
جيورجي جوسبودينوف
كان كاستور ب. ذاهبا ليموت. لقد عاش تسعة وسبعين عاما وثلاثة أشهر ولم يعد يرى معنى للإستمرار. لا توجد في قراره تراجيديا أو شفقة على النفس. توفي جده عن عمر ناهز تسعة وسبعين، وأبوه غادر الحياة أيضا قبل أن يدخل في الثمانين. وجد كاستور عمره جديرا بالإحترام، مدة حياة طبيعية لكائن بشري لم يعبث بجيناته. توجب عليه أن يقوم ببعض الترتيبات الشكلية. فكر بأن الموت يجعلنا منظمين فيما كان متوجها الى (المكتب المركزي للأمنيات الأخيرة) وهو القسم المختص بإنهاء الوجود الدنيوي. إن تعبير "الأمنيات الأخيرة" يبدو وكأنه "الطلب الأخير" في بار. فكر بمسحة من الحزن بأن الناس فيما مضى كانوا يستطيعون أن يستلقوا ويموتوا ببساطة، والآن حتى الموت جُعل رسميا. لا يزال لديه خمسة وخمسون عاما للعيش على الأرض، والتأمين على حياته حسب الأصول ومزود بضمان من الموت قبل عيد ميلاده المائة وخمسة وعشرين. ذلك هو الحد الرسمي الأعلى، مع ذلك، بشكل غير رسمي، توجد عموما شائعات كثيرة بأن أناسا مهمين ومصرفيين فضائيين أثرياء كانوا يشترون لأنفسهم أعمارا الى حد ثلاثمئة عام أو أكثر.
كان كاستور مؤهلا لرفض السنين الباقية من استحقاقه، وما عليه سوى أن يقدم طلبه شخصيا، ويؤكده بعد بضعة أشهر، وعندها يتلقى الموعد الدقيق لموته الذي اتخذت الترتيبات بشأنه. الآن مرت بالضبط ثلاثة أشهر منذ أن قدم طلبه الأول. إن الالتماس الوحيد الذي قدمه الى القسم هو أن يرسلوا لإبنه رسالة يُعلمونه فيها بقراره. قالوا له " هل لديك أقارب آخرين في مجرتنا؟ يمكننا أن نرسل اليهم رسائل أيضا، فتأمينك يغطيها كلها" أجاب " كلا، ليس لدي أي أقارب آخرين في... المجرة". إن اللغة شيء خطر. كل شخص كان يتكلم بهذه التعابير الكونية التي تجعله يصاب بالغثيان. إن معرفة كونك ليس لك أحد على الأرض شيء ومعرفة كونك وحيدا في المجرة بكاملها شيء آخر تماما. كان عليه تسجيل الرسالة بنفسه وقد تطلبت منه أقل من دقيقة. فكر في الكلمات مقدما وحتى قرر بأية نبرة ستكون، ومع ذلك فإن صوته الغادر ارتفع عند النهاية بالضبط: " أظن أنه الوقت المناسب. رجاء تعال لتودعني." لم تكن هناك حاجة الى رسالة طويلة. ساعدته الفتاة التي في المكتب في ملء الأوراق. كان موقع الإستقبال بعيدا جدا حتى بالنسبة لوسائط النقل الحديثة، ولم يكن يستطيع أبدا تذكر موقع المدار التابع للكوكب الذي ينسِّق له وقال بتعابير القرن الماضي: "بعيدا في وسط اللا مكان"، وهي صيغة ليست مفهومة حتى لفتاة صغيرة، فإبتسمت الفتاة بلطف وأجابت بأن النقل الأسرع سيتطلب حوالي أسبوعين للوصول الى العنوان. قال كاستور مبتسما: "كانت رسائل والدي تصل أسرع من ذلك. في الواقع خلال أسبوع أو نحو ذلك".
