أيلول/سبتمبر 12
   
 
تدور حوادث رواية (الدار الكبيرة) في مدينة تلمسان الجزائرية أواخر عقد الثلاثينات من القرن العشرين، وهي الجزء الأول من ثلاثية روائية أبدعها الروائي الجزائري الرائد محمود ديب المولود في المدينة عينها سنة 1922، والمتوفى في فرنسا عام 2003، إذ ترد إشارات واضحة إلى رجل تولى قيادة ألمانية ويريد الاستيلاء على العالم! كما أن سلطات الاحتلال الفرنسي، تجري اختبارات على صفارات الإنذار في أيلول/ 1939، مما يعني أن حرباً على وشك الاندلاع.
تدور احداث الرواية في (الدار الكبيرة)؛ (دار سبيطار)، حيث تعيش عدد من الأسر الفقيرة في هذه الدار الواسعة، إذ حشرت كل أسرة نفسها في إحدى غرف هذه الدار، التي تشيع في أوساطها النميمة والفضول، وتسقّط أخبار الناس، هذه الهواجس تدفع الأسر إلى الاستعانة بالكتمان والتكتم على قضاء حوائجها، خشية الفضول، وخشية العين الحاسدة، إذ وَقَرَ في نفوسهم تفشي ظاهرة الحسد، ويكاد (عمر) يمثل الشخصية المركزية في رواية دار سبيطار؛ ابن ذلك العامل الذي توفي بمرض السل، وترك لزوجته (عيني) ولدين وبنتين هما (عيوشة) و(مريم)، في حين ظل عمر وحده بعد وفاة أخيه صغيراً، حيث تفتك الأمراض والفقر والجوع بحيوات هذه الأسر الفقيرة، التي أضحى أعلى مطامحها الحصول على الخبز؛ الخبز وحده، وعلى الرغم من الأعمال العديدة التي مارستها (عيني) فإنها ما استطاعت أن توفر لأسرتها غير الخبز، وكثيرا ما كانت الفتاتان ترنوان نحو قطعة لحم أو بيضة، لكن يخيب الظن إزاء الدخل المتواضع الذي تحصل عليه أمُهما من عملها بالخياطة؛ إنها تعمل ساعات مديدة نهاراً وحتى في الليل، مما يثير حنق الجيران بسبب الضوضاء التي تحدثها ماكنة الخياطة وتؤثر على رقادهم.
 
قسوة الإنسان:
يكاد عمر، على الرغم من صغر سنه، يمثل الشخصية المركزية الأهم في رواية دار سبيطار، وقد امتاز بصفات أهّلته لأن يأتي بما لم يستطعه الكبار، وكثيرا ما أسندت إليه أمه (عيني) مهمات صعبة ليس بِمِكنة الصغار القيام بها، لكن عمر كان لها، كما كان يتحلى بصفات طيبة، فهو وقف دائما إلى جانب جدته، التي تحشرها أمه؛ ابنتها ، في المطبخ، بعد أن تخلص منها ابنها البكر خضوعا لرغبة زوجته، وتحللت البنتان الأخريان من تبعات القيام بواجب البنوة إزاء أمهما، التي عصف بها الكبر والمرض؛ تحللت اختا (عيني) من واجب الإقامة الدورية لأمهما عند كل واحد من أبنائها الأربعة؛ الأخ والأخوات الثلاث، تحللتا من هذا الواجب، من خلال نفحهما شقيقتهما (عيني) شيئاً من مال لقاء أن تقيم أمهم عندها دائماً، مستغلين ثلاثتهم وضعها المالي الصعب، ولا سيما بعد وفاة زوجها المعيل.
كان عمر يعطف على جدته ويساعدها على القيام بأمورها الخاصة، وكثيرا ما عاتب أمه التي كانت تُسمِع أمها المسكينة، بذيء القول وقارصه، لا بل يصل الأمر بهذه الابنة العاقة أن تضرب أمها "وفي وسط هذا الهذيان، هذيان الظلمات وآلام العالم، كانت (عيني) تصيح بأمها أن أسكتي. فتجيبها الجدة.
