
حين نتكئ على السرد لقراءة الواقع أو لمقاربة التاريخ، فإننا سنجد أنفسنا أمام لعبة التخيّل، كونه مجالا مفتوحا يتجاوز المعرفة كما يقول اينشتاين، ويمنح السرد طاقته، ويتيح له الذهاب الى الكشف عن "المسكوت عنه" بوصفه ضدا للواقع، وحتى للتاريخ.
الحفر في رواية "نساء يوسف الحلو"* للكاتب حسن العاني، هو استدعاء لتلك الطاقة، وإدراك يقوم على تقانة الكشف، وعلى القراءة الرائية، بوصفها قراءة فاحصة للمحمول الرمزي، ولعلاقة هذا المحمول بالسيرة وبحياة الكاتب، فالكاتب عبر السرد يتخيّلُ سيرة ما، ربما تشبه سيرته الحقيقية، أو ربما يصطنع لها نوعا من النرجسية السردية، والإيهام الذي يجعل من بطله "يوسف" عنوانا دالاً، ومتناً سردياً تتحرك فيه أحداث الرواية..
فالعنوان/ الثريا يقوم على فكرة استهلالية، أو جملة توصيفية تستدعي المناصة مع ذلك الكشف، إذ يكوّن دالاً يستكنه عن طريقه المخفي والمفارق، وعبر احالات جنسية، مثلما يقوم على كشف نسقٍ يضمر توصيفاً مرضيا لشخصية البطل، وكأنها، أي "جملة العنوان" تُحيل الى امتلاك سحر السلطة الذكورية، وهذا الإمتلاك هو ما يدفع الى استمراء جوهر اللعبة السردية، تلك التي تقوم على حركة البطل في عالم صاخب بالنساء اللائي يعشقهنّ، ويعيش معهنّ شغفاً توصيفياً، وإشباعاً جنسياً، وكأنه يجد في فكرة الحرمان "اليوسفي/ دالته الإسمية في التعويض عبر اشباعات نفسية وايروسية في الواقع الذي يتخيّله، ومع ما يسترجع معه بعضا من طفولته وشبابه وسنوات دراسته وعمله الوظيفي..
تعالق العنوان مع الحدث، يربط مابين "النساء" وبين شخصية يوسف التي تعاني من عقد تخيّلية، ولا يجد إلّا في شفرة "الإمتلاك" وفي "المقدّس" تمثيلا رمزيا لهوسه بالنساء، بوصفهن فضاء رمزياً، وكشفاً عن حرمانٍ ما، وهذا ما يجعل توصيف أي علاقة له مع نسائه المتخيلات ذات طابع جنسي، لإن الجنس في جوهره امتلاك وتعويض وايهام بالاشباع الرمزي..
السرد ولعبة الحكاية:
الجَنْبة الحكواتية في الرواية تكشف عن مهارة الكاتب في مواجهة "عالم النساء" وعلاقتهن بسيرته، إذ يضع طفولته وعلاقته بالعائلة "الغنية" مقابلا لعلاقته ب"ماما منيرة" وهي علاقة تستدعي "الإشباع" مثلما هي استفزاز للجسد في نشوئه، وفي تمثيل حاجاته، وشهواته، إذ يبدو مسار تلك العلاقتين محكوما بعامل ذلك "الاستفزاز" فهو الذي يقوده الى كشوفاته النسائية، أو الى تخيلاته عنهنّ، والتي تتكشف عن مستويات متعددة، لتلك العلاقات العابرة والمُستفِزة، مع "اندلس" التي تتركه، ومع "خلود" التي يعيش معها هوسا جنسيا، ومع "عفاف" التي تتزوج غيره بسبب التأويل الديني ورفض الأب لشكّه بحرمة ذلك الزواج، ومع ميادة الزوجة الافتراضية، لكن تبقى علاقته مع "منيرة" هي الأقوى بسبب طابعها "الأمومي" والباعث على اشباعات رمزية، أكثر مما هي ايروسية، عبر ما توقظه شفرة "الماما" أوما تُحيل إليه، وعبر ثبات علاقتها في واقعه العائلي والنفسي والاجتماعي، فعلى الرغم من حضور عنصر الغواية سرديا في هذه العلاقة، فإنّ توصيفها الواقعي والنفسي يكشف عن أزمة شخصيته، وعن عقدته الإشباعية، وعن "حرمانه الجنسي" وهو ما بدا واضحاً في القسم الثاني القصير من الرواية، حيث نسف الشاهد/ إبنته "منيرة" عالم التخيّل الذي صممه الكاتب في القسم الأول، الكاتب لتضعنا أمام "واقعية الحكي" الكاشف لأوهام شخصيته، ولتخيلاتها، ولعلاقتها المضطربة مع نساء متعاليات يسكن واقعه، لكنهنّ يتحولنّ الى نساء يستفّزنّ وعيه الشبقي في التخيّل..
