
بالنسبة للثقافية، فما بين الثلاثينيات والستينيات، كان الرسم الحديث وحركات التجديد في الشعر والراوية ضمن حيوية اليسار الامريكي، المؤسسة الأمريكية، أو الرسميين الأمريكان، كانت تزدري هكذا رسوم وهكذا كتابات. ثم انتبهوا إلى أن أولئك الفنانين والكتاب لهم جماهيرهم، وكتاباتهم ولوحاتهم تبشر بفكر لا يرضيهم ويسهمون اسهاماً واضحاً في منح اليسار حضوراً شعبياً واسعاً وأهمية ثقافية. هم يمتلكون ويوظفون مزايا الثقافة الجديدة والحداثة في الفنون.
هذا الادراك بدأ واضحاً في 1947 واستمر مما نبه الرسميين الثقافيين في الحكومة الأمريكية إلى ضرورة عمل ضخم ومهم لايقاف ربح الخصوم وايقاف تقدم اليسار فلا يتقدم. بل ان يطرح اسلحته. فصار القرار الرسمي بتأسيس المتحف الوطني ليستقبل، بعد أن كانوا يزدرون، ضمن ما يستقبل الرسامين الحداثويين والواقعيين اليساريين والتجريبيين، فهم في هذا المتحف، الرسمي، يعرضون لوحاتهم مجاناً وتتاح لهم فرص اكثر لبيع لوحاتهم وباثمان أفضل. تلك كانت خطوة أولى وكانت مهمة. الخطوة الثانية كانت الشروع بتأسيس فرع "امريكي" من المنظمة الدولية لحرية الثقافة باسم اللجنة الأمريكية للثقافة والتي أعلن عن اكتمال انشائها في 1951 وكان سيدني هوك الذي يعمل مع C.I.A كمستشار متعاقد، يعمل ويديرها بحماسة. المدير التنفيذي ارتنج كريستول – الذي حلّ محله من بعد وصول ستالين وجاء تعيينه مباشرة من هيئة استعلامات الولايات المتحدة – وقد كان يعمل في وحدة خاصة بالتحليلات الايديولويجة.
واضح من اسم هذه اللجنة ان كلمة حرية – في الاسم- عدائية باعتبار غياب الحرية في الاتحاد السوفيتي.. المهم ان مبالغ طائلة وضعت في خدمة هذه المنظمة اسهم فيها كل من C.I.A والملياردير جنكي وتبرعات هوليوود والخارجية الامريكية ومؤسسة فارفيلد. وكان اللولب وسكرتير المنظمة هو الامريكي روسي الاصل نابوكوف وهو المعتمد الأول في التفاهم مع الشعراء والكتاب ومع الموسيقيين لأنه كان روائياً وموسيقياً.
كانت مراكز قيادة معاداة الستالينية الاحترافية هي: اللجنة الامريكية لحرية الثقافة والمجلات، التي محرروها اعضاء في مجالس ادارتها هي تحديداCommentary, New Leader, Partisan Review رئيس تحريرها إليون كوهن مستشار مؤسسة لوس للمطبوعات الخاصة بالشيوعية والشديدة العداء.
وللإيضاح أقول حينما أوشكت الأخيرة، البارتيزان على التوقف، كتب سيدني التماساً إلى هولند سارجنت، مساعد وزير المالية في 10 أكتوبر 1952، يدافع عن تاريخ بارتيزان رفيو كمنبر مؤثر لمحاربة الايديولوجية الشيوعية في الخارج وبخاصة بين المثقفين.
معنى ذلك أن تلك لم تكن سياسة طارئة. لاسكي يقول ما نصه:
إن مادة الحرب الباردة ثقافية. وهناك كان يكمن أعداء السياسة الخارجية الأمريكية، الذين استغلوا الثغرة في البرنامج الامريكي وهي ثغرة حقيقية وخطيرة – الثغرة التي اشار لها لاسكي lasky هي الفشل في اكتشاف الطبقات المتعلمة والمثقفة، والتي تقدم على المدى البعيد القيادات الاخلاقية والسياسية للمجتمع وللقضية الأمريكية.