-- أهكذا يا بنتي؟
- اسكتي يا عجوز النحس.
- أليس لك قلب؟ - ألست تشفقين على أمك التي ولدتك؟ أتنامين وتتركينني؟
وتنادي الجدة عمر وتقول له في أنين:
- أنت وحدك ترحمني.
ثم تسأله أن يجىء إلى قربها" ص127
 تصور هذه الرواية، عسف سلطات الاحتلال الفرنسي تجاه الجزائريين، وتركهم يحيون من غير عناية طبية، ولا تعليم وإن علموهم، فيعلمونهم بالفرنسية في محاولة لوأد اللغة القومية، فتفشت الأمراض بينهم، فضلاً عن الأمراض الاجتماعية مثل؛ التواكل والتخاذل والتكاسل، والرضا بالحال كما هو على الرغم من قسوته، حتى أن من يعمل على انتشالهم من هذه الأوضاع المزرية، يُرْمى بشتى الصفات السلبية، فهو الكسول الذي لا يجيد سوى إطلاق الكلام، تاركاً العمل وجلب الرزق لأهله.
كما تصور الرواية تعسف قوات الشرطة الفرنسية، وفظاظتها في تفتيش غرف هذه الدار بحثا عن المثقف السياسي (حميد سراج) فتبعثر كتبه وأوراقه وكل ما هو خاص به.
سامي الدروبي مترجماً :
 لقد تولى ترجمة هذه الرواية عن الفرنسية
-لان محمد ديب لم يعرف العربية، بسبب قرارات سلطة الاحتلال، فنشأ معقود اللسان والقلم والبيان، وتولى ترجمتها المترجم السوري الضليع سامي الدروبي، في ثلاثة أجزاء حملت عناوين (الدار الكبيرة) و(الحريق) و(النول) وامتدت هذه الأجزاء الثلاثة إلى (501) صفحة، وبيدي طبعة (روايات الهلال) المصرية الصادرة سنة 1970، كما ترجمها أيضا المترجم السوري الراحل صالح علماني 2020 .
وتألق سامي الدروبي مترجماً، بمشروعه الترجمي الرائع بنقل روايات ثيودور ديستو يفسكي إلى العربية، حتى إذا فرغ من ذلك ثنّاه بترجمة روايات ليو تولستوي، لكن طائر الموت لم يمهله فتوفي في 1976.
وإذا كان (عمر) شخصية الجزء الأول المحورية من الثلاثية الروائية هذه، التي أبدعها الروائي الجزائري محمد ديب، فإن (حميد سراج) هو محور الجزء الثاني منها، والذي سماه محمد ديب (الحريق) إشارة إلى الحريق الذي أتى على أكواخ الفلاحين، الذين تحركوا للمطالبة بحقوقهم، لا بل أبسط هذه الحقوق؛ وهو عيش الكفاف المتمثل بالحصول على الخبز؛ الخبز فقط! الحريق المعروف من كان يقف وراءه، إنهم أذيال المستوطنين الفرنسيين الذين يسرقون جهد الفلاح الجزائري، عن طريق إعطائه أبخس الأجور.
حميد سراج الذي نال تعليما جيدا، ونال ثقة الفلاحين، وكان شخصا مؤثرا فيهم، أدى إلى إعلان الإضراب؛ إضراب الفلاحين، والعمال الزراعيين، فشنت سلطة الاحتلال حملات اعتقال واسعة، وكان في المقدمة منهم (حميد سراج) ويتألق محمد ديب، و في نقل خلجات وتشوفات حميد سراج في سجنه الانفرادي بعد تعذيب شديد.
