
تخوض رواية "الديوان الاسبرطي" للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي في مناطق الظل، حيث تقدم سردية مغايرة للتاريخ الرسمي في مسح لحقبة تجمع بين الوجود العثماني والاستيطان الفرنسي في الجزائر، ولربما هذه السردية المضادة هي التي أثارت حفيظة العديد من المتلقين في جزئها المتعلق بالعثمانيين من خلال الارتكاز على سؤال جوهري: هل هو وجود هادف للإعمار؟ أم أنه احتلال من نوع آخر يهدف إلى حيازة امتيازات ومزايا؟ نحاول في هذه القراءة التي لا تطمئن إلى الجاهز والمروي والمألوف الوقوف على دلالة الاختلاف، واستنطاق النص بالبحث عن مضمراته.
قراءة في العنوان:
تحمل لفظة الديوان منظورا إيديولوجيا، إذ يحيل على تاريخ منتقى من رقعة جغرافية معينة، فهي لفظة فارسية تمثل سلطة موضعية تتضمن شخوصا يسيرون أعمال السلطنة ويطلقون القرارات المتعلقة بالحروب وغيرها، ناهيك عن المضمونية التي تتعلق بالدفاتر والسجلات، وأما اسبرطة فتحيل على ذاكرة غيرية/ يونانية تمتد إلى الأسطرة/ التعالي، حيث تتباهى الذات بمركزيتها وقدرتها على اختراق الآخر وإفنائه بعد محاصرته بسبب مسوغات تافهة وغير مشروعة، ومن هنا يصبح النص عبارة عن سجل احتفائي بالسلطة الغيرية التي تنتهك الذات وتحوله إلى سردية مغايرة، أو منظور حكائي يقف على أرضية الاحتمال ليموضع الحقيقة بين ممكناتها المسيجة بالنسيان/ التهميش.
التاريخ الهامشي:
تخوض الرواية في المسكوت عنه الذي غيبه التاريخ المؤسساتي/ السلطوي، إذ يحاول ملء الفراغات الذاكراتية مبتعدا عن التسجيلية المفضية إلى الرتابة والتطابق الذي يحول النص إلى مجرد وثيقة تاريخية، لذلك يستنطق الماضي عبر خطابات أشبه بالسيرذاتي تؤدي وظائفها شخصيات خمس: ديبون ـ كافيار ـ حمة السلاوي ـ ابن ميار ـ دوجة، وهذا التعاقب الحكائي يساعد المتلقي على معرفة تفاصيلها من أجل لملمة تبعثرات السردية المركزية، من هنا تتعدد وجهات النظر حول قضايا الاستعمار والوجود العثماني في محاولة للوقوف على أرضية الحياد، ولو أن الكاتب تتضح أيديولوجيته من خلال استنطاق شخصياته، ولربما الأنا المتحدثة تعبير عن الحضور وتشكيل متخيل يتموضع مركزيا في ذاكرة الحكي ويصبح بمثابة تعويض نفسي/ محايث للتاريخ المسرود، إذ تعودنا أن تروى تفاصيل الماضي في صيغة غياب من خلال الضمير "هو"، لكن الأنا هنا تطوف لتكافح التغييب بمثول آني/ مركزي يمثل إمدادا قرائيا في مستقبل النص المؤول، والأنا هنا متعدد ليبين أن اللغة تظل إمكانا متحققا في صيغ مختلفة، لذا لا أحد يستطيع ادعاء الحقيقة أو امتلاكها.
وكأن الرواية من هذا المنظور تقدم تاريخا جديدا والذي "أقام قطيعة تامة مع التصور التجريبي للزمن القائم على وهم الوفاء للحدث في واقعيته المباشرة، وادعاء إعادة تملكه، كما فند الخلفيات الوضعية لهذا التصور، الذي يدعي العلمية وموضوعية النظر في الميدان التاريخي بالقياس على الميادين التجريبية التي تستجيب للمقولات العلمية"(1).
تحاول هذه الرواية تقديم منظورات متعارضة بسد الفجوات الذاكراتية وفسح المجال واسعا لمعرفة وجهات نظر متناقضة، فالحروب التي جرت باسم المسيح واستخدمت مسوغات دينية متظاهرة بجلب الحضارة والخير والنماء للإنسانية قاطبة، لم تكن غير ممارسات متأبلسة سعت إلى تصفية الآخر فكريا وجسديا وعقديا، فالذات بتعاليها واصطفائها وبحمولاتها الإيديولوجية وحقدها على كل غيرية تحاول الحفاظ على مركزيتها لا غير، "لذلك نجد أن "قصص الإبادة التي يعج بها الكتاب، والتي يصدقون تاريخيتها، أو يريدون تصديقها، تقع في صميم نسيجهم الثقافي، فيتقبلونها على أنها نماذج نجحت في الماضي في استئصال الأغيار يمكن تكرارها في الحاضر من أجل الوصول إلى هذا الهدف "(2). ولقد جاء ذلك على لسان كافيار في خطابه الموجه نحو ديبون الممثل للعقلانية والاعتدال والتسامح: "إن الشيطان إله هذا العالم يا صديقي المبجل ديبون، وإنني لمشفق عليك مما يحمله رأسك من أوهام، أنت الذي لا تزال تعتقد أن كل النساء هن المجدلية، وأن كل القادة تجل للمخلص... أفق يا ديبون، أفق أو عد إلى مرسيليا"(3).
