
الفنان الأول، صانع الأدوات المفيدة والأشكال الطوطمية البدائية، الساحر والعرّاف، قارئ مواقع النجوم والكواكب، كان يجمع في عطفيه كُلاً من طبيب الجماعة وشاعرها وزعيمها الروحي أيضاً؛ لذا فأنه في تلك المرحلة التاريخية الغابرة، يمكن أن يتحول إلى كاهن، إلى رئيس، إلى حاكم فعلي ينظم أمور الجماعة (الوحدة الاجتماعية أو القبيلة.. الخ) ويعبر عن وعيها وأهدافها. وقد كانت تلك الموهبة والمؤهلات تخوله مثل هذه القيادة والريادة.
وقد عبّر (هِرْمَن هِيسّه) عن هذا المعنى في كرياته الزجاجية حين كتب قصة (صانع المطر)، وفيها إشارة واضحة - من سطرها الأول - إلى أن الأمر قد حدث قبل آلاف السنين "في وقت كانت السيادة فيه للنساء"، بل وتشير القصة إلى أن بطله صانع المطر، أو المتحكم بالطقس، قد عاش في فترة سبقت ظهور الاديان(1). حيث كان يسعى إلى إخضاع القوى الجبارة ومظاهر الطبيعة الخارقة عن إرادته وإرادة "المجموعة" أو القبيلة أو الوحدة الاجتماعية. وأنه كان مستعداً للتضحية بنفسه إذا لم تستجب تلك القوى الخارقة لتوسلاته وابتهالاته وأدوات صنعته ذات الطابع السحري والطقوس الجماعية التي يُسيّرها ويتحكم بها، مستخدماً جوقة الأناشيد والموسيقى والرقص.
وعلى الرغم من أنّ (هيسّه) لم يثبت مصادر بحثه أو دراسته للأمور التي استند إليها في خلق قصة (صانع المطر)، لكن مجمل ما في صفحات وسطور القصة يوحي بالرصانة العلمية وعمق وشمولية المعرفة. بل أستطيع القول إنه أمر لا يوصف هذا الذي يمزج (هيسّه) فيه الأدب بالتاريخ، أو بجزء قديم جداً من التاريخ، وأعني به تاريخ تكوّن الأسطورة وبدايات الوعي الإنساني والاتجاه نحو تكوين أفكار فلسفية وشبه دينية (خاصة التضحية بصانع المطر/ المناخ) كعقيدة وكوسيلة لطرد الشياطين والضّر الذي يمس حياة الناس جراء تقلبات الطقس، ولجلب الخير لهم ممثلاً بسقوط المطر واعتدال المناخ. ولا أبالغ إذا ما قلت إنني لم أقرأ في حياتي نصاً أدبياً أو سرداً فيه كل هذه الأفكار العميقة والتأملات، فضلاً عن الغور في أعماق التاريخ وتقاليد الشعوب، مع احتفاظ النص بروحه الأدبية المشوقة الممتعة كما لو أنّ (هيسه) يزاوج ويماهي بين الاثنين: الأدب والفكر، مزاوجة إيجابية خلاّقة قلّ نظيرها في العالم!
المراحل الأولى لتشكّل الفنون
من الفنانين الأُول كان من ينظم الأغاني المنغمة (الإيقاعية) التي تُستخدم في الصيد وفي الطقوس الطوطمية والسحرية ذات الرهبة العالية، تلك الطقوس التي ستتحول لاحقاً إلى اعتقاد وعقيدة، ثم إلى أساطير ميثولوجيه ودين. وتتوسع دائرة المقدس/ الديني لتتلقف كل الأساطير القديمة، المتداخلة من حيث المتن (المُعطى) ومن حيث المنطق والشكل الخارجي؛ وهذا ما يفسر تكرارها عند كل الشعوب مثل أسطورة تغيير الفصول وصراع الخير والشر أو النور ضد الظلام "هابيل وقابيل"، والتي سيتفرع عنها ما هو مناقض للموت والرغبة في حياة دائمة خالدة كما صورتها الملحمة المدونة جلجامش "هو الذي رأى"، ناهيك عن مئات الملاحم التي سبقتها في عصور ما قبل الكتابة والتدوين، كان للفنانين الأوائل دور عظيم في عملية خلقها وصياغتها بأشكال مختلفة ومنوعة!
كل هذا بالطبع قبل أن ينقسم المجتمع إلى طبقات؛ أما في مرحلة لاحقة فإنّ الفنان قام بدور المُنظّم والعاكس لأيديولوجية طبقته، والتي هي غالباً ما تكون أيديولوجية الطبقة الحاكمة لارتباطه الحتمي والضروري بهذه الطبقة صاحبة الإمكانات والامتيازات والوسائل التي تخلق وتشجع وتخلد الفن والأدب كجزء من حاجتها إلى دعم حقها المطلق أو الإلهي في الحكم والسيادة ليس على صعيد القوة المادية فقط، بل وعلى صعيد القوة الروحية متمثلة بالفنون والملاحم وكل ألوان إبداعات تلك الأزمنة التي أخذت بعداً عملياً وتاريخياً عن طريق خطوة الوصول إلى مرحلة الكتابة والتدوين.