ولذلك جندت لاسكي وجوسلوسون ونابوكوف "ليقفوا على الحافة الحادة" لما سوف يصبح تحت اشرافهم و"هي احدى العمليات السرية الأكثر طموحاً في الحرب الباردة ..".
والطموح المشار اليه هو كسب النخب الثقافية الغربية لحساب الطرح الأمريكي. واضح هو الدور الذي لعبوه في فرنسا (باريس) وفي المانيا وبريطانيا (عن مجلة بيرمونت) ليتمددوا إلى الشرقين الأوسط والأقصى وليؤكدوا لهم نقاط ارتكاز في عواصم العالم الأخرى، لتقديم الثقافة الامريكية. واعطيت لجهاز المخابرات صلاحيات هائلة لخدمة ذلك. فعجّل هذا الجهاز في تجنيد الأفراد والجماعات، المنظمات ومجلاتها ومثقفيها..
منظمة حرية الثقافة حولتها المخابرات الامريكية في 1961 إلى "الاتحاد الدولي للحرية الثقافية أو لحرية الثقافة" ومن هذه ان صار لنادي القلم 76 فرعاً في 55 دولة.
جدير بالذكر أن اللولب واسع الحركة وسكرتير عام المنظمة هو الروسي الأصل نابوكوف وهو المعتمد الأول في التفاهم مع الشعراء والكتاب ومع الموسيقيين لأنه كان روائياً وموسيقيا. من نشاطاته أنه هو الذي سافر إلى لندن للقاء ت.س. إليوت لإقناعه بالتعاون أو الانضمام لنشاطاتهم. إليوت رفض المشاركة أو التعاون فالتفت إلى ستيفن سيندر وقد وافق هذا على المشاركة في إصدار مجلة انكاوتر Encounter (1953 - 1990) وعلى أن يكون محررها. (ثمة مسألة أن راتبه كان من الخارجية البريطانية. وهذا يعني أن هناك خيطاً دولياً (هنا بريطانيا) مشاركاً في الموضوع، فضلاً عن مساهمة اللجنة البريطانية لحرية الثقافة.
في باريس أيضاً رفض سارتر المشاركة في مؤتمر ثقافي موسيقى وقال لهم : "أنا لست في عداء مع الشيوعية لهذا الحد". فاتفقوا مع مجلات يمكن ان تكون رديفة ومع عدد من المثقفين شعراء وكتاب وفنانين.. نتيجة هذه الجولات المصحوبة بالوعود والأموال أن صار عدد المجلات التي تصدرها منظمة حرية الثقافة في العالم ثمانية وعشرين مجلة عدا المجلات المتعاونة والمثقفين المتعاونين.
للعلم، هذه المنظمة عن طريق المتعاونين معها في لبنان، اقنعت الشباب لحضور مؤتمرها في روما وتبنت طبع مجموعة اشعار تحت اسم منشورات مجلة ( شعر)، هذه المنظمة كانت تجزل العطاء. فقد دعت اوركسترا إلى واشنطن كلفت دعوتها 130.000 دولار وسيارات ليموزين وهدايا وضخت على مؤتمرها الثقافي في باريس اموالاً كثيرة وكانت النتيجة خيبة وفشلا ذريعين. فقد رفض سارتر الحضور كما أشرنا سابقا. سيمون دي بوفوار حضرت، وخرجت مستاءة. لم يفت. الفرنسيون ما وراءه! وقد خرجوا يتذمرون، قالت دي بوفوار: الاشياء نفسها، الأحاديث نفسها تتكرر. في القاعة تشعر أنك تموت حيا، فولكنر تمتم بعبارات غير مترابطة. وقال: انه لم يجد شيئا ذا معنى. الموضوعات التي حددتها لجنة المؤتمر عبثية. مالرو مساعد دييغول آنذاك، قال بفجاجة أو بذكاء ساخر: أمريكا الآن جزء من أوربا. وسبب هذا التذمر والاستياء ان الخط المهم بالنسبة للجنة المنظمة هو ان تكون ضد الشيوعية والسبب المهم للمثقفين كتاب وفنانين هو الثقافة. في مؤتمر الموسيقى حين تأخرت ايطاليا عن دفع ما عليها، غطت مؤتمر الموسيقى هذا مؤسسة فارفيلد. كل هذه الأموال والنشاطات ليثبتوا أن الفن يزدهر في مناخ الحرية.. وهذا ما كان يتردد في فروع المنظمة العديدة في اليابان والهند وفي العواصم المهمة، باريس ولندن وعواصم امريكا اللاتينية. أما في الشرق الأوسط فقد اعتمدت اللجنة أو المنظمة كتاباً وناشرين وتنظيمات ثقافية منها نوادي القلم كلها تعمل تحت عنوان حرية الثقافة... سأتوقف عن قول المزيد في هذه المسألة، فقد اتضحت الوسائل والأهداف..
