أيلول/سبتمبر 12
   
 
 
قبيل الغروب بأربعين دقيقة، وبعد الغروب بأربعين دقيقة، يكون قد انتهى تماماً من جولته اليومية التي تبدأ من منزله الواقع الى يمين المقبرة الملكية بأمتار قليلة، مروراً بساحة عنتر فشارع المشاتل وحيوانات الزينة، وانتهاء ببناية المجمع العلمي، ثم العودة في الطريق نفسها، وكل يوم كذلك ما بين الساعة الحادية عشرة حتى الثانية بعد منتصف الليل، يجلس الى منضدته في غرفة المكتبة ثلاث ساعات متواصلة يكتب ما تمليه عليه اللحظة التي تتحكم فيه، ربما مشاهداته بغض النظر عن اهميتها، او خاطرة او فكرة او يستكمل مشروع روايته التي شرع بها منذ خمس سنوات، وقد لا يكتب حرفاً واحداً، ولهذا كان صفوة اصدقائه ينعتونه (الانسان الالي) مزاحاً او سخرية، على ان اشد ما كان يغريه في تلك الجولة اليومية تتمثل في المسافة التي تمتد الى يمينه بضعة مئات من الامتار ما بين الساحة ونهاية الشارع العابق برائحة الورد واختلاط الالوان وضجيج الحيوانات العابثة، ولكن تشرين الثاني في تلك الاربعين دقيقة التي تسبق الغروب، وفي ذلك اليوم على وجه التحديد، كان مجنوناً بمطر عنيف مفاجئ دفعه مهرولاً الى عبور الشارع، صوب الجهة المقابلة حيث الصف الطويل من البيوت المتجاورة ذات الشرفات العريضة، في محاولة للاحتماء، وكاد يسقط لولا يد المرأة التي سبقته الى الاحتماء، حيث سارعت وانتشلت كبوته وانقذته من التدحرج في البرك الطافحة بمياه الامطار، وسوف يكتب– بعد أن أنتهى من تدوين خاطرة رومانسية سريعة مفحمة بخيال خصب في دفتر يومياته، وهو المكان الوحيد الذي لا يرقى اليه الكذب او النفاق – ان تشرين الثاني في ذلك الوقت الذي يسبق الغروب لم يكن ممطراً، وإنه رأى تلك المرأة والتقاها عن قرب في اثناء عبوره الى الجانب الاخر من الشارع، لأن احساساً غريباً شدّه اليها، ذات ليلة سيكتب (ما الذي يجعلني اعتقد اعتقاداً ساذجاً، بأنني في زمن ما، ربما قبل ألف سنة قد تزوجت هذه السيدة المنحوتة من الرخام الاشد بياضاً وكأنها آلهة يونانية)، وتكرر لقاؤه بها على مدى تسعين يوماً، وإنه قادر على ملاحظة الطريقة التي كانت تراقبه فيها، وإنه بعد تلك الاشهر الثلاثة استقبل منها ابتسامة هزّت أعماقه، ردّاً على وجهه الذي بعث لها رسالة غزل سرية، وفي يومياته – الشاهد الوحيد على مصداقيته – قرر أن يعبر الشارع في حضرتها ويخبرها بأن شيئاً ما شدّه اليها، لعلها الالهة اليونانية، وهذا ما حصل في اليوم الواحد والتسعين، لولا المفاجأة التي لم يتحسب لها بينما كان يهم بالعبور من رصيف المشاتل الى رصيف الدور السكنية، كانت تسبقه الى عبور الشارع من الدور الى المشاتل- ذلك ما تضمنته إحدى مدوناته- ولهذا اسرع الخطى والتقيا عند منتصف الشارع الذي اربك مرور المركبات، ولأنه مازال منشغلاً بوقع الدهشة، فقد امسكتْ بكفه وعبرا باتجاه محل اسماك الزينة، كانت هرولتها اقرب الى الركض، ولحظتها بشيء من الحزن، ظنّ بأنها ستفلتُ كفه بمجرد التحرر من محنة المركبات، غير انها، المرأة التي لم تتجاوز عقدها الثالث كما جاء في يومياته، ثم صوّب تلك المعلومة في اليوم السابع والتسعين على ملامسة كفها التي بعثتْ في كفه التي أتعبها البرد، نشوة اثارتْ استغرابه، لم يسبق له ان تحول الى ضحية انتشاء غير مسبوق يكمن في كف، وقد قفز الى ذهنه سؤال لم يكن من طبعه: أية نشوة كانت ستفجر الكون الاحدب لو انتفضت حلمة نهدها بين اصابعه، قبل ان يكتشف انها من مواليد 29/11، وإنها في مثل هذا اليوم من السنة الجديدة ستكون في السادسة والاربعين من عمرها، ومع ذلك لم يعر كبير اهمية عندما اكتشف مصادفة انها ستكون في السادسة والخمسين، فذلك على حد العبارة التي تضمنتها احدى مدوناته (المرأة التي