لقد خطط لكل شيء مقدما. ينقضي أسبوعان بما يسمونه التيلغرام أو أية تسمية أخرى لتصل الرسالة الى إبنه، وأسبوع يكون فيه إبنه غاضبا لأن أباه قد فقد عقله دون ريب، وأسبوع آخر يهدأ فيه ويبدأ بتردد، ثم القرار في الأسبوع الخامس، وأسبوعان آخران ليلتمس مغادرة طارئة ويرتب أموره قبل السفرة. ثم يصل الأرض، وسيكون قد انقضى شهر ونصف تقريبا. لكن انقضت الأشهر الثلاثة ولا يوجد ما يبشر بوصول ولده حتى الآن. كان كاستور ب. يدقق مع القسم يوميا في الأيام العديدة المنصرمة غير أن الموظفة المحبوبة لا تجيب حين يسألها سوى بهزة من كتفيها، كتفين بناتيين متعاطفين كما هما دائما.
اليوم هو آخر يوم لكاستور ب. تبقت لديه بضع ساعات أُخر ليتجول خلالها في شوارع المدينة. كان لا بد أن يكون الموسم ربيعا وفقا للتقويم، وفعلا، تغطت أشجار الكستناء مثل كعكات الكريم، وشجيرات السنط البيض تتمايل مع الريح، والخضرة غمرت الشوارع، ولكنه ليس شيئا ذا بال إزاء أوقات الربيع التي تذكَّرها، فمع أن الأزهار وفيرة إلا أنها بلا عطر. لا زال كاستور يتذكر كيف كانت رائحة الأشياء، وتذكر أيضا كل محاولاته الفاشلة لوصف عطر السنط لإبنه، المولود في عالم بلا عطور. لا توجد وسيلة، على كل حال، لوصف رائحة من دون مقارنتها بأخرى. نعم، السنط تبعث رائحة كرائحة الليلك، مع أنها أكثر رقة، غير أن الليلك لم تعد لها رائحة هي الأخرى، ولم يعد يوجد نحل يحوم حول الأزهار. لقد مضى زمن طويل منذ أن انقرض النحل البايولوجي. لقد بدأ يختفي اختفاء تكتنفه الأسرار منذ أربعين عاما. بعض الناس اعتقدوا بأن إرسالات خلايا التلفون أربكت وسائل تواصل النحل نفسها، وآخرون قالوا بأن السبب فيروس عدواني جديد. إن إنقراض النحل كان علامة أخرى على أن الأشياء لا تسير كما يرام. التكنولوجيا تتطور أسرع فأسرع، ولكنها لا تزال محدودة في وسائلها لترميم ما ألحقت به من ضرر، وإن المحاولات على صعيد التلقيح الصناعي العالمي الجديد، والتعديل الجيني لذباب المنزل في محاولة لتحويله الى أنواع جديدة من النحل، تتجه الى كارثة كلية، هي عبارة عن خلق صدوع جديدة في السلسلة. لقد أمضى كاستور ب. عمرا يحاول النضال ضد هذه المشاريع المجنونة في مرحلة مبكرة من شبابه. في بداية القرن بدأ يعمل في التلسكوب الأكبر في القرن والبالغ قطره إثنين وأربعين مترا، حتى أنه إكتشف في مكان قصي في الفضاء سنة 2011 الثقب الأسود الأصغر في الكون، والى وقت قريب إحتفظ بقصاصات الصحيفة التي تتحدث عن نجاحاته بكل عناوينها الرئيسية المثيرة. يوجد نوع من التهكم حول استخدام التلسكوب الأكبر في الإتحاد الأوربي لإكتشاف الثقب الأسود الأصغر. ثم قرر أن الوظيفة خالية من الأحداث المثيرة ومملة الى حد بعيد، فإنتمى الى مجموعة من العلماء الخضر. كانوا يحاولون إثبات أن الوقود الحيوي ليس بديلا عن مصدر الطاقة، وكانوا أول من أطلق تحذيرات بأن إنقراض النحل سيؤدي الى كارثة تعايشية، فلم يعرهم أحد إهتماما. كل شيء حوله أكد سلسلة حالات الفشل التي ميزت حياته. كان العالم يتطور في إتجاه نقيض لما أمل له. نظر الى الأعلى: حتى السماء تبدو جرحا خيط خياطة غير ملائمة بعد عملية جراحية.. البقع الصفر الهائلة نتجت عن محاولات فاشلة لرقع الثقوب في طبقات الأوزون بوساطة حقن جزيئات الكبريت في الغلاف الجوي الأعلى. تلك كانت آخر معركة خسرها، جهده الأخير لرفع السلاح، مثبتا أن طبقة الأوزون ستكون حتى أخف بعد هذه المعالجة. هو يعرف الآن أنه على صواب، وهذا جعله أكثر بؤسا.