تجارة:
ننتقل الان إلى مسألة تبدو هامشية في التجارة والاستهلاك. ولنبدأ الحديث عن مؤسسة مالية واحدة هي "بنك الاسبريانو": كان المدعو السيد كالفي يدير الأموال لصالح الفاتيكان ويترأس بنك الاسيربانو معه سيدونا ملك البورصة الايطالية وموضع ثقة الفاتيكان والمؤتمن على استثمارات السدّة الرسولية. وكان حلقة الوصل بين السفارة الامريكية واحزاب اليمين الايطالي. كان يملك في العديد من البلدان مصارف وفنادق وله في واشنطن مبنى ووترغيت الشهير.
أما الاسقف سارسيتكوف، الذي يترأس مؤسسة I.O.R فقد عمل اصلاً حارساً شخصياً للبابا قبل أن يصير مدير أعماله.
الثلاثة عملوا من أجل اعلاء كلمة الرب وملء جيوبهم. إن بنك الأسيريانو نسج شبكة عالمية من غسيل الأموال، الدولارات، الناتجة من تجارة المخدرات والسلاح. وعمل مع مافيات صقلية في الولايات المتحدة لتهريب الأموال وخطف غير المرغوب فيهم.
هذا البنك هو مصدر الدولارات التي مولت نقابات العمال البولونية في صراعها ضد الحزب الشيوعي (حزب العمال البولوني الموحد – المحرر). وهذا البنك هو الذي أجزل العطاء لمتمردي الكونترا في نيكاراغوا وللمحفل P.2 في ايطاليا لغرض واحد هو تحالف الماسونيين مع الكنيسة لمواجهة الخطر الأحمر. وقد تلقى زعماء ذلك المحفل مائة ألف دولار، ساعدتهم على تاليف الحكومة الإيطالية، ولتنفيذ اعتداءات إرهابية لمعاقبة اليسار الإيطالي.
تقول الناشينال تايمز:
"أن عملية النصب التي تعرض لها البنك والتي زاد حجمها على المليار دولار. جعلت الفاتيكان يشعر بحرج، لأن أحد المتنفذين الكبار منهم.." أنتهى الخبر!
لكم الان شريط صحفي التقط مفرداته صحفيون شجعان ونشروه في العالم، قبل أن تدخل تفاصيله الكتب:
كاتب صحفي ذكي فضح يوما ما يقال بأن خط الاستواء يقطع نصف الكرة الأرضية. قال: كذب لا يقطع الكرة الأرضية نصفين وليس ثلثا العالم في الشمال وثلث من الجنوب. نشروا ذلك لكي تظهر أوروبا على الخارطة اكبر من أمريكا اللاتينية والهند أصغر من اسكندنافية، وامريكا وكندا تشغلان من الخارطة مساحة اكبر من افريقيا، وهما معا لا يبلغان ثلثي القارة الافريقية. الجغرافية تكذب وتسرق والاقتصاد يكذب ويسرق، والثقافة بدأت تفرغ الكلمات من محتواها الوطني والمحلي. هو برنامج نزع الملكية من الشعوب، أرضاً ومعادن وثقافات وعقائد.