وفي مثل تلك الأزمنة والمراحل التاريخية تصير العبادات الأولى (ومنها عبادة الأسلاف والأشكال الطوطمية المختلفة) بمنزلة البذور الأولى لتشكيلات دينية أرضية الطابع وذات أبعاد واقعية يبدأ الحكام في عملية إسباغ هوية وصيغة القداسة عليها لأنها ستصبح المبرر الأساس لواقعية تحكمهم وتسلطهم بوصفهم آلهة أو أشباه وأنصاف آلهة، أو على الأقل مخولين للتحكم في الأرض والعباد من قبل الآلهة المزعومة، وهذا هو الشكل الجنيني الأول لظهور أشكال مختلفة مما يمكن تسميته بالعقيدة أو الأيديولوجيا ضمن مرحلة تاريخية محددة.
وهنا من الضروري اعادة التذكير بما كنا قد أشرنا إليه سابقا من أن الأساطير أو الأفكار الميثولوجية للشعوب عامة كانت قد تشكلت ضمن مرحلة (الوحدة الاجتماعية الأولى للقبيلة - أي قبل الانقسامات الطبقية) وقبل مراحل مديدة/ طويلة من تشكّل الأديان؛ إذ أن الأديان ماهي إلا استعارات متطورة ومتنوعة من تلك الأفكار الأسطورية الميثولوجية بعد أن تحولت إلى أمور مقدسة. حيث إنّ الدين بكل أنواعه وصوره (الأرضي أو السمائي) هو سبل وطرائق تقديس تلك الأفكار، يتحول تدريجياً إلى طقوس وممارسات وعبادات لها أول وليس لها آخر كما يقال في بعض التعبيرات الأدبية البلاغية!
وقد عبرت الصروح الحجرية الشاخصة والشاهقة - في مصر وبلاد ما بين النهرين وغيرهما - عن ذلك الحق وتلك القوة على نحو من الأنحاء، أي طرحت الصيغة الأيديولوجية والتبريرات العقائدية لكل ما سيطلق ماركس عليه لاحقاً اسم (البنية الفوقية)؛ إذ اختلطت تلك الصروح الحجرية والطينية العملاقة - وكل الفنون والملاحم والمنشآت والقوانين ومظاهر البنية الفوقية - بالعقائد الروحية والدينية والأساطير، أي اختلط ما هو دنيوي ومادي واقعي ملموس بالتراث غير المادي لتلك الشعوب بما يشبه البوتقة التي لا انفصال في مكوناتها وجوانبها لتعيش وتتعايش بهذه الصورة، وعلى هذا الشكل، لأطول فترة ممكنة في الحياة حتى بتنا اليوم نجد آثارها شاخصة وملموسة في المجتمعات المنغلقة البائسة فيما يسمى بدول العالم الثالث المتخلف على الرغم من كل التغييرات والتطورات التي شهدتها الكرة الأرضية منذ مراحل عصر التنوير وحتى الساعة!
إنّ الصروح الفنية بكل ألوانها وأشكالها، وكذلك أحجامها مهما صغرت أو كبرت، فهي بقدر ما كانت تعبر عن حاجة نفعية عملانية فإنها في الوقت ذاته تعبر عن مرحلة حياتية ذات أبعاد رمزية كما أسلفنا من قبل؛ ولذلك ستظل هذه الرمزية ترافق حياة الإنسان من البداية إلى النهاية.
ولا بد أن تمركز السلطة بيد الحاكم المستبد قد حوّل كل شيء، بما في ذلك الفنون الجميلة بكل أطيافها، إلى جزء من العقيدة. العقيدة التي أصبحت تأخذ طابعا دينياً مقدساً، وكل ما يناقض هذه " العقيدة المقدسة "، أو لا يتطابق معها، يصبح ثانوياً أو مهملاً إن لم أقل مُحارَباً!
بالطبع ثمة آراء تنبع من مُثّل/أفكار إنسانية نبيلة تشير إلى أن تلك الصروح العملاقة والتي تعبر عن فن وهندسة معمارية عظيمة (مثل الأهرامات والمعابد والجنائن المعلقة ..الخ) كانت قد بنيت بطرق استخدام سيّاط السخرة والاستغلال الطبقي (عرق وجهد الفقراء والعبيد)، لكننا لن نقف طويلا عند تلك الأفكار والمثل الإنسانية النبيلة في هذه السطور؛ ليس بسبب قِدم تلك الوقائع الاجتماعية والتاريخية فقط وإنما نحن في سبيل تقديم صورة بانارومية عامة لما أسميناه بالمراحل الأولى لتشكّلْ الفنون وتطورها حسب التطورات الاجتماعية والتاريخية وعلاقتها بالمنظومة الاقتصادية السياسية من جهة وتطور علاقات الانتاج من جهة ثانية. في حين سيتم تركيزنا لاحقا على الأشكال والأساليب السياسية والأيديولوجية في مراحل الاحتدام الطبقي لاسيما خلال فترة سيادة الطبقة البرجوازية وظهور الوجه البشع للرأسمالية كنمط انتاج وحياة وأنظمة وقوانين وأخلاق وعلاقات اجتماعية .. الخ.
