أيلول/سبتمبر 12
   
 
التراث: كل ما هو من الماضي، وهو ما خلفه الأجداد للأحفاد إرثاً، جعلهم على ما هم عليه خلقاً وتكويناً وتطلعات. فهو بالتالي، عادات وتقاليد، وقيم وأحداث، وهو المكتوب والمنقول، والمتداول، ويشمل ما سجل من الأدب والفكر والثقافات، على إنه ذو أهمية خاصة، لأنه يؤلف النواة الصلبة لمعرفة الماضي، والتفاعل معه... والمهم في نظر بعض الباحثين، إن التاريخ هو استمرارية محدودة أو منقطعة. أما التراث فهو استمرارية غير منقطعة، وهذا هو الاختلاف بين التاريخ والتراث. والاستمرارية هنا لا تعني الجمود، والدوران في حلقة مفرغة، بل هي استمرارية متحولة ومتغيرة في شكلها من عصر الى آخر.
ولهذا فإن متابعتنا التراثية لموضوع الوعي العقلي والفكري-التنويري، تعني بأن هذا الوعي كان وما يزال أداة للتطور والتقدم، وبناء الحضارات البشرية منذ فجر التاريخ وحتى الآن.
وقد كانت مصادر الباحثين والدارسين لمتابعة معرفة الوعي البشري، وخاصة الوعي الديني، هي القصص والاساطير والملاحم- وتحديداً-ما عثر عليها في بلاد ما بين النهرين، وحضاراتها القديمة، السومرية والآشورية والبابلية.
ويمكن الإشارة هنا الى أن (منذر الحايك) في مقدمة كتابه (الفكر الديني في الملاحم الرافدية) عدّ الأفكار الدينية، التي توصل اليها الانسان جاءت بعد انتقاله من حياة الجماعة الى حياة المجتمع، ويقول، إن الانسان راح يخضع لطقوس الطبيعة، ويتودد لها بتقديم القرابين، التي غدت حصة مشروعة لتلك القوى الطبيعية، التي تساهم في تنمية المحصول الزراعي والإنتاج الحيواني، حيث بدأ مفهوم الإله بالتطور، واكتسبت قوى الطبيعة صفات القوة والمجد، وأحيطت بهالات من القداسة، حتى اكتملت بها فكرة الإله المستحق للعبادة وللأضحيات.
إن هذا الوعي المتنامي لدى البشر في ثقافة الديانات الأولى، قد نشأ وتطور في بلاد الرافدين، إذ أن ثقافة الوعي الديني، التي جسدتها الملاحم والأساطير والقصص في انطلاقتها الأولى من بلاد الرافدين، كانت الحجر الأساس المتين، الذي بنيت عليه كل الثقافات العالمية الأخرى، حيث تمخضت عنها حضارة عظيمة، تجلت بمعطياتها في الطب والهندسة والفلك والرياضيات والقانون والآداب والفنون والفلسفة، حضارة خلقتها مآثرهم العظيمة، وتراثهم العلمي الخالد، الذي ما يزال أثره شاهداً على بناته في بلاد الرافدين من سومريين وبابليين وآشوريين وغيرهم.
وهكذا استطاعت مصادرنا اليوم، التي هي نتاجاتهم في تلك العصور القديمة والسحيقة من التاريخ البشري أن تكون سجلات إبداعية لخيال مبدعي ذلك التاريخ، إذ أنها كانت وما زالت تشكل مصادر أساسية لدراسة احداث ووقائع تلك العصور، وأن تكشف تلك المصادر من الملاحم والاساطير والقصص والمسرحيات تسلسل الاحداث، وتنامي الوعي الإنساني المكتشف، والمتطلع الى الأمام تحت تأثير تصاعد حركة الإنارات العقلية، التي وجهت العقل البشري باتجاهين:
 
الأول: ديني - ثقافي
الثاني: تنظيمي -قانوني، يخص حياة البشر، وخاصة في بلاد وادي الرافدين بعد أن تحولت البشرية من نظام الجماعات الى المجتمعات وأصبح هناك (بيت الإله) أو (المعبد المقدس) والى جانبه (القصر الملكي) وغالباً ما تكون الهيمنة والسطوة للقصر، ويكون (المعبد المقدس) تابعاً، (كما يقول منذر الحايك).