لقد آن الأوان. بقيت لديه ثلاث ساعات أخرى فقط على الأرض، فإن كان سيكتب أية رسائل وداعية، عليه أن يكتبها الآن. طبعا، لا أحد كتب على ورق منذ سنين، وقد كانت بادرة ذكاء منه أن يحتفظ بقلم وإضمامة ورق غير مستعملة، فلقد إدخر عن قصد هذه المهمة، أو الشعيرة بالأحرى، حتى الدقيقة الأخيرة. لا يزال يأمل بإمكانية أن يصل إبنه. قرر أن يبدأ برسالة الى أبيه. لقد مضى على الوقت المناسب لتوديع أبيه توديعا لائقا أكثر من خمسين عاما. تردد كاستور بخصوص شكل الخطاب، ثم كتب "أبي.." أبهجه صوت خربشة الرصاص الثقيل على الورق، وفجأة انثالت الكلمات، كما لو كانت دائما بانتظار قلم رصاص وورقة لتنبثق. أخبر والده كيف تطور العالم وكم هو سعيد الحظ لأنه تدبر أمر تجنب رؤيته. لقد كان أبوه واحدا من آخر البستانيين الأصلاء، أحب التحدث مع الأشجار، وكان له نبرة واحدة مع شجرة التفاح وشجرة الكرز، ونبرة أخرى لشجرة الإجاص وشجرة الجوز، وكان يذهب الى خلايا النحل بلا قناع، بكل هدوء، ويتحدث مع نحله كذلك. ما يحدث الآن كان سيكون نهاية عالمه الشخصي. كتب كاستور ب. يقول: "لم أستطع إنقاذ الحديقة، والنحل ذهب، ولكن شجرة الجوز العجوز لا تزال حية". في الأخير كتب بأنه قرر، وهنا أمسك عن الكتابة طويلا من أجل الكلمة المناسبة، ثم كتب "... أن أذهب. كل شيء على ما يرام فلا تقلق. حتى إبني عاد. ليس مثلي أنا الذي لم أتدبر العودة من أجلك في ساعاتك الأخيرة. سامحني... إبنك المخلص لك. كاستور ب. س. قريبا سنتمكن من أن نلتقي على قدر ما نحب من الوقت، إلا إذا دمروا الآخرة أيضا".
شعر كاستور بالإرتياح فلقد أدرك بأنه قضى وقتا في كتابة هذه الرسالة أطول من أي وقت قضاه في التحدث مع أبيه عندما كان على قيد الحياة، أما رسالته الى إبنه فقد كان البدء بها أكثر صعوبة. حاول وحاول، مزق الورقة، ثم بدأها من جديد. لم يرد أن يكون فيها أي ألم أو حزن، وفي النهاية إستقر على التالي، مفاجئا حتى نفسه " بما أني فشلت في كل شيء حاولته أولعت في السنوات القليلة الماضية بالنظرية الجزيئية والهيولي. لاحظت الغيوم والأنهار، الأشجار ونباتات السرخس، ما دام يوجد منها ما يمكن رؤيته. أردت عبر علم هندسة الطبيعة أن أرى كيف أن القليل الذي نجا هنا على الأرض يمكن أن يتطور. أنت تعلم بأني عكسك لم أؤمن تماما بالفضاء، أو استعماره. إنه مجدب ومظلم وبارد، ولكن الأمر أصبح سواء هنا. ما نماه جدي وأبي في حديقتيهما- ما أحاول وصفه- ذهب الآن، وعلم هندسة الطبيعة لا معنى له من دونه. هذا قد يغضبك، ولكني لا زلت أرى أننا متهورون جدا في إندفاعنا الى الفضاء الخارجي. لسنا مهيئين تماما. في الماضي البعيد عندما كان البدو يجوبون الصحارى إعتادوا على أن يرتاحوا في أوقات متقاربة، ليس ليريحوا جمالهم فقط بل ليكون لأرواحهم الوقت لتلحق بهم، فسرعة الأرواح مختلفة، أنظر فقط كم من الأرواح الضائعة والمتأخرة التي فاتتها القافلة لا تزال تجوب في صحراء الفضاء. يمكنني سماعهم يبكون. أنا أستلقي على ظهري ليلا وأراقب القمر، حيث سأكون خلال بضع ساعات. أتدري ما هي مادة الفضاء الأساسية؟ من أي شيء صنع؟ لقد صنع من التوحد، والتوحد مادة طيارة، تتمدد لتملأ المنطقة حولها. جدي، جدك، عاش في بيت بناه بنفسه، وعمل في حديقته، وأبعد مكان ذهب اليه هو الغابة القريبة من قريته، وهكذا فتوحده بقدر بيته وحديقته الصغيرة. توحد أبي كان بحجم الشقة والمدينة التي انتقل اليها. كان جدي معتادا على القول بأن أبي "هرب" الى المدينة، ثم "هربت" أنا الى بلد آخر، والآن أنت نفسك هربت الى مكان ما في الفضاء. كنت أفكر الليلة كيف يبدو توحدك، هل له الأبعاد التي للكون نفسه؟ هل هو أخف وأكثر كثافة؟ ما هي كتلته؟ كيف تؤثر فيه الجاذبية؟ في الماضي كان التوحد عادة أكثر تركيزا، أصغر، يمكنك ترويضه، وتربت عليه كما تربت على قطة. أنا الآن أجد من المستحيل مجاراة أبعاده الكونية الجديدة. لن أستطيع الآن أن أنهي "بحثي في علم هندسة التوحد.. الجزيئي"، لا أستطيع أن أضعه في معادلة، لا أستطيع أن أحسبه وقد طعنت في السن الآن، تعرف، بدأت أشكو، متحولا الى أبي وجدي، وقد آن الأوان لأعود اليهما. لا تكره نفسك لأنك وصلت متأخرا جدا، سيكون كافيا بالنسبة لي أن أعرف أنك في طريقك. أوه.. قبل أن أنسى، عندما تأتي لتستلم هذه الرسائل من القسم أولِ اهتمامك الى الفتاة اللطيفة التي تسلمها اليك. تحدث اليها، أطلب منها أن تخرج معك لتشربا شيئا في ذكراي. نحن نعرف بعضنا بعضا، إنها شخصية طيبة مهذبة".
ربت كاستور ب. بيده على الورقة المكتوبة بدقة وطواها. لقد ودع كل الناس الذين يهتم لأمرهم في الكون. مشى الى المكتب وأودع الرسائل. كان يراقب الناس يتدفقون بالإتجاه المعاكس في أول المساء.. بعيدا عنه. مشى متخطيا بعض الأنجيلينا جولي والبراد بيت الذين بدأوا يشيخون، سريعا وبشكل يتعذر إصلاحه، نسخ رخيصة، ربما نسخ مقرصنة من خلايا ثنائيات كبرت لتغازل نزوات آخرين. والآن حكم عليهم طوال حياتهم أن يرتدوا هذه الأجساد التي بطلت موضتها منذ سنوات. شكرا لله لأن الفتاة التي في القسم تشبه نفسها. قبل أن يدخل، وقف كاستور ب. خارجا لبعض الوقت، يراقب من طرف عينه كبسولة الفضاء المنفردة التي ستأخذه قريبا الى المقبرة الجديدة على القمر. فيما كانت تأخذ رسائل التوديع منه عانقته الفتاة فجأة للحظة. كان ذلك التصرف منها مخالف للقوانين بالتأكيد. قال محاولا عدم الإنفجار باكيا كالطفل "قطعا سيأتي في يوم ما، لقد آن الأوان". قالت الفتاة "أعرف". بدأ الغسق يحل وأخذ اللمعان الفسفوري، الذي عرفه كاستور ب. منذ أن كان طفلا، يدنو أكثر فأكثر، وإستحال كل شيء الى قمر.
-
جورجي جوسبودينوف روائي وقاص وشاعر وكاتب سيناريو ومسرحيات بلغاري. فازت روايته الأولى بالجائزة الوطنية وعرف عالميا بروايته (رواية طبيعية)، كما فازت (فيزياء الحزن) بثلاث جوائز. ولد سنة 1968 ويقيم في صوفيا.
-
جودت جالي مترجم عراقي له العديد من الكتب المترجمة.