إنّ التبدل العظيم في بنية المجتمع، وتفكك ما أسميناه بالوحدة الاجتماعية في مراحل التاريخ البشري القديمة، سيؤثر كثيرا على النظرة إلى الفن وإلى الفنان الذي ستتراجع مرتبته في التسلسل التراتبي للناس المقربين من "الحاكم المستبد"، والذي أصبح يأخذ سلطته من الآلهة السماوية وليس من الشعب بعد أن سيطرت الروح الكونية الغيبية (ما وراء الواقع الحسي المنظور) على كل ما تحدثنا عنه من دور للفن والفنان في رؤية واقعية أو نظرة عملية بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الوجود وضمن "وحدته الاجتماعية". ومن هذا المنطلق تصير المسافة بين الوزير الأول لما أسميناه بالحاكم المستبد مطلق الصلاحية - أو قائد قواته الحربية - هي غير المسافة مع الفنان مهما كان ملهماً أو مبدعاً أو حتى خاضعاً لأوامر تلك السلطة المركزية الاستبدادية المطلقة. ولعل هذه الصورة غير الإيجابية كانت تظهر أولاً في عصور وممالك شرقية موغلة في القِدم والعتمة، ولا توجد مصادر كافية لدراستها.
دور الفن في التعبير عن طبيعة العلاقات الاجتماعية
تتسم الفنون في بداية نشوئها وتشكلها كصور تعبيرية بالنفعية الاجتماعية، أو بالصفة ذات الطابع الجمعي خاصة في مرحلة العيش المشاع؛ وذلك عن طريق توظيف الفن في عمليات الصيد والحث على إنجاز الأعمال ذات الطبيعة الجماعية، فضلاً عن تأدية وظيفة في العبادات والطقوس الطوطمية - وما سيليها من عبادات مختلفة - وكذلك في السحر والكهانة لحين الوصول إلى عمليات التحنيط، وكل ما هو مادي ونفعي ملموس بما في ذلك تقوية أواصر العلاقات في النواة المجتمعية (الوحدة الاجتماعية) قبل ظهور القبائل القوية، ثم القبائل المتحاربة مع ما رافقها من أسر وسبي كأساس أولي لنظام العبودية بشكله البدائي البسيط. أي أننا نتحدث عن وظائف نفعية يقوم بها الفن قبل أن يسود مجتمع الملكية الخاصة، مع ارتباط هذه الوظائف بالنمط الإنتاجي بشكله البدائي البسيط المتدرج من مجتمعات القطف والصيد إلى مجتمعات شبه زراعية، وبداية نشوء القرى والنواة الأساسية التي تدفع المجتمع إلى التطور، ثم نشوء المدن الصغيرة وما يرافقها من تطورات في البنية الاجتماعية وعلاقات الإنتاج.
وكلما اتجه المجتمع نحو إقامة علاقات تتصف بالملكية الخاصة سيتغير وضع الفن ويوظف بما يلائم طبيعة التغيير في نمط الإنتاج، وبالتالي في العلاقات الاجتماعية؛ إذ يصير الرقص على سبيل المثال في حالة نشوء المعابد الكبيرة وهيمنة أسطورة الآلهة المتعددة وظاهرة (راقصات أو غانيات المعبد) هو غيره أثناء الطقوس البدائية الطوطمية في ظل نمط العيش المشاع، فضلاً عن حاجة الفنان الراقص للتعبير عن ذاته أكثر من التعبير عن الوحدة الاجتماعية ووحدة القبيلة. وكذا الحال فإن أغاني الصيادين والعاملين كفريق عمل واحد هي غير الأغاني في الكورال المسرحي أو الجنائزي أو الكنسي.. الخ.
ويمكن أن ينسحب مثل هذا المثل على وظائف أخرى للفنون مثل النحت والرسم والشعر والملاحم وغيرها من الفنون. أي أنّ كل تبدل في نمط وعلائق الإنتاج، وطبيعة الوحدات والعلاقات المجتمعية، سيتبعه تبدل في نوعية وظائف الفنون على اختلاف ضروبها.
من هذا المنطلق سادت الأشكال المطابقة للطبيعة ذات السمة الواقعية الكلاسيكية في الفنون لأطول فترات في التاريخ؛ لأن الحياة الاقتصادية في المجتمعات القديمة لم تشهد ثورة جذرية عاصفة كما حصل عند نهوض وسيادة الطبقة البرجوازية التي أطلقت العنان للنزعة الفردية لتعبر عن ذاتها بالطريقة التي تريد؛ ما سبب ظهور مدارس مختلفة، منوعة ومتضاربة، في شتى ألوان الفنون والآداب ومجمل ما أطلق عليه ماركس والماركسيون اسم (البنية الفوقية).
ومن المهام الأساسية للفنون ليس التعبير عن الواقع فقط، بل محاولة الفنانين تغيير ذلك الواقع ومحاولة إعادة تشكيله من جديد ضمن الرؤية التي يطرحها الفنان عن طريق عملياته الإبداعية من جهة ومن خلال التزامه بقضايا عصره؛ ولذلك فإن أغلب الفنانين هم في الواقع سياسيون -وباستمرار تقريباً- ويقفون في صف اليسار والطبقات المسحوقة، ولعل في مفهوم المفكر الايطالي انطونيو غرامشي المتمثل بما أسماه بالمثقف العضوي خير تجسيد لهذه الحقيقة.