تتحايل على عمرها تحترم انوثتها)، ولكن صفوة اصدقائه زعموا انه لم يكن يشعرها بتلك السلسلة الطويلة من الاعذار المفتعلة والاكاذيب الصغيرة التي لا تليق بامرأة من ذرية الالهة اليونانية، اما زعمهم الاكثر خطورة، والذي كان يرفضه بانزعاج مع انه ورد غير مرة في يومياته، فيذهب الى ان السيدة تزوجت في سن مبكرة (لم اسألها ان كانت مرغمة- نص حرفي من اليوميات) ودفعت زوجها الى الانتحار لانها لم تعد تحتمل معاشرته، وبطريقة غامضة هي وحدها من يحسنها، جعلته يشرب السم، كلام لم يرد في اية مدونة، ولكنه يقرب من اليقين الثابت لدى الصفوة، وعلى مدى ثلاث سنوات كانا يلتقيان عند اسماك الزينة، ويقطعان الطريق معاً الى ساحة عنتر ثم ينحرفان يميناً الى الاعظمية وبعدها يعبران جسر الأئمة صوب المطعم الذي استحوذ على اعجابهما عند كورنيش الكاظمية، وكان مع بداية كل شهر هجري – هذا مدون في اليوميات – يقدم لها هدية (هي التي تحدد نوع الهدية من غير ان تطلبها ابداً.. امرأة تتحلى بذكاء انثى استثنائية)- هذا المقطع منقول حرفياً من الصفحة 124- وبعد تسع صفحات نقرأ نصاً حرفياً آخر (حتى هذه اللحظة بعد 728 يوماً على أول لقاء بيننا تحت الشرفة وأنا لا اعرف أين تسكن على وجه الدقة)، وعند آخر سطرين من الصفحة نفسها هناك مدونة تعود في الغالب الى تاريخ قديم جاء فيها (كانت صادقة يوم فاجأتني وأنا أتلذذ بملمس كفها، إن شيئاً لم تستطع وصفه هو الذي شدّها نحوي بحيث هزّ أعماقها وارغمها على العبور الى رصيف المشاتل)، وفي آخر قصة كتبها هناك اشارة الى البطل – صفوة اصدقائه يجزمون بأنه بطل قصته – مفادها ان السيدة شبيهة الآلهات اليونانية التي عشقها بطريقة غامضة كما يفهم من سلوكه، وافقتْ فجأة على الزواج منه، وفجأة رفضت رفضاً لا مجال فيه للتراجع، اي مشروع للزواج ... هي لم تذكر ابداً، ان ذلك من باب الوفاء لزوجها ولكنها كررت غير مرة مفردتي الحياء والحرج من الاخرين، حتى ان خضير الحميري اقرب الصفوة الى روحه قالت مرة في وجهه (إنها مهووسة بحبك الى الحد الذي يصعب عليك ادراك ذلك)، وتفيد مدونة الصفحتين 532/533، إنها في لحظة تحرر من مشاعرها المسكونة بالرعب اخبرت صديقتها (جنّة) ، وهي ابنة خالها: إن هذا الرجل الذي يعشق على طريقة البدو يستحق ما هو اعظم من الحب، ولكنني – هي التي وصفتْ نفسها – امرأة مجنونة او سيئة منذ اقمت بيني وبينه حاجزاً، ولعلها مطابقة نادرة تلك التي حدثت بين احدى المدونات وبين معلومة تمت الاشارة اليها في واحدة من القصص التي لم تكتمل: إن البطل لموقف لم يفصح عنه خسر كل شيء حتى وظيفته، وإنه توقف عن ليالي العشاء اليومية وتقديم الهدايا التي كانت تريدها من دون ان تطلبها، ومع ذلك فقد كانت ليلة رأس السنة تلك غريبة، إنه على عادته منذ اللقاء الذي اربك سواق المركبات، ينتظرها امام اسماك الزينة وهي تأتي في الموعد تماماً، ومع مرور اكثر من ساعتين على انتظاره، الا انها في تلك الليلة الغريبة حيث لم يسبق ان هطلت الثلوج بهذه الغزارة لم تحضر، وواضح بأنه لم يدون ذلك في اية خاطرة او يومية، ولكنه اصر بعناد رجل شرقي متخلف ان يواصل الانتظار، فيما كانت الثلوج تزداد هطولاً، وحين هدأت السماء مع اطلالة اضواء الفجر، كانت مناسيب الثلوج قد ارتفعت الى 30 سنتمتراً، فيما تحولت الاشجار واعمدة الكهرباء والمركبات المركونة عند الفروع المؤدية الى (راغبة خاتون) وجسد الرجل الواقف على مبعدة مترين من الاسماك الى تكوينات بيض ذات لمسات فنية مفعمة بالرومانسية، ولهذا تسابقت وسائل الاعلام الى تغطيتها، غير ان مساء اليوم الاول من السنة الجديدة شهد موجة اعنف من البرد والثلج بحيث تراجعت الحياة في الشوارع، وبحلول اليوم الاول من العام