السيرة وتاريخ الشخصية:
لا أحسب أن رواية "نساء يوسف الحلو" هي رواية سيرة بالمعنى الاتوبيوغرافي، لكنها تستمد كثيرا من عناصر بنائها من تلك السيرة، لاسيما في بعدها الطفولي والوظيفي، وحتى تاريخ شخصية "البطل" تستعين بعوالم وامكنة، وتفاصيل حسية تجعله أكثر إقتراباً للواقعية تلك السيرة، عبر الطابع الساخر، وروح الدعابة، لكن مهارة الكاتب وحيوته تبرز واضحة في تحبيك المبنى السردي، باعتماد تقانة المفارقة في البناء الحكائي، وعبر تلاعبه بالزمن، فهو لم يكتف بالزمن السردي، بل اصطنع له "زمانات مجاورة" ينشط فيها الزمن النفسي، والزمن الإيهامي، حدّ أنه اخترع لحكاياته النسائية، علاقات وأمكنة وحتى سفرات خارج الزمن الواقعي، وعلى نحوٍ اغنى حيوية السرد، وترك قارئها يعيش ارهاصات تحول تلك "الزمانات" بشغف من يتقصى تتبع الأحداث، و"النهايات السعيدة" أو يتوهمها.
الفصل الأول من الرواية قد يبدو وكأنه فصلٌ استفزازي لتلك"السيرة" عبر تشكيل ماهو سردي في بناء الشخصية، وعبر واسطة الراوي العليم، والذي يترصّد علاقات تلك الشخصية بتتبع تحولاتها، وعبر سردنة وجودها في الأمكنة المتعددة، وبما يُعطى لتلك التحولات مساحة مفتوحة تراقبها عين الراوي العليم، ويتقانة "مونتاج" دقيقة، لم يُشعِر قارئه بإنتقالات تلك العين الرائية، في الاسترجاع، والاستقدام، وهذا مايحسب للروائي ولخبرته في اصطناع عالم الحكاية التي تصلح أن تكون سيرة بالمعنى التوصيفي، مثلما تصلح أن تكون تخيّلا بالمعنى السردي.
إنكسار التخيّل في القسم الثاني بعزل الراوي العليم، وحضور البنت "منيرة" كراوٍ ضدي، يكسر لعبة التخيّل، إذ تصطنع لنا هيكلاٍ آخر، يناقض ما ورد في حكاية الراوي العليم في القسم الأول، ويكشف عن عيوبه، وعن تسريباته النسقية، تلك التي تكشف في جوهرها أزمة البطل النفسية.
هذا التحوّل في مقاربة البناء السردي لا "موت السيرة" بقدر مايعني تعرية ما أحاطها من تخيلات اغترابية، وانقطاعات لا يؤلف بينها سوى رغبة البطل وتخيلاته، فضلا عن كشفها العميق لتشوهاته الداخلية، ولأزمة وجوده، بوصفها أزمة تتجوهر حول البحث عن الذات والهوية، وعن المعنى المضطرب في شخصيته، وفي علاقته مع الآخرين/ الأخريات.