هل معنى هذا أن واحداً من أهم أدوار الفن وإحدى مهام الفنان المبدع والإنسان هو الخروج من ذاتيته، وحصن أناه، إلى أحضان ورؤى وهموم وإشكالات الناس الآخرين؟! هل الفن هو شكل من أشكال المرآة الملونة والمتغيّرة حسب تغيّر وتبدل الظروف والأماكن والأزمان، وحسب تبدل وتغيّر قوى وأنظمة الإنتاج والعلاقات الإنتاجية والبشرية؟! شكل من أشكال الحياة الواقعية ورغبة في تجاوزها لما هو أفضل؟!
ربما نعم؛ لأنّ الثقافة الماركسية تُركز على جوانب كهذه كونها مرتبطة بحياة الناس والمجتمع، وبشكل أدق ترتبط بالطبقة العاملة التي تريد لها مكاناً تحت وهج شمس التاريخ، تريد لها دوراً على نحو من الأنحاء، وتريد أن تشارك الفلاحين الذين لا يملكون غير قوة عملهم، وكذا الحال بالنسبة للكسبة والمعدمين والمهمشين والطامحين في سعيهم الدؤوب من أجل حياة أفضل.
هناك عشرات من الأسئلة التي يطرحها (أرنست فيشر899 –1972) حول وظيفة الفن في الفصل الأول من كتابه الذي يؤكد على (ضرورة الفن) في كل الأزمنة والأوقات. أسئلة قابلة للمناقشة والاختلاف، لكنها تظل ضمن الإطار والرؤية الماركسية لهذه القضية الجوهرية(2).
تراكم الثروة وتطور الفنون والملاحم
بعد التراكم الأولي للثروة العامة بيد حفنة من الحكام نتيجة لانتقال المجتمع من النمط الإنتاجي البدائي إلى النمط الأكثر تطوراً: الزراعة، وتدجين الحيوانات واستغلال مواردها، وظهور آلات زراعية بسيطة، وتنظيم الري وبناء السدود، وظهور التجارة وبعض الحرف اليدوية.. الخ. ونتيجة لوجود فائض عمل مُنتج بسيط ناجم عن بدايات استغلال تكوّن طبقة العبيد كأسرى حروب، فإن هذه الطبقة الجديدة قد كرست بعضاً من وقتها الفائض وثرواتها المتراكمة لتنمية وتطوير الفنون والآداب للتعبير عن عظمتها وهيمنتها اللامحدودة على شؤون الدنيا والدين والمجتمع في آن واحد!
من كل ذلك التراكم للثروة، وهيمنة السلطة ومركزيتها، تحققت معجزة الأهرامات الخالدة والجنائن المعلقة والمعابد والقصور والأعمال التكوينية الفنية الرائعة في كل من مصر وبابل، وغيرها من الأقطار والأمصار، وخلقت هذه الطبقة حولها هالة من الأساطير الأدبية والفنية التي تمجدها في حياة الدنيا والحياة الأخرى اللاحقة على حدّ سواء. فعرف العالم لأول مرة شعر الملاحم الذي يستمد منابعه ومواده من حياة ومغامرات أولئك الحكام الأوتوقراطيين الكبار: كَلكَامش، الفرعون، الملك، أنصاف الآلهة. شعر الملاحم الذي سيغدو على مراحل وحقب التاريخ اللاحقة وسيلة بيد الشعراء للتكسب وحرفة ذات قيمة عالية حين تكون لصالح الشعب (والوطن)، وتهبط قيمتها كلما أصبحت لصالح الحكام الأوتوقراطيين والمستبدين. وهكذا تحولت بالتدريج قصور ومعابد الحكام إلى مسرح عظيم تُقام فيه الحفلات الرسمية والدينية، وترتل فيه الابتهالات والأناشيد مصحوبة بأصداء الموسيقى وبحركات الفنانين الممثلين(3).
بيد أن هذا الانعطاف التاريخي في حركة المجتمع والفن قد ترك أثره الكبير على شخصية الفنان ومنزلته الاجتماعية. فكلما اقتربنا من المراحل التاريخية اللاحقة نجد أن شأن الفنان قلّ واضمحل إلى درجة التلاشي؛ فحيثما تقوى قبضة السلطة الطبقية الحاكمة يتحول الفن إلى أداة وسلعة معروضة للبيع (الطلب والاستهلاك) وتستمد قوة عمل الفنان قيمتها عن طريق مقياس نقدي (كذا!!). ولذا فإن الفنان في العصر العبودي (حكم الأسرات المصرية على وجه الخصوص) أصبح من نكرات المجتمع، وكانت تأتي مكانته أدنى بكثير من مكانة الكاتب الرسمي أو مجرد العامل في الحقول -كما لاحظ كل من فنكلشتين وهاوزر- ولا تظهر شخصيته بعمله الفني أبداً؛ وذلك نتيجة لانقسام المجتمع طبقياً من جهة، وانقسام العمل الإنساني إلى يدوي وفكري واحتقار الطبقات الغنية للعمل اليدوي من جهة ثانية. إضافة إلى رغبة رؤساء الهرم السلطوي في توظيف كل شيء لصالحهم الخاص، وبمعنى أدق تحويل مُنتَج الفنان إلى مجرد شيء لصالح الحاكم المستبد.