 
تداعيات الحرب:
في (الحريق) ج2 من هذه الثلاثية الروائية ينقل المؤلف ما تركه نشوب الحرب العالمية الثانية من آثار مؤلمة على الشباب الجزائري، الذي تستدعيه سلطة الاحتلال الفرنسية لأداء الخدمة العسكرية، الحرب ما شأننا بها؟ إنها تنشب في بلاد بعيدة، في فرنسة ومن يدري إلى أين تمتد؟
 " في اليوم الذي تلقى فيه (جلالي) إبن أيوب الأمر بالسفر، لبست زوجته الحداد، وكذلك فعلت أمه، فارتدت ثوبا قاتما، رجلان ينتزعان دفعة واحدة، وقد دق القدر نفسه باب أسرة محمد أيضاً. انتحبت النساء في البيتين انتحاباً طويلاً وهن يلطمن حزناً وحسرة، وصرخت (صفية) أم الشابين، نادبة ناعية، لاطمة.
- أولادي، أولادي، أخذوا أولادي.
وعادت تلطم، وتمزق وجهها."".ص107ص110
وإذ شاء الروائي محمد ديب أن يخلي (عمر) محوريته السردية إلى (حميد سراج) في الجزء الثاني من هذه الثلاثية الروائية (الدار الكبيرة) (دار سبيطار) فإن عمر وقد شّب عن الطوق، ويكاد يبلغ مبلغ الفتيان، عاد لمحوريته السردية في الجزء الثالث (النول) فلقد ترك المدرسة بسبب سوء الوضع المالي للأسرة، وتأخذه أمه إلى (ماحي بوعنان) صاحب معمل نسيج في المدينة عسى أن يجد له مكاناً، وينخرط (عمر) في معمل النسيج هذا، الشبيه بكهف حيث يمضي عمال عديدون، ساعات عمل طويلة، لقاء أجر بخس، يماطلهم في تسديده لهم (ماحي بو عنان) صاحب هذا المعمل البدين السكير، ومن خلال هؤلاء العمال الذين يعملون في ظروف قاسية، ينقل لنا محمد ديب آراء الناس في الحياة والسياسة والأوضاع عامة، ولعل محمد ديب قد استوحاها من عمله في معامل السجاد، إذ يظهر معرفة واسعة في عالم النسج والحياكة والأنوال والأصواف.
هذه الحوارات التي أجراها محمد ديب على السِنة العمال توحي بالآتي من الحوادث، إنها محاولات لتنظيم الشباب الجزائري أنفسهم في مجموعات تعمل على بلورة رأي عام مناوىء لسلطات الاحتلال، إنها إرهاص بالآتي؛ انطلاق الثورة الجزائرية، ممثلة بجبهة التحرير الوطني الجزائرية، في إطلاق رصاصتها الأولى في صدر العدو المستعمر في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، والذي تكلل بالنصر في تموز/ يوليو 1962.
إن (الدار الكبيرة) التي أبدعها محمد ديب، تأرخة للحياة الجزائرية على مدى نحو ست سنوات، هي أيام الحرب العالمية الثانية، وما تركته من آثار مدمرة على الحياة الجزائرية، إذ يبدأ الجزء الأول بإشارات إلى الفوهرر هتلر زعيم الرايخ الثالث، وعزمه شن حرب، وتنتهي بوصول طلائع الجيش الأمريكي إلى الجزائر، مما يعني سقوط حكومة فيشي الموالية لهتلر ونهاية الحرب، لذا أدار محمد ديب حواراً مكثفاً وطويلاً على لسان شخوص الرواية، ولاسيما حميد سراج، وعكاشة، وحمدوش، وزبيش، والفلاح بادعدوش، الذي عمل في مزارع المستوطنين الفرنسيين، حتى إذا أسن وما عاد قادرا على العمل، استغنوا عنه، وأخرجوه من الكوخ الذي كان يؤيه وأسرته.
إن (الدار الكبيرة) التي نشرت أول مرة سنة 1952، كانت إرهاصاً بالثورة الجزائرية، كانت بشرى بانطلاق هذه الثورة خريف سنة 1954.