صحافة أيضاً:
كتب صحفي عموداً في صحيفة فضح مضمون واحدة من الالاعيب، تساءل: هل وجدت الديموقراطية لكي تمارس يوم التصويت كل أربع أو خمس سنوات، أم لكي تمارس كل يوم من أيام السنة؟ لقد صنعوا يوما للانتخابات وبعد انتهاء "الحفل تعود المؤسسات بشروط عملها وتعود الحقوق بحدودها ويعود السوق.. التفاف جميل لكن مفضوح ومضحك"!
حوار صحفي:
قرأت في صحيفة حواراً مع شخصية بارزة من البرازيل:
المحرر: يا سيد ماتولو اراك تغيرت كلياً؟
-: ابداً، لم أتغير.
المحرر: لكنك كنت ملكياً ثم أصبحت من المقاومة ثم صرت من اتباع فرانكو ثم صرت ديموقراطيا، ومنذ وقت ليس بعيدا، كنت مع الاشتراكيين. والآن تقول أنك لم تغير أفكارك؟
الجواب: اطلاقاً! لم اتغير. لأن تفكيري دائماً هو نفسه، أن أصبح عمدة هذه البلدة!
اقتراح: في 1991 اقترح عالم الاقتصاد لورنس سومرس، الذي نال الدكتوراه من هارفرد واحتل مناصب عليا في البنك الدولي، اقترح في مذكرة داخلية وجدت طريقها للنشر بصدفة صحفية. اقترح: أن يشجع البنك الدولي على تهجير الصناعات القذرة والنفايات السامة إلى البلدان الأقل تطورا، لأسباب تتصل بالمنطق الاقتصادي، وبالمزايا السببية لتلك البلدان. اما هذه المزايا، فهي:
1- انخفاض الأجور.
2- سعة المساحات التي لم يلوث الكثير منها بعد.
3- انخفاض معدل الاصابات بالسرطان لأنهم عادة يموتون مبكرين، فلا يضرهم كثيراً إرسال هذه المخلفات.
درس:
هذا الدرس من السناتور جومكارثي، ومكارثي الخمسينيات هذا هو مبتكر فلسفة "الشعور بالذنب"، وتوظيفها لمطاردة الشيوعية، وكان يحرض على ذلك بكل ما يملك من قوة: "أن يعترف المتهم ويدين رفاقه ويلعنهم ويؤكد ولاءه الجديد ويلفظ العهود القديمة. ليزلي فيدلر وصف العملية، قال: الاعتراف بحد ذاته ليس شيئاً ولكن من دون الاعتراف لن نتمكن من الانطلاق من ليبرالية البراءة إلى ليبرالية المسؤولية. أما صول ستابن فقد كان ارق قليلا، حاول اقناع الآخرين بان أولئك الذين اخذوا جانب السوفيت في الماضي، يجب ان يعطوا فرصة لتوجيه طاقاتهم للمؤسسات وللجهود المعادية للشيوعية بحق، وأن على كازان ان يمنح المترددين فرصة للتوبة.
هذه التجربة المكارثية طبقت تماما في الشرق الأوسط، في العراق وفي مصر وفي تركيا وإيران: البراءة، العمل مع المؤسسات ضد الشيوعية.. لا داعي لمزيد من الايضاح!
مانشيت:
في 1990 نشر زعيم نقابي ارجنتيني واسع الثراء صعد إلى هرم السلطة، مقالاً شرح فيه الطريقة التي حقق بها ثروته الفجاءة. بايجاز، وبلا خجل، قال: المال لا يأتي من العمل!
منظر طبيعي:
في الأخير لنتحدث في السياحة وعن الطبيعة الجميلة. كتب صحفي فرنسي، قال:
توقف الوفد عند ربوة في نويلي. كان هناك بحر والربوة مطلة على الخليج، الارض مغطاة بالتين الشوكي. اغرانا المنظر اقتربنا اكثر، ففاحت الروائح العفنة، روائح مقرفة تهلك النفس دون كل المناطق الأخرى، كان الحارس يذرع المكان متنقلا بين الاسلاك الشائكة والصبار الوحشي، أشار لي بفرنسية ركيكة:
هنا، يسكن جميع شيوعيي اليونان!
ختاما، شكرا. لم ابتدع شيئا، كل ما كتبته منقول. أشكركم واطلب العذر ممن كتبوا قبلي.