فن الحضارة وحضارة الفن
أما في العصر الإغريقي، الذي يمكن عدّه حديثاً بالنسبة للعصور الموغلة في القِدم، فقد أدى التراكم الأولي للثروة الاجتماعية نتيجة فائض العمل الناجم عن سخرة العبيد وتنامي التجارة وظهور مكننة بسيطة في الميدان الزراعي خاصة وزيادة الأعمال الحرفية، وتقسيم العمل، وظهور حالة التخصص في التنظيمات الإدارية والفكرية، وسيادة الجو شبه الديمقراطي آنذاك.. الخ، أدى كل ذلك إلى تطور زاهر في الحضارة عامة والآداب والفنون خاصة، وأتاح للفرد إمكانات جديدة للتطور والإبداع الخلاق. فعرف التاريخ للمرة الأولى مثلاً الملاحم الهومرية في الشعر، كما عرف تراجيديا (أسخيلوس) العظيمة، وكوميديا (لوسين) الساخرة، وتماثيل (فيداس) الرائعة، وأفكار (سقراط)، أرسطو، أفلاطون... الخ.
وقد عَبّرَ الفن الإغريقي عن " ذلك الطابع البدائي للمجتمع" الذي ترعرع فيه هذا الفن، فكانت مواده الأولية هي الميثولوجيا والأساطير اليونانية التي تحاول أن تسيطر على الطبيعة وتخضع قواها العاتية في الوهم، بإعادة صياغة الواقع خيالياً.. ولذلك فإن الفن الإغريقي قد استغل الصياغة اللاشعورية للطبيعة وللأشكال الاجتماعية نفسها من زاوية الخيال الشعبي، على حد تعبير ماركس(4). حيث أطلق خيال الإنسان أطلاقاً كليّاً نحو المجهول ونحو صياغة بناء الواقع وما ينبغي أن يكون عليه ميثولوجياً.
ولذلك فقد تحول الأبطال الأسطوريون، الذين هم غالباً ما يكونون ملوكاً ونبلاء ارستقراطيين، مثل أجاممنون، هرقل، أخيل، يولسيس ..الخ، إلى آلهة أو أبناء آلهة، وهذه الأخيرة بدورها قد أصبحت أكثر التصاقاً بالإنسان وقبولاً لمواصفاته العامة، فهي تنزل على الأرض وتتجسد بكيان بشري، وتمارس الفعاليات والعواطف الإنسانية كالحب والبغض والخيانة والإغواء والانتقام ..الخ.
إنّ هذا الجو الأسطوري الساحر الخلاب هو الذي بث في روح الفن الإغريقي كل هذه المتعة الحسية والذهنية الخصبة التي نعيشها في لحظات مشاهدتنا أو قراءتنا لآياته الفاخرة العظيمة. وغالباً ما تُمارس طفولة الإنسان التاريخية سحرها على أرواحنا فتعترينا الرغبة الجامحة في العودة إلى ذلك الفردوس المفقود، إلى تلك الفترة التي بلغت فيها الإنسانية "أوج تفتحها"، لاسيّما أن تلك الفترة التاريخية لم تصل إلى مرحلة تطورنا الاقتصادي والحضاري الراهن. وهذا هو سرّ عظمة وشموخ ذلك الصرح الفني العظيم في المرحلة الإغريقية الزاهرة، والذي هو بمنزلة نتاج للطابع البدائي للمجتمع أو "نتاج الشروط الاجتماعية التي لم تنضج نضجاً كافياً، والتي ولد فيها هذا الفن، والتي فيها فقط كان يمكن أن يولد" كما عبّر ماركس وأوضح هذا الأمر في الصفحات الأخيرة من كتابه (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي).
الفن مصدر للمتعة الجمالية
في قراءة ثانية وجديدة لكتاب (ضرورة الفن) وجدنا أن (فيشر) يعيد النتائج التي كان قد توصّل إليها كُتّاب ماركسيون من أمثال طومسن و فريفل، مرتكزاً على النص الذي ورد في نهاية كتاب ماركس (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)، ونستعير هذا النص كاملاً من كتاب (ضرورة الفن) قبل مناقشة أفكار فيشر حول الفن الإغريقي:
"ليست هناك صعوبة في إدراك أن الفن الإغريقي والملاحم إنما ترتبط بأشكال محددة من أشكال التطور الاجتماعي. ولكن الصعب حقاً هو تحديد السبب الذي يجعل من ذلك الفن مصدراً للمتعة الجمالية حتى اليوم، بل ويجعله من بعض الوجوه معياراً ونموذجاً يصعب الوصول إليه ... لماذا لا يكون للطفولة الاجتماعية للإنسانية، الطفولة التي حققت فيها أجمل تطوراتها، سحرها الخالد بوصفها عصراً مضى ولن يعود؟ هناك أطفال يسبقون عمرهم وأطفال يتأخرون عنه. وكثير من الشعوب القديمة تنتمي إلى الطائفة الأولى. أما الإغريق فكانوا أطفالاً أسوياء. وسحر فنهم لا يتعارض مع الطابع البدائي للنظام الاجتماعي الذي نشأ منه هذا الفن، بل هو بالأحرى نتيجة له وراجع إلى أن الظروف الاجتماعية غير الناضجة التي نشأ في ظلها -ولم يكن يمكن أن ينشأ إلا في ظلها – هذه الظروف لا يمكن أن تعود "(2).
