أيلول/سبتمبر 12
   
           
محمد علي شمس الدين
لبنان الارز
ولبنان الجبل
ولبنان الحرية
ولبنان المقاومة
ولبنان الحب
هي الايقونات التي تتألق مثل قناديل متوهجة بين تضاريس التجربة الشعرية الخصبة للشاعر الكبير الذي فقدناه، محمد علي شمس الدين (1942 - 2022) الذي رحل فجأة في الحادي عشر من أيلول 2022 عن ثمانين عاماً. لقد ظل الشاعر يغني طيلة حياته، مثل عندليب، غناءه الرومانسي المتفائل، المفعم بالحياة والأمل والجمال، وهو يمد يداً نحو الغيب، ليصافح بحرارة ومودة كل الأيدي البيض الممتدة نحوه، ويوصل بصوته العذب صوت لبنان الشجي ومحبة أهله وأشواقهم.
وعندما أطل الشاعر محمد علي شمس الدين على المشهد الشعري العربي في السبعينات، وتحديداً عام 1973، واجه مشهداً شعرياً عربياً، يمور وتلتحم فيه العديد من الرؤى والأصوات الشعرية والمتعارضة. فقد كان صوت الجواهري حاضراً أبداً، وكانت الرومانسية اللبنانية ما زالت تضوع في تجارب جبران خليل جبران، وايليا أبي ماضي، والياس أبو شبكة، وعمر ابو ريشة، وميخائيل نعيمة، وغيرهم، كما كان صوت السياب ورموزه وأساطيره تطل في الكثير من تفاصيل هذه التجربة، كما كانت أصوات صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل، تعبر المسافات من أرض الكنانة الى شواطئ لبنان، وما زالت أصداء قصائد نازك الملائكة الأنثوية والرومانسية تتسلل برفق بين حشد الأصوات الذكورية العنيفة، وكان الشاعر جليل حاوي، بقامته الشعرية الشامخة، حاضراً بقوة في المشهد الشعري اللبناني والعربي، وشكل ثنائي قصيدة النثر ( أنسي الحاج) و(محمد الماغوط)، علامة مؤثرة مشعة، لكن صوت أدونيس في تلك الفترة كان هو الأقوى والاكثر جاذبية وتأثيراً، بين هذه الأصوات، لأنه ما زال يحمل حرارة المخاض الشعري الحداثي، ويفاجئ الشعراء والقراء، معاً بفضاءات شعرية لم تطأها أقدامهم من قبل. وكان لابد للشاعر ( محمد علي شمس الدين) شأنه شأن معظم شعراء جيله، أن يقع تحت تأثير أدونيس اولاً ويدخل تحت معطفه بعض الوقت،  كما تأثر وبدرجات متفاوتة  ببعض شعراء الحداثة العربية في الخمسينات والستينات، ففي قصيدة (أمي)  نسمع صوت ادونيس واضحاً:
"هو القلب أم حفنة من دخان القرى،
 قال لي صاحبي نشأنا معاً،
وضحكنا معاً،
وشربنا معاً".
أو كما في المقطع التالي من قصيدة (طلل) من ديوانه الاول" قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا" الصادر عام 1975:
"للنسر الجائع
للبلبل في المطر الوحشي
وللطفل المذبوح على عتبات النهر
لموسيقى الأفلاك
وللفوضى الكونية
أنزف من رئتي الشعر
وأرفعه كالجرح الشاخب في نافورة هذا العصر".
 
 لكنه سرعان ما نفض عن كاهله كل المعاطف الشعرية المختلفة، وانطلق ليعيد تشكيل تجربته وصوته وتأملاته بخصوصية تامة، فكان محمد علي شمس الدين الذي عرفناه ، شاعراً يعرف كيف يدخل قلوب قرائه وينتزعهم من غفوتهم، وهو يتمسك بالكثير من ثوابت القصيدة الغنائية.  كما ظل أميناً في الكثير من تجاربه لقصيدة الشطرين، أو القصيدة العمودية الحديثة، وهو ينهض بغنائيتها وايقاعيتها برومانسية عذبة ومتفائلة، وهو يحلق بجناحي التراث والحداثة معاً:
 
"طللٌ على جبلٍ، وكان غرابه
يبكي، فيضحك سقفه وترابه
عزفت علي الجن بعض غنائها
فتمازجت اعراسه وخرابه
ومشت عليه الريح مشية خائفٍ
فتخلعت من حسرةٍ أبوابه".