إعادة توصيف الشخصية في سياق علاقتها الاغترابية، يتطلب مقاربة سايكوباثية لهذه الشخصية، بوصفها تمثيلا لكائن يتخيل أو يتهيأ له، كما يقول صديقه "المثقف" صباح. ومابين هذا التخيّل والتهيّؤ ينكشف الخفي والمُضمر واللاواعي في تلك الشخصية، فهي تقيم بهذا التخيّل علاقات يقول عنها فرويد بأنها تتوخى البحث عن الإشباع، بالتهيؤ فإنها تصطنع ايهامات بالتعالي، وربما بتقليد شخصيات تسربت عبر أنساق قراءاته، والتي تضعنا أمام توصيف آخر لتلك الشخصية، كونها "شخصية وجودية" تعاني من احباط واقعي ونفسي ولا انتمائي، وتجدّ في التخيّل الايروسي مجالا للتعويض وللتفريغ النفسي، وهو ما نجده في عدد من الروايات العراقية ذات النفسي، والتي يعيش عن طريقها البطل استغراقات مواجهة هزائمه السياسية، وانكساراته النفسية والوجودية، فـ"يوسف" صاحب القناع المقدس، وصاحب الغواية، يصطنع تلك التخيلات ليواجه أزمته الداخلية، وليجد نفسه متمردا على ذلك المقدس، وكاسرا لنسقه المتعالي، فهو يستجيب الى الغواية، ولم ينفر منها، مثلما يعيش علاقة مركبة مع "ماما منيرة" يختلط فيها الرغبوي مع الشعور بالإثم في تدنيس المُحرّم، وفي خرق المألوف، مقابل ضعفه امام "الزواج" من ابنة خالته كما تقول احدى حكاياته المتخيلة، بسبب وجود السلطة التي يمثلها العم ابو صفية، وهي سلطة خارجة عن النسق ومحكومة بعامل المقدّس ايضا.
الجنس وشفرة التعويض:
ليس الجنس في رواية "نساء يوسف الحلو" باعثا على توصيف ايهامي للعلاقة التي يقترحها العنوان، بل ينطوي على احالات مُركّبة يدخل فيها الرمزي، مثلما يدخل فيها النفسي، كشفاً عن أوهامه، وتهيؤاته، وعن اضطراب مشاعره، وكذلك عن الشغف الذي يتجوهر حول فرادة الشخصية، والتي يتركها العنوان لاستكناه ما وراءها، إذ تعني مفردة الحلو إثارة، واستفزاز، لا يحكمها سوى فضح ماهو إحالي الى العلاقة مع النساء، والى توظيف الأسطورة كدال اشباعي لتجاوز عقدة الإحباط والعجز، والى أنسنة المغامرة والغواية، والتي يكشف لنا القسم الثاني من الرواية خدعتها وبطلانها، وكأن الروائي يضعنا أمام صراع اشكالي ووجودي مابين الواقع والسرد، أو بين التاريخ والسرد، او بين الاسطورة والسرد، وهي ثنائيات تستدعي مقاربات رهابية من المُقدّس، ومن إقامة تعالقات ضدية بين التاريخي بالسردي. واحسب أن الروائي وجد في ثيمة الجنس عنوانا خفيا لتأطير تلك التعالقات، ولتوجيه أحداث الرواية، وبما يجعل هواجس البطل الجنسية دوافع نفسية لإستفزاز الواقع والتاريخ والمقدس، ولكسر التابو العائلي والنفسي، وليقترح لنا - مقابل ذلك- صراعا لايبدو واضحا إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية بين شخصيتين يمثلها الحلو يوسف، والمريض يوسف، إذ لا نجد امامنا سوى حكاية يرويها يوسف عبر الراوي العليم المنحاز الى تخيلات البطل، وحكاية أخرى ترويها البنت "منيرة" تعرّي فيها أوهام البطل، وتكشف عن علله النفسية وهلاوسه التي تجعله مضطربا ومسكونا بأوهام الماضي..
-
نساء يوسف الحلو/ رواية: حسن العاني – اصدار : اتحاد الادباء والكتاب في العراق 2022