وعلى الرغم من أن فيشر يشك في حقيقة أن الإغريق القدامى يمكن أن يُعتبروا "أطفالاً أسوياء" إذا ما قورّنوا بالشعوب الأخرى، مستنداً إلى الكشوفات الأركيولوجية والأتنولوجية والثقافية، لكنه في التحليل الأخير يقول إن الشيء الجوهري الذي أضافه ماركس أنه رأى في الفن الذي أنتجه مجتمع من المجتمعات، في مرحلة مختلفة من مراحل تطوره " لحظة من لحظات الإنسانية "، وأدرك أنه في هذا يكمن سرّ قدرته على التأثير في فترات أبعد من اللحظة التاريخية التي نشأ فيها، وبذلك كان له سحره الدائم ..."(2).
بالطبع لم يكن ماركس غير عالم من علماء الاقتصاد وصاحب نظرية إنسانية اشتراكية تحاول تفسير التاريخ، وتستنبط القوانين الاقتصادية والاجتماعية لصنع مستقبل البشرية. وحسب ما ذكره معظم كُتّابْ سيرته فإنه كان يقرأ الأدب ويهتم بالفن عندما ينتهي من عمله الأساس الذي يُفرّغْ له معظم وقته، وكامل طاقته، ولم يسع من كتاباته وتعليقاته ذات الطابع الفني والأدبي إلى صياغة نظرية محددة في هذا الشأن، كما هو الحال في علم الاقتصاد والتاريخ والسياسة والمجتمع وآفاق المستقبل. غير أن النص الذي تساءل فيه ماركس عن السرّ وراء انبهارنا وإعادة قراءتنا واهتمامنا بالنِّتاج الإغريقي ما يزال مطروحاً حتى هذه اللحظة؛ لأنه يحمل دلالة نفسية تتوقف عند ما يمكن أن نسميه اليوم رغبة الإنسان في الاحتفاظ بالجانب الطفولي من روحه، أو بالعودة إلى الجانب الإيجابي من (الفردوس المفقود)، لاسيّما أن مرور الزمن يُنسيه المصاعب والآلام التي يمكن أن يكون قد مرّ بها في ماضيه، فلا يتبقى غير الطعم الحلو من ذلك الماضي. بل إن بعض علماء النفس يُغّالون في التعبير عن رغبة الكثير من الناس في العودة إلى الحضن الأمومي الدافئ الرحيم، حتى وإن كبروا وصاروا خبراءً في الحياة!
من هذا المنطق علينا أن نفهم التصوّر الماركسي الصحيح والسليم للعلاقة بين نمط الإنتاج وقوى وعلاقات الإنتاج، وإن هذه العلاقة ليست ميكانيكية ومادية محضة؛ ولذلك فقد أشار ماركس إلى وجود حالات اختلال يمكن أن ينشأ ما بين البنية التحتية والفوقية في بعض مراحل التاريخ. وهذا ما يفسر تساؤل ماركس عن السر وراء متعة نلمسها اليوم من " فن وأدب " كانا مقياساً ونموذجاً طيباً رغم كل التحولات المادية التاريخية، واختلاف العصور. ولعل هذا الفهم الصحيح للرؤية الماركسية يمكنه أن يلغي كل النقودات والآراء السلبية التي قيلت في الماركسية، لأسباب سياسية وطبقية.
هوليود والحكايات الاغريقية
اليوم، ومن هذا المنطلق، تستطيع صناعة السينما الهوليودية أن تسحر الملايين من البشر -ولا أشط وأقول المليارات- بإعادة إنتاجها وإعادة صياغتها لأفلام تنهل من الأدب والفن الإغريقيين، وخاصة حكايات (هوميروس). وكلنا يعلم كم هو عالم سحري أن تنزل فيه الآلهة من جبل الأولمبياد لتصفّ مع أناسٍ ضدّ أناس، وتعمل المقالب، أو أن تغار وتحقد وتحسّد، وتأخذ كامل الصفات الإنسانية – ناهيك عن قصص آلهات الحب والغرام والصبايا الحسان من أمثال (هيلين) وعشقها لباريس أحد أبطال مدينة طروادة، المدينة التي اقتحمت بطريقة أسطورية ساحرة ماكرة؟!
وقبل أن تُخلق ما يسمى الواقعية السحرية أو الغرائبية، في أدب أمريكا اللاتينية -قبل ماركيز وإيزابيل ألليندي- وقبل أن يتسابق الناشرون لنشر كتب (باولو كويهلو) بوصفه مبدع رواية (الخيميائي)، التي هي شكل من أشكال الرؤية الفلسفية للعالم والحياة عن طريق عين طفولية. قبل كل هذا كانت (ألف ليلة وليلة) الشهيرة. وقبل أن نُعجّبْ بقصة تشيخوف (كآبة)؛ لأنّ بطلها الحوذي لم يجد غير حصانه ليبوح له بآلامه، ثم يقلده (جنكيز أيتماتوف) في رواية (وداعاً يا غولساري)، فإنّ الكثير من أدب الشعوب قد أنسن الحيوانات وجعلها تتكلم بلسان البشر كما فعل (ابن المقفع) في (كليلة ودمنة)، وكما أبدع لنا لاحقاً (هانز أندرسن) قصصه البديعة الرائعة، ثم (سانت أوكزوبري) في (الأمير الصغير) المدهش!