في شعره العمودي، حافظ الشاعر، الى درجة كبيرة، على قيم الموروث الشعري كالايقاع والتقفية واحياناً التطريب، ولكنه فعل ذلك بذائقة حداثية وعصرية.
 
. وتطورت تجربته نحو قصيدة التفعيلة أو قصيدة الشعر الحر، كما جرب قليلاً الكتابة بقصيدة النثر، وكان في كل ذلك، هو، هو، الشاعر الذي لا يُشَبه أحداً، فقصيدة "وجه ليلى" مثلاً إنموذج لقصيدة التفعيلة أو الشعر الحر التي كتبها الشاعر:
"هو العشق
ما تفعل الآن ليلى
أتنسى مواعيدها؟
بين وقع الخلاخيل 
هذا دمي غائراً في الخطى
شاحباً كارتحال اليمام".
في "قصائد قصيرة" اعتمد الشاعر على ضربات سريعة، مثل ضربات رسام محترف يرسم بالزيت: ففي قصيدة "أخاف" نقرأ:
"أخاف أن يكون قاتلي
بداخلي".
وفي قصائده سخرية سوداء لاذعة من رموز الاستبداد:
ملكٌ
"سلمه ابوه صولجان الملك ثم مات
لم يمت
فشعبه يموت دونه".
وفي قصيدة مماثلة هي "ملكٌ. ظلٌّ .":
"أشار نحو ظله
وقال آمراً:أنا الملك.
لكنه في الليل زال ملكه. "
وفي صورة ذاتية ، يقول
" رسمت وجهي من تراكم الثلوج فوقه
وساعدي من شقائق النعمانْ
وكلما إستطار بيرقٌ على حصانْ
حملت ريشتي
رسمتني كأنني اسير في الهواء
رسمت في الأثير فتنتي".
والشاعر هنا يرسم هذه " البورتريه" الشخصية من عناصر الطبيعة مثل تراكم الثلوج. وشقائق النعمان، والهواء وغيرها من مكونات الطبيعة اللبنانية الضاجة بالحياة وهو ما يجعل شعره يكتسب مسحة رعوية. 
وتدفع الغنائية الشاعر، أحياناً، الى لونٍ من الشعر الذاتي، بتطرف أحياناً نحو النرجسية. فالشاعر يبدو مفتوناً بذاته. فهو مركز الكون، وكل الأشياء تدور حوله، وهو يلعب أحياناً لعبة القرين من خلال المرأة ، عبر وجهين ،وليس عبر وجه واحد كما جرت العادة في تجارب الشعراء الآخرين:
" أطلقت صراخاً وحشياً
حتى تسمعه الأرض
فتسمعه أمي،
لكن البابْ
فهرعت الى المرأة
لأبصر آثار الخوفِ على وجهي
فوجدت بصفحتها وجهين
يقول الأول للثاني:
- من أنت؟
فيسأله
- من أنت؟"
وتجتاح الأسئلة قصائد الشاعر فتشتعل حرائق السؤال الوجودي عن الحياة والموت والحب والخلود والكون، ويظل طيلة حياته محاصراً بوجع الأسئلة. فها هي الأسئلة تتعالى في قصيدة " وجه ليلى":
"هو العشق
ما تفعل الآن ليلى ،
أتنسى مواعيدها ؟ "
الى أن تحتشد الأسئلة:
" فهل أبصرت عينيك الآن وجهاً لليلى
ومن أنت؟ من أنت ؟
آه؟"
وتلعب الصورة الشعرية دوراً كبيراً في رسم معالم التجربة الشعرية لدى الشاعر، وأساساً من خلال بنية المجازات الشعرية والاستعارة أو من خلال شعرية " الانزياح" Deviation عن القاعدة المعيارية . ففي " كاف التشبيه وأخواتها":
" مقابرٌ تنمو كفطر التلال
وعيناك فيها
كبدرين يرتجفان من شدة الخوف."