ومع طبيعة البشرية الطموحة نحو المعرفة والتطور استمرت حركة (الوعي الاجتماعي-الديني) وكذلك الوعي بتنظيم الحياة، لينتج هذا الطموح البشري، المملكات والإمبراطوريات الكبيرة، ولينتج أيضاً ثلاث ديانات سماوية - توحيدية، هي اليهودية والمسيحية والإسلامية، إذ تتكئ هذه الديانات على ثلاثة محددات أو مشتركات أساسية تجمع بينها، وهي:
1- المتكأ الأول: إن الله واحد لا شريك له.
2- المتكأ الثاني: الاعتراف بالأنبياء الثلاثة.
3- المتكأ الثالث: الإيمان باليوم الآخر بعد الممات.
وقد استغرقت هذه التحولات البشرية في وعيها ما يقارب السبعة آلاف سنة، وانتجت مئات الديانات، وشهدت إقامة الإمبراطوريات والمملكات، وظهور الأنبياء، والملوك والحكام، والحكماء، الذين كان ينظر الى بعضهم كآلهة، أو أنصاف آلهة، وانبياء لعصورهم وإمبراطورياتهم، وتحولت العلاقة بين الإله والبشر من خدمة الإلهة في العصور القديمة الى عبادة الإله بعد الديانات السماوية الثلاث.
 
مبادئ الوعي الديني والعقلي في جزيرة العرب
إذا ما تركنا متابعة تطور الوعي الديني عند بناة الحضارات القديمة في التاريخ البشري، وخاصة عند شعوب بلاد ما بين النهرين، الذي وصل الينا وتعرفنا عليه عن طريق تراثهم الإبداعي في مختلف المجالات العقلية والفكرية والفنية، وخاصة مدوناتهم في مجال الأسطورة والملحمة والقصة، أو مجال المسرحيات وتحولنا الى بيئتنا العربية، وخاصة في الجزيرة العربية، الواقعة - وقتذاك- ما بين امبراطوريتين كبيرتين، هما الإمبراطورية الساسانية (الفارسية) جنوباً، والامبراطورية البيزنطية (الرومانية) شمالاً، وقبل ما يقرب الالفي عام، وايضاً من خلال ما تركوا من تراث ابداعي، وخاصة في مجال الشعر، فإننا سنجد، ومن خلال دراستنا للشعر، والتاريخ القديم، وخاصة الدراسات، التي اعتمدت المنهج العلمي في التراث، وكذلك دراسات بعض المستشرقين وتحديداً الروس، بأن الشعر فعلاً يعد هو المصدر الأساس، الذي يسلط الضوء على حياة المجتمع العربي، وعلى تفكيره العقلي في العصر الجاهلي، وخاصة الحقبة الزمنية، التي سبقت الدعوة الإسلامية بـ(150) عاماً، وهذا ما يخالف الرأي، الذي اعلنه (طه حسين) في النصف الأول من القرن العشرين، والقائل بأن الشعر في العصر الجاهلي، هو شعر (منتحل)، وهو ايضاً يخالف الحقيقة والواقع، اللذين كشفهما الشعر بواقعية تجسيدية لما كان شائعاً ومعروفاً في زمانه ومكانه. فالشعر الجاهلي كشف - حقاً-  طبيعة الحياة الاجتماعية، والعقلية، والثقافية السائدة –وقتذاك- والمعتمدة -اصلاً- على العادات والتقاليد، التي تعتمد عليها القبيلة، كقوانين لإدارة شؤون الحياة وتنظيم علاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وما يسودها من ظلم وقساوة، وعبودية، ومن ظروف حياتية قاهرة، الأمر الذي يؤكد أن الشعر الجاهلي، هو حقيقة راسخة، أمدَّنا بمصادر موثوقة للدراسة.
فما تعرضت له الشريحة الاجتماعية الواسعة، التي أطلق عليها (الصعاليك) وهي شريحة من أبناء وبنات (الاماء) السود، إذ أن الأب (الرجل) الذي يتزوج من امرأتين، إحداهما عربية، والثانية حبشية، أو غير حبشية، لكنها (أمة) أي عبدة سوداء، فإن الأب يعترف بأبوته لأبن الأولى، وينسبه اليه، والى العشيرة. أما الأبن الآخر، ابن السوداء، فلا يعترف بأبوته له، ولا ينسبه اليه، ولا الى عشيرته، ولا يشركه في الغزوات، وليس له حصة من الغنائم، بل يسندون اليه مهمة تنظيف البيوت، ورعي الابل أو الأغنام.