وقد مرّ عليّ يوماً كلام (ماركيز) في أحد لقاءاته مع الصحفيين حين قال ما معناه إنّ سرّ الواقعية السحرية موجود في طبيعة رؤية الشرقيين لأمور الحياة، بما فيهم الناس في أمريكا اللاتينية؛ أي أن حياتهم مزدوجة ويتعايش فيها الواقع مع الخيال بشكل سلس وطبيعي.
هذا هو الجانب النفسي في الإنسان، الذي لا يمكن أن يخضع لقوانين اقتصادية أو اجتماعية محضة. ولأن جوهر الماركسية يكمن في رؤيتها الديالكتيكية لتغيير الواقع وتحوله من حالٍ إلى حال، وإمكانية تحوله؛ بل وجوب تغييره، فإنها لا تؤمن بما هو مطلق وثابت ومقدس، وتتيح لمفكريها الاجتهاد والتأمل والرفض والذهاب إلى أبعد من (واقعية بلا ضفاف).
إن روائع الفن والأدب الإغريقي كانت تعبر، على نحو من الأنحاء، عن الأمن الجماعي في الوحدات الاجتماعية شبه المتجانسة من الناحية الاقتصادية قبل ظهور التناقضات الطبقية الحادة في المجتمع العبودي لاحقاً. أي هي جزء من استقرار المجتمع قبل تحوله إلى مجتمع طبقي؛ ولذلك سيظل حنين الفنان إلى الماضي (العصر الذهبي-الفردوس المفقود-وحدة الجماعة) مُستعراً وقوياً حتى الساعة على الرغم من تبدل ذلك الحنين إلى ما يشبه القضية الفردية في الحنين إلى الرحم الأمومي الدافئ، إلى حالة السكون المطلق- بل ربما سيدفع هذا الأمر لأن يستخدم الفنان المأزوم المخدرات لعدم قدرته على مواجهة ضغوطات الواقع المرة والمريرة!
هل معنى هذا أن الأدب والفن - بالمعنى الذهبي- يتجسدان حصراً في عهد الإغريق، أو في الفن والأدب الإغريقيين فقط، كما تمسك بعض المثقفين والمفسرين والشُّرّاح العرب بنظرية الشعر التقليدي الموزون (ذو التفعيلة) بأعلام وانجازات الشعراء الأوّل من العرب، ولم يقبلوا بالتجديد والتحديث؟!
لابد أنّ في دواخل معظم الناس رغبة عميقة للمحافظة وعدم التغيير، كما توجد الرغبة الثورية التجاوزية غير التقليدية عند بعضهم الآخر من الناس حتى وإن كانوا قلّة. وإذا كانت المصادر التي استند عليها الكاتب الاشتراكي (محمد مفيد الشوباشي) صحيحة وسليمة يكون الفيلسوف الألماني (هيغل) قد زعم إن العصر الذهبي للأدب انقضى بانقضاء عهد الإغريق، وإن الفن لم يعد يشبع حاجات الروح التي حاولت الشعوب القديمة تحقيقها، ووجدت بغيتها في رحابه، حيث أدى الفن الإغريقي رسالته في عصره السعيد؛ وبالتالي يرى (هيغل) بأنّ الفن كان شيئاً متعلقاً في نظره بالماضي. ويضيف الكاتب (محمد مفيد الشوباشي) إلى سطوره ما يلي:" يبدو أن مذهب (عمانوئيل كانت) الجمالي هو الذي أشعل إعجاب هيجل بالأدب والفن الإغريقيين، وجعله يبيّن رأيه فيهما على أساس اتصافهما بالصفات الأربع التي اشترط (عمانؤيل كانت) توفرها في الجمال الخالد، وهي بعده عن أي غرض أو هدف، وعالميته وخلوده واستئثاره بالرضا التام العام"(5).
بالطبع إن الأدب والفن كإبداع بشري لا يمكن أن يكونا قوالب خالدة أو مقدسات لا يمكن تجاوزهما، مهما ارتقيا أو صعدا إلى سماء المجد والخلود والعظمة؛ لأنهما -مثلهما مثل أي نشاط بشري- لا يعبران إلاّ عن مرحلة تاريخية محددة، ولا يجسدان غير طابع النظام الاجتماعي الذي أتاح لهما الظهور والتداول والنجاح. وبهذا المعنى فإنّ مجرى نهر الحياة دافق بألوان التجديد والتغيير في كل مناحي الإبداع الإنساني، ولابد من تجاوز نظريات بالية كهذه حتى وإن وجد بين ظهرانينا من يروّج لها ويتساوق معها بلغة عصرية مخاتلة خدّاعة!