ونلمح هنا صوت السياب في" انشودة المطر":
"عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر."
وبهذه الحرارة ، تمنح اللغة الشعرية الطازجة قصائده عناصر الصدق والدهشة والمفاجاة:
" أنا من نام منطرحاً على عتبات جسمك في النخيل
ان الريح تنشرني هناك
أنقل خطوتي كالظل أو
كتقلب الإعصار،
ربما برقتْ لآلئ من حصى الأعماق في كفي كومض النار."
وفي شعر محمد علي شمس الدين يلتحم الكوني بالارضي وبالصوفي في موجة عشق تذكرنا بمحيي الدين بن عربي:
" أنظر
هل تبصر غير سحاب
يرحل خلف سحاب
حتى آخر أيام التكوين"
لكنه، يظل أساساً شاعر الأرض والمرأة والانسان والحب والثورة، وهو يفتح عوالمه على مدن خيالية، تنام عند ذرى أشجار الأرز، وسفوح جبل عامل و قريته الواعدة " بيت حانون".  ولأنه ابن الجبل وابن قريته الساحرة (بيت ياحون) في الجنوب اللبناني وتحديداً في جبل عامل، غنى للطبيعة، وارزها، واشجارها، ونسائها، كما غنى لخريفها وزيتونها وشتائها وفراشاتها.  وكان غناؤه يمتزج بمسحة صوفية شفيفة، وهو ابن تراث ديني إسلامي بوصفه من سلالة مراجع علمية مشهود لها بالمعرفة والثقافة، فقد كان في طفولته يستيقظ على صوت جده وهو يؤذن اذان الفجر. وعندما تعرضت شجرة الارز، والتراب الوطني اللبناني الى التهديد والتدنيس من قبل الكيان الصهيوني، انتفض بكل قوة وعنفوان ، بالشعر والكلمة والموقف المسؤول ليذود، مع شعراء وطنه، ومع شعراء العربية في كل مكان، عن حرية لبنان وترابه ويخلق مع أقرانه شعراء الجبل والجنوب اللبناني مدرسة خاصة في شعر المقاومة اللبناني ضمت شعراء أمثال حسن عبدالله، وشوقي بزيع، وإلياس لحود، وجودت فخر الدين وغيرهم، وهي مدرسة في شعر المقاومة  تقف جنباً الى جنب الى جوار شعر المقاومة الفلسطينية، كان لها الأثر في عضد النضال الوطني ضد الاحتلال الصهيوني، وفي التعبير عن موقف الشاعر اللبناني وهو يقاتل بالكلمة والفعل عدواناً غاشماً ضد الجمال والحياة والحب.
محمد علي شمس الدين، الشاعر والإنسان والموقف. لا يمكن أن يرحل بسهولة، فقد كان شاعراً معطاءً، وترك ارثاً شعرياً متنوعاً وغزيراً٠تمثل في عدد كبير من الدواوين الشعرية، فضلاً عن أعماله الشعرية الكاملة. ومن دواوينه الشعرية المهمة يمكن أن نشير الى دواوين "قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا" عام 1975و"غيمٌ لأحلام الملك المخلوع" عام1977 و"أناديك يا ملكي وحبيبي " عام1979و"أما آن للرقص أن ينتهي؟ عام" 1992 و"النازلون على الريح" عام2013و"شيرازيات" عام 2005و"عندما تهب العاصفة" عام 2010و"ينام على الشجر الأخضر الطير" عام2012، وغيرها. لذا فهو باق بيننا بصوته وروحه ومواقفه وصوفيته وانسانيته، يعانق بمحبة الاجيال القادمة.