وهناك شواهد كثيرة على ذلك حتى من خارج دائرة (الصعاليك) كطرفة بن العبد، وعنترة بن شداد، وقد تعاطف معهم الكثير، حتى ممن لم ينتم الى شريحتهم الاجتماعية، كالشاعر عروة بن الورد، وغيره الكثير، وجمهرة كبيرة من الشعراء المهمشين والمطاردين، وإن كانوا غير منتمين الى هذه الحركة، التي أطلق على شعرائها تسمية (الصعاليك) أي الفقراء. وكان في مقدمة هؤلاء الشعراء، الشنفرى والسليك بن السلكة، وعمر بن براق، وتأبط شراً و(عروة بن الورد) الذي لم يكن فقيراً ولا من أغربة العرب ولكنه انضم الى هذا التمرد، والثورة ضد الظلم، الذي قاده الواعون ومن راح يفكر بعقله لتفسير أسباب هذا التمييز، والظلم، والقمع والجوع، الذي يمارس بحق هؤلاء الفقراء، الذين يطلق عليهم الصعاليك.
وقد كانت حركة الصعاليك التمردية في العصر الجاهلي، التي مثلتها جماعات أو مجموعات بشرية - عربية احتقرها المجتمع، وهمشتها القبيلة، فعاشوا على هامشها، وانضوى تحت لوائها فئات كثيرة من المجتمع غير متجانسة يجمعها الفقر والتهميش والنظرة الدونية من قبل القبائل العربية.
وكان الشنفرى، صاحب قصيدة (لامية العرب) الشهيرة، أبرز هؤلاء الصعاليك المتمردين. وهذا التمرد لا يخص الصعاليك وحدهم، بل انضمت اليهم فئات واسعة ومتنوعة من المجتمع القبلي، يجمعها ظلم قوانين القبيلة وتقاليدها، وصرخات الجوع، وآهات التمييز العنصري.
وحين راح الصعاليك ومن انضم اليهم يفكرون بعقولهم، ويميزون بين الظالم والمظلوم، والمستعبِد والمستعبَد، أعلنوا هبات التمرد على القبيلة وقوانينها الجائرة، واهمالها وعدم مراعاتها النظرة العادلة بين افرادها. وسواء أكان الصعلوك شاعراً أم غير شاعر، خليعاً أو منبوذاً لسواد بشرته، فإنه يجد نفسه غريباً، ووحيداً في مواجهة ظلم القبيلة، محروماً من عطفها وحدبها، ورعايتها، وليس له من يرد عنه غائلة الجوع، والتهميش والاحتقار. وهذا هو في اعتقادي اول صراع عربي في الجزيرة في العصر الجاهلي يمكن أن يطلق عليه، بأنه صراع طبقي انتجه الشعور والاحساس العقلي بهذا التمييز الطبقي القائم على العنصرية والتمييز العنصري بين ما يطلق عليهم بأغربة العرب الفقراء وبين أبناء القبيلة وشيوخها الأغنياء.
وحين انسلخ الصعاليك عن العصبية القبلية، حرموا من (امتيازاتها) إذ أن العصبية القبلية كانت ضمانة لكل فرد من افرادها، لذلك نشأت بين الصعاليك رابطة عصبية من نوع آخر، رابطة تضامنية ببعدها الإنساني، رابطة تدعو لمساندة المظلومين بعضهم للبعض الآخر، رابطة أشبه برابطة النقابات والاتحادات في العصر الحديث فقد كان الصعلوك يعطف على رفاقه ويساعدهم، مخاطراً بنفسه في سبيل انقاذ حياتهم.
 
لامية العرب: البيان السياسي والعقلي الاول
لامية العرب، قصيدة الشنفرى الشهيرة، هي المصدر الأكثر مصداقية وواقعية وهي المرجع العقلي في التفكير، وهي الوثيقة الرسمية التي وثقت لنا طبيعة الحياة الاجتماعية وقوانينها، ونظمها السائدة -آنذاك- وقساوة هذه النظم، ولا عدالتها، وهمجيتها في الظلم والقمع، وحكمها على شرائح اجتماعية واسعة بالموت جوعاً، وقد كانت حقاً المصدر الأوثق، الذي يمكن الاعتماد عليه، والركون اليه. وبالتالي، هي قصيدة تشكل مصدراً لمعرفة حياة الأقدمين، كما كشفت لنا المصادر الأسطورية والملحمية والقصصية والمسرحية طبيعة الحياة البشرية، وما انتجته من حضارات، قبل آلاف السنين.