الفرق بين "السحر" وما هما ساحر أو سحري
ولأن الأمر مهم في طريقة تناولنا لقضية السحر كتكنولوجيا بدائية أو إجراء عملي لتحقيق أهداف روحية وذهنية يؤمن بها الإنسان، حتى وإن كانت أسطورية الطابع، فإنني أعيد التأكيد على الفارق الكبير بين السحر كفعل وعمل (الشخص الساحر) وما درج عليه الكثير من الكُتّاب ونقاد الفن والأدب في وصف كل ما هو جميل بالساحر والسحري؛ ولنا اليوم في مصطلح "الواقعية السحرية " خير دليل على هذا الخلط أو الخطأ الشائع كما يقال. إذ أن المصطلح الدقيق لمثل هذه الأعمال السردية البديعة هو "الواقعية الغرائبية" وليس الواقعية السحرية كما هو شائع؛ لأن المصطلح غير دقيق ليس بسبب التناقض بين مفهوم " الواقعية " ومفهوم " السحريّة " فقط، بل لأنّ العناصر الأخرى المكونة للجانب غير الواقعي في مجمل هذه السرديات يشكل كتلة عظيمة في جوهر البنية السردية. فعلى الرغم من وجود الجانب الواقعي بقوة في هذه السرديات، غير أن جانب الخيال والغرائبية الذي يميّز هذا الجنس الروائي ويعطيه سمات تجعله مختلفاً عن بقية الإبداعات السردية هو الأعظم والأهم أو ما يمكن تسميته بالعنصر الفعّال والغالب.
إذن، تمثل هذه الطريقة أو الأسلوب في الكتابة -أو ما يمكن تسميته مجازاً بالأداة الأدبية- خليطاً غير متجانس من الواقع (خاصة الجانب السوسيولوجي والتاريخي من المفهوم) ومن الخيال والأحلام والخرافات والأساطير الشعبية والفولكلور وبعض أساليب الفن البدائي، وكذلك عناصر الدهشة والإبهار وغرائب الأمور التي ذكرها (غابرييل غارسيا ماركيز) في رواية (مئة عام من العزلة) أو غيرها من أعماله السردية، وهذا ما ينطبق أيضاً على حكايات (إيزابيل أللندي) في بيت الأشباح وسواها من أعمال سردية. وكل ما هو مؤثر في النفس البشرية، إلى الدرجة التي تمتد بها هذه الطريقة إلى جذور من الرومانسية والرغبة في استعادة ماضٍ زائل لا يمكن أن يُستعاد، أو الفردوس المفقود الذي يحيلنا إلى ما كان يُعرّف بالوحدة الاجتماعية المتطابقة مع الطبيعة. مع استعارات من السريالية -في الفنون التشكيلية خاصة -، بل إنّ تجمع عناصر ووحدات هذه التعددية في المنابع والمصادر التي تستقي منها هذه الأداة الأسلوبية تعطيها طابع الشعرية بالمعنى الحديث للمصطلح؛ ولذلك فربما اختار نحاتو المصطلح الأوائل والمترجمون صفة "السحرية" بالمعنى المجازي الذي يدل على ما هو بديع وخلاب وساحر وممتع وليس بالمعنى الدقيق لكلمة "سحر" الذي هو عالم إجرائي قائم بذاته كما أوضحنا في ثنايا بحثنا هذا، خاصة عندما تناولنا بالدراسة موضوع اهتمام ماركس بالجانب الطفولي والسحري في آداب وفنون الإغريق القدماء ومنهم (هوميروس) على وجه التحديد.
وعلى الرغم من أن هذه الأسلوبية "الغرائبية" ظهرت في أعمال سردية كثيرة وتنقلت ما بين كُتّاب اسبان وكتاب يكتبون بالإسبانية (أدباء أمريكا اللاتينية خاصة)، حتى وصلت أصداؤها إلى جميع السرديات العالمية، وقلّدها كُتّاب عرب ..الخ، فإنها أصبحت "حقاً طابعاً شخصيّاً، لشخص واحد هو غابرييل غارسيا ماركيز" كما عَبّرَ عن هذا الأمر (وندي بي فارس)(6).
مؤيد جواد الطلال: كاتب عراقي مستقل مقيم في سورية
المصادر
- هِرْمَن هِيسّه: لعبة الكريات الزجاجية ( ص 429 ) – ترجمة وتقديم د. مصطفى ماهر / دار الكاتب العربي – القاهرة 1969م.
- أرنست فيشر ، ضرورة الفن – طبعة اتحاد الكُتّاب العرب في دمشق – كتاب الجيب الشهري رقم ( 109 ) في عام 2016 – ترجمة أسعد حليم، وهي طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ذاتها الصادرة في عام 1971م، وستكون اقتباساتنا اللاحقة جميعها من هذه الطبعة.
- سدني فنكلشتين: الواقعية في الفن - ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد.
- جون فريفل: الأدب والفن في ضوء الواقعية الاشتراكية – ترجمة محمد مفيد الشوباشي / دار الفكر العربي – مصر.
- محمد مفيد الشوباشي: الأدب الثوري عبر التاريخ ( صفحة 60)– طبعة اتحاد الكتاب العرب في دمشق – كانون الأول 2014 / سلسلة كتاب الجيب، هدية مع مجلة الموقف الأدبي.
- مجلة آفاق أدبية: مقالة (وندي بي فارس)،مقالة النقد الثقافي للواقعية السحرية، ترجمة فضيلة يزل، العدد الثالث، بغداد 2014م