، والتوجه نحو فاعل حفريات ومنقب حيوي في فضاء العناصر الثقافية التي تؤدي بالتالي الى وحدات مترابطة، تؤسس وتشكل بؤر جذب وتكون مصد إلهام حيوي. مثل هذه العقلية التوليدية لم ترض بالكتابات ذات الوجهة التفسيرية، والتي ظلت تكتسب المهابة والجلالة لكل هذه الحقب التاريخية. وعرف مثل هذا المثقف ما يذهب اليه ويحتفظ به من أنظمة ورموز وعلامات خصبة جاذباً بمعنى الوقف لحركيات ونزاعات النقد الحديثة ليضيء بها تلك البنى العميقة والغائبة في الموروثات والاساطير، متعالياً باشعاعاته التي ظلت لعصرنا هذا، تضرب بشدة مفاصل من أجناس الأدب والفنون علاوة على العقائد، ومثل هذا المثقف الاسطوري يظهر تفهما عميقا لمغزى هذه التبادلية وحساسيتها ما يجعل منها سبيلا تصل به الى الهوية الثقافية في ظل تداخل المسارب وتقاطع الاتجاهات فما نريد الثقة في ان ما يفعله في الحقل النقدي شيء ذو اهمية ويعطي للقارئ انطباعا واضحا، راسخا في مصادر خيالاتنا وثقافاتنا على تباين مداخلها المفاهيمية، لهذا ظلت الاسطورة تعرض اغواءاتها على خيال الابداع المعاصر. ولهذا ايضا سيعمق مثل هذا الباحث تلك السلطة ليسقط فردية الاعتقاد من ان عصر الاسطورة قد ولى دونما رجعة. لقد تمكن هنا المثقف المجتهد عبر دراساته القصيرة منها والطويلة الانتقال ميدان الشغف بعوالم الميثولوجية السحرية الى ميدان انتاج الرأي فيها، مع التصحيح لمقولات بدت بحكم التداول، كما لو انها وثوقيات لا حياد عنها. أضف الى الطاقة الداعمة للربط الخلاق بين الاصول الاسطورية وتكملاتها البعدية، وهو ما ابعده عن النزعة الاخبارية والوصفية في النقد ليلقي خطابه النقدي. جملة في نية الجدل الخلاق بما لا يفكك اسلوبيته او يبعثرها وسط متاهة الميثولوجية وعوالمها المتراكمة. لذا يبدو المنهج النقدي للمعموري ذا وجهة خلافية اعتدنا عليها في ميدان الدراسات الاسطورية، لذا فهو غير مستعد لخيانة قيمتها الى نمط من القراءات تأخذ على عاتقها استشراق حقب تاريخية متعاقبة، ربما تبدأ من محطات التنوير الحضاري الاولى مع بداية الالف الرابع حين نمت واستطاعت حضارة سومر والقت الظلال مهابتها الروحية وانجازاتها المعرفية الباهرة مع بلاد الشرق الادنى، صعودا الى عالمنا المعاصر عبر ما حملته الاديان السماوية.
لهذا كله تنطوي اطروحات هذا المثقف على بطولة من نوع ما لأنها ركبت موج الاسطورة المائي الذي ضرب بعده كتاب الخطابات الابداعية تجعلها تدور في فلك العقل التبشيري الاول يوم صاغ لنا كل اماني الفكر. والتأملات في اصل الكون، والالهة، والملاحم، والاساطير ما بعد الموت مرورا بالتراتيل والادعية والابتهالات والصلوات... الخ.
لقد اثمرت المجهودات النقدية لمثقف جاد عن شخصيات ذات اهمية وبمقدور القارئ الوقوف على انشغالاته المثمرة عبر دراساته ... وهي دون شك امثلة عنايته بمشروعه الثقافي الذي كشف عن ترابط في حلقاته. ويشي بسفر ابداعي متفرد ضمن مسار مجايليه ممن ركبهم هوس القص. وكان ان نجا من السقوط في حبائل التخليط والانقياد دون توازن وسط متاهة المناهج وتيهها، او بالضرورة تداخلات عوالم الاسطورة وطلاسمها. وأرى استكمال الانطباعي عن تراث هذا المثقف النقدي، انه تزعم خطا معرفيا ذا نزعة ربما تكون ناتجة عن ضرورة احياء الجواهر المعرفية التي فيها الاسطورة، وهي بعض ما حملته حضارة وادي الرافدين وفيما بعد. حيوية حضارات واشراقات الشرق التي ظلت متوهجة رغم التجاذبات الساعية الى علمية الاسطورة بالمعنى الذي يضعنا في ركب عصر الاساطير الجديدة منها الانترنيت والثقافة الصورية وما الى ذلك. وفي كل الاحوال ان هذا المثقف يقيم في المنابت الاولى لكأنه يردد مع بيكاسو، ان الاسطورة هي التي تبقى دائم.