قصيدة (لامية العرب) التي أطلق عليها المستشرقون (انشودة الصحراء) هي بمثابة صرخة ضد الظلم، وضد التجويع والتهميش. وقد حملت القصيدة دراسة سوسيولوجية لطبيعة هذا المجتمع المقموع في عصر تميز بالجاهلية الإنسانية، وهي أن القصيدة عبارة عن بيان سياسي، يحمل وعياً متقدماً، ذا بعد عقلي وفكري، يتحدث فيه صاحبه عن حرية الانسان، وحرية الرأي، وحرية اختيار طبيعة الحياة، التي يريد، وحرية العقل الإنساني الفعال في توجيه حياة الناس نحو الصواب، ومساعدتهم على التفكير بالكيفية، التي يمكن أن تحافظ على حياتهم في عز وكرامة، وتحفظ لهم آدميتهم.
وفي استعراضنا للامية العرب، بأبياتها الثمانية والستين وجدنا لزاماً علينا، أن نتوقف عند بعض القضايا الكبرى، التي تثيرها أسئلة القصيدة في واقعها التاريخي (العصر الجاهلي).
فما أثاره البيتان، اللذان سنذكرهما لاحقاً، ينبغي التوقف عندهما ملياً، لنتأمل طبيعة التفكير والوعي، الذي أثار مثل هذه القضايا الاجتماعية والسياسية والعقلية في عصر عرف بأنه عصر جاهلي:
وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـم عَنِ الأَذَى     وَفِيهَا  لِمَنْ  خَافَ  القِلَـى  مُتَعَـزَّلُ
لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على امْرِىءٍ      سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ
منذ مطلع القصيدة يتبين لنا إن الشاعر (الصعلوك) قد كشف لنا بواقعيته التلقائية، إنه لم يكن وحيداً في ساحة الدفاع عن النفس، وعن بحثه عن الحقوق الإنسانية، بل هو قائد لهذا التيار الشعبي المتمرد، وإنه شاعر تجاوز المألوف والسائد من اشعار تلك الحقبة الزمنية القاسية، وثقافة مثقفيها في عصر يُعَدُّ جاهلياً بلا وعي ولا ثقافة.
ففي البيتين الآنفي الذكر نلتقي بقضيتين مهمتين:
الأولى: اسلوبا الترهيب والترغيب، اللذان يمارسهما أصحاب السلطة والنفوذ مع كل من يخالف ارادتهم الجائرة، التي يفرضها رؤساء القبائل والمتنفذون على مرؤوسيهم، وهما اسلوبان مورسا في العصر الحديث من قبل سلطات الاستبداد والقمع مع كل من يعارض سلطاتها.
فالشنفرى يذكرنا بالأساليب، التي مارستها معه ومع (بني أمه) – كما يقول- السلطة القبلية الاستبدادية، وقوانينها الجائرة، الأمر الذي يحتم عليه أن يبحث عن طرق أخرى يستطيع من خلالها أن يحافظ على حياته، ويدافع عن حقوقه، وكانت اسهل هذه الطرق، طريق الهروب، واللجوء الى المنافي البعيدة الآمنة.
وكانت هذه المنافي في ذلك الوقت، هي الصحراء الواسعة، ومجتمعها الحيواني المتوحش، الذي فضله على غيره، وقد سبقه اليها، الشاعر طرفة بن العبد، وهو ليس من أبناء حركة الصعاليك، لكنه وقع عليه ذات الظلم، بسبب مولده من أم حبشية (أمة سوداء) أي عبدة.
والقضية الثانية: هي قضية (العقل) حسب قوله، (وَهْوَ يَعْقِـلُ) فقضية العقل، هي قضية جدلية ظلت تنمو وتتفاعل منذ القدم وحتى يومنا هذا رغم تدخل الديانات في الغائها، كما أنها أصبحت مثار جدل في أوروبا في عصور التنوير، وحتى هذه اللحظة، وقضية العقل، هي تعبير عن ثقافة الشاعر، وغيره من شعراء عصره، وموقفهم من العقل، وحريته في التفكير، واتخاذ القرارات استجابة لحرية الرأي، واحترام العقل البشري، الذي تعرض للإلغاء من قبل الكثير من السلفيين في الأديان السماوية، ومن قبل السلفيين الإسلاميين المتشددين منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري على يد (الجبريين) وموقفهم الرافض للعقل البشري، ولأصحاب حرية الرأي والتفكير العقلي، أي للعقلانيين (وهؤلاء هم القدريون) وهذا يعني أن مثقفي ما قبل السلفيين الإسلاميين، هم أكثر وعياً، وأكثر احتراماً للعقل، وأهميته في حياة الانسان. وكان الشنفرى المثال، الذي ينبغي أن يحتذى به عربياً في عصره الجاهلي.