الجديد، وهو آخر اعوامه، إرتفعت كتلة ثلجية بارتفاع ثلاثة امتار فوق جسده، وهو مُصِرٌّ – هذا ما زعمته الصفوة – على عدم مغادرة المكان، غير إن احداً منهم، حتى الحميري لم يستطع الجزم، فربما كانت الكتلة الثلجية ذات الحجم الهائل هي التي اعاقت حركته، وهذا ما تأكد في اليوم السادس وتحديداً قبيل الغروب بأربعين دقيقة، حيث ترنحت الكتلة ثم هوت فوق الارض، كانت المرأة -التي مازال ملمس كفها الناعم يستقر في كفه اليمنى ويملأ روحه بالانتشاء- وهو يحدثها (ما كان عليه ان يفعل ذلك باتفاق الصفوة) عن حلم راوده مع إبنة خالتها طوال ليلة كاملة، كانت عارية بين ذراعيه، وإنه قاوم اغراءها فوق طاقته قبل أن يستسلم لجنون رغبتها الجامحة، وعلى رواية الصفوة فأن المقاومة مجرد زعم كاذب حيث رأى الغيرة الغاضبة ترسم صورة عينيها، كان الملمس الناعم يواصل نشوته في كفه اليمنى على الرغم من كفها التي غادرت مكانها عنوة، ومازالا يقطعان الطريق من اسماك الزينة الى جسر الأئمة صوب المطعم المطل على دجلة الكاظمية، ولكن شيئاً من احاديث الصفوة لا وجود له في اليوميات ولا القصص او الخواطر ولو من باب الاشارة، غير إنه ما عاد قادراً على شراء الهدايا التي لا تطلبها، هكذا قالت له ذات ليلة: اعرف انه عرض مجنون وقد اقتل نفسي بعده، فضحك حتى دمعت عيناه لانها – اليوميات والمدونات جميعها خالية من هذه المعلومات – تطلب منه الزواج ، على وجه الدقة، الموافقة على الزواج من (جنة) فهي معجبة بك، وكان وقِطَعُ الثلج لم تتوقف عن التساقط قبيل الغروب، قد افتقد لاول مرة ملمس كفها المستقرة في كف رجل لا يجهله ولكنه لا يعرفه على وجه اليقين، هو من اوحى لنفسه ان كفها لا تتوهج نشوة الا حين تكون في كفه، ولم يكن وهما الكف بالكف يمران قريباً من مرمى بصره، ومستغرباً او مندهشاً او حزيناً، إنه كما بدا في ذلك (الوقت الذي يسبق الغروب)
- في مدونة صغيرة بين يومياته ترك العبارة التالية (قبيل الغروب هو الشيء الحقيقي الوحيد في حياتي، أعني انه حياتي وتاريخي ومستقبلي، لقد وُلدتُ ذات مساء هنا – كائناً مفرغاً من أية مشاعر، يعرف كل شيء ولا يعرف اي شيء ولا يريد ان يعرف شيئاً، فيما كان الثلاثة، هي وملمس كفها والرجل الذي لا يجهله يقطعون الطريق نحو ساحة عنتر، وحين انعطفوا يميناً بأتجاه الائمة واصبحت رؤيتهم متعذرة، استعاد رزانه وقفته وموقفه الى ان انتصف الليل وبدأت ثلوج العام الجديد تتساقط بغزارة غير معهودة، حيث ورد على لسان بعض الصفوة – الحقيقة جميعهم- بأن عمود الثلج الذي ارتفع فوقه راح ينافس منارة "النداء"، ومع حلول شمس نيسان الدافئة، وحماوة حزيران وجحيم تموز، تعرّت الاشجار وخلعت لونها الابيض... بدت وكأنها اغتسلت من متاعب الخريف، ولكن عمود الثلج قاوم الذوبان، وكما زعمت الصفوة: باتت الناس تدعوه "رجل الثلج"، والاطفال يسمونه "بابا نوئيل" وانتهى كل شيء في ذلك العام، غير ان أعواماً لاحقة لم يستطع أحد تحديدها جعلت المرتفع الثلجي موطناً لطلب المتعة، فيما ابتدعت نساء المدينة حكايات عجيبة حوله حظيت بتصديق الصفوة، وقد اتفقت رواية النسوة والصفوة وشهود العيان من "الوزيرية والشعب وراغبة خاتون والقاهرة والجريدة اليومية وأم عباس – موظفة تعمل معها في الجريدة، وهي أول من رأتهما متلبسين بالحب في مكان قريب من اسماك الزينة، واكتفت بابتسامة يصعب الجزم ببراءتها، وكأنها لم ترصد وجودهما الغريب معاً في ذلك الوقت الذي يسبق الغروب على إن المرأة التي افزعتها حكاية ابنة خالتها –هي التي أخبرت (جنة)، في لحظة تحرر من مشاعرها المسكونة بالرعب: إن هذا الرجل يستحق ما هو أعظم من الحب-، كانت تزور عمود الثلج كل يوم قبيل الغروب بأربعين دقيقة وتبكي بصمت...