وفي بيتين شكلا مطلع القصيدة، نجد أن الشاعر يفتتح بهما قصيدته الشهيرة:
أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ         فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ  لَأَمْيَـلُ
فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْـلُ مُقْمِـرٌ    وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ مَطَايَـا وَأرْحُلُ
يتحدث فيهما وما في بعدهما عن مجتمع الحيوانات في الصحراء، واعتبر ذلك المجتمع بأنه هو (الأصل) أو الأهل أو الرهط، ثلاث قراءات لهذه المفردة، والشاعر لم يصل الى هذا التصور بوسائله ومصادره العلمية، بل من خلال خياله الشعري، ومن خلال تجربة العيش في الصحراء، فهو يقول:
هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ           لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ  يُخْـذَلُ
إذن، هو اختار جنساً آخر بدلاً من أبناء جنسه وجلدته أبناء البشر، الذين ينتمي اليهم، إذ أن الفته للأرض، التي اختارها، وما فيها من اجناس حيوانية، متوحشة، وغير متوحشة أو أليفة، ليست الفة محبة واختيار حقيقي، لكنها الفة بقرار اضطراري، خوفاً ممن حوله، وهي الفة فيها عنت ومشقة، ولكنه يُصبِّر نفسه عليها.
ومطلع البيت الآنف الذكر (هم الأهل، أو الأصل أو الرهط) يحمل دلالات عميقة ما زالت تثير جدلاً حول من (هو الأصل) قضية يدخل العلم طرفاً أساسياً فيها، إذ أن هؤلاء (الأهل) الذين يشكلون مجتمعاً آخر يختلف عن مجتمع الجنس البشري قد كانوا وما زالوا هم الأصل، وهم الأهل الجدد، الذين سيعيش معهم، وهؤلاء لا يذيعون في الناس ما يستودع لديهم من اسرار – كما فعل أبناء جلدة طرفة بن العبد، الذين لجأ اليهم لطلب الحماية عند المناذرة - الذين وشوا به عند مليكهم فأعدمه وقتله أبشع قتلة – وهؤلاء كما يقول الشنفرى لا يخذلون اللائذ، أو العائذ بهم، وإن كان ذا جرائر، وهو يرى بأنه ليس عبئاً عليهم، ولا على صحبته معهم، وهو ليس بالذي يستغل منها شمائلها التي يحبها.
وعلى هذا الأساس يظل الشعر، هو المصدر الأوثق لطبيعة الحياة الاجتماعية، وبناها الفوقية، الأمر الذي جعل المستشرق الروسي (اغناطيوس كراتشكوفسكي) يرفض جميع الافتراضات، التي تشكك بصحة انتساب هذا الشعر الى عصره ومجتمعه الجاهلي، والى بيئته الأولى: "لفقدان البراهين القاطعة على الشك به، كمصدر تاريخي لدراسة عصر ما قبل الإسلام". (وهذا ما أكده الشهيد حسين مروة - في النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية، ص181).
ومن المفيد الإشارة هنا الى أن مصادر دراسة الحياة الاجتماعية والعقلية والثقافية، التي تؤكد أن الشعر الجاهلي، يشكل مصدراً ووعياً ثقافياً متقدماً، وخلفية عقلية لمعرفة ما يعتمل في حياة المجتمع من صراعات لحقوق الانسان في واقعة التاريخي - آنذاك – وهي تشكل ايضاً مستوى من الادراك العقلي والثقافي غير المنظم، وغير المعبَّر عنه اجتماعياً، سوى من نافذة ضيقة، ألا وهي نافذة قصيدة الشعر.
لقد تعرضت قضية (العقل) على يد بعض فقهاء الدين – إن لم نقل جميعهم – في النصف الثاني من القرن الأول الهجري الى هجمة تكفيرية شرسة، عندما اعتمد هؤلاء على المنقول واهملوا المعقول، فقد حرموا الجدل وحرموا الشك وحرموا المنطق وحرموا الفلسفة وحرموا العلوم الطبيعية وعملوا جاهدين على فصل الدين عن العقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه المقالة تعد تطويرا بالشكل والمضمون لمقالة كان الكاتب قد نشرها في جريدة (طريق الشعب) العدد 132 في شباط 2020.
د.صبيح الجابر: ناقد أكاديمي عراقي