يفضح الكاتب الخطاب الكولونيالي ويكشف عن أهدافه الحقيقية، إذ يعتبر الاستيطان الفرنسي جزءا من العقلية الإحلالية التي تعنى بإبادة شعب من أجل إعمار الأرض بشعب مغاير وذلك تحقيقا للأطماع والامتيازات، "إلا أن صديقي كافيار كان أكثرهم اشتعالا بسيرة القائد المجنون، أحب أن أسميه شاول اللعين، يضحك حين يسمعها.يتفق مع تجار مرسيليا في جدوى بقاء الفرنسيين في هذه المدينة الإسبرطية التي ترتفع خلف البحر، فالتجار في مرسيليا يريدونها بالتأكيد ليس فقط من أجل أمجادهم السالفة، بل لأشياء أخرى، المال كما يقول شاول إله جديد وما أكثر الآلهة! آلهة في البحر وأخرى في البر"(4).
يحاكم عيساوي الحملة العسكرية الفرنسية من وجهة نظر فرنسية كذلك، إذ يموضع القضية في إطارها الإنساني/ الأخلاقي العام، وهو ما يكشف تهاوي مسلماتها وارتكازاتها وتهلل تسويغاتها بالنظر إلى حقيقتها المغيبة وراء الشعارات الكاذبة، فديبون /السردية المضادة يقوض الرؤية الاستعمارية، ويتحرر من المنظور المركزي الكولونيالي ليمثل الغيرية في حيادها الإنساني، هو المثقف العضوي الذي يرفض الخضوع لسلطة معيارية تقوم بقولبة تفكيره وتمنعه من تقديم نصية أصيلة هي صوت المقموعين والمهمشين والمكبوتين، "قلبها الطبيب بخيبة في يده، وتراءى الطفل يطل علينا من باب المخزن، يبكي وينادينا بأسمائنا، بالتأكيد لم يكن ليهتم به البحار، كان صراخه يتعالى بيني وبين الطبيب، أو لعله يلوح لنا من قبره: هل هذا ما أردت أن تسجله ياسيد ديبون من انتصارات قائدك العظيم؟ ألم يكن أجدى لك الكتابة عن سيرة عظامي لا عن عظمة سيدك؟!"(5).
تفكيك الخطاب الكولونيالي:
لربما رغبة الكاتب في تفكيك العبارات الكولونيالية التي تضمر مركزية الذات وتعاليها وتهميش كل غيرية تتموضع في ثنايا هذه الرواية، فعبارة فاتح إفريقية تقوم بتغييب حقيقة الاستعمار وتقدم سردية مؤدلجة تهدف إلى تعظيم الذات وادعاء صفائها وخيريتها المطلقة من خلال أبلسة/ المختلف ووصفه بصفات تبخيسية تحقيرية مضللة، "تستطيع أن تضع حدا لمزاجيتك، قالها لك كلوزيل ثم أعادها لك الدوق روفيغو ساخرا: أصبحت يا ديبون تتصرف مثل هؤلاء الشرقيين، وتنفعل مثلهم، مخالطتك لهم أصابتك بالعدوى، والآن أراك تماثلهم في كثير من الطباع. ودونت مسيرة فاتح إفريقية حتى أضحيت من نجوم الصالونات الباريسية؟! أتريد مجدا آخر تضيفه للإنسانية من أجل حقوق البائسين، أم أنك تعتقد نفسك مسيحيا جديدا؟ دع عنك هذا وعد إلى باريس"(6).
بل ويبلغ الأمر حد التعميم حينما تحاجج الذات بإسقاط النوايا ذاتها على سياقات تاريخية مختلفة، حيث تصبح الأديان على اختلافها مسوغا للحصول على الامتيازات وللحفاظ على المركزيات ولتصفية الآخر، لذلك فقول كافيار يلخص ذلك: "يصر ديبون على الدفاع عن هؤلاء، مثلما يلجأ إلى مسيحه الشخصي ليحاججني. أيها البائس: حتى البابا نفسه لم يعد يؤمن بالمسيح الذي تؤمن به، من أجل سلطة المال تحولت الأديان إلى أقنعة. هؤلاء الأتراك المحمديون كانوا يأخذون أموالنا ثم يستعبدوننا، هذا إن لم نقتل، ثم يقولون إن الله يأمرهم بذلك، هذا هو الرب الذي صار الجميع يؤمن به، في أوروبا أو إفريقية"(7).
ابن ميار ومركزية الحضور العثماني:
يمثل ابن ميار غيرية تستعير اعتبارات الذات/ المحروسة وتتمازج معها عبر مكون أحادي لا تلفيقي، إذ يلتبس بهوية المكان رافضا التعالي عن ممكناته، لذلك يحاول استرجاع ذاكرته عبر تموضعات خطابية تستفز المكون الحكائي المضاد الذي يضع كل غيرية في موضع المخترق ـ عثمانية أو فرنسية ـ، حيث تطفو الأنا لتلفت الانتباه إلى مركزية حضورية تقاوم الغياب الذي يمارسه الآخر/ الفرنسي حتى في حال استدعاء تمثلاته واختراقاته، في الوقت الذي يهمش فيه المكون المحايث/ الجزائري، الذي يعد لاحقا في المتخيل العثماني حتى وإن بدت خطاباته في ظاهرها غير ذلك، "لقد أصبحت وحيدا يا ابن ميار لا مال ولا سلطان، تكاد تكون فقيرا بعدما سلبوا منك كل شيء، التجارة والضياع وحتى الأصدقاء، كان آخرهم المفتي الحنفي، دبروا له المكيدة في بيته ثم نفوه إلى الإسكندرية، كان أجدى لك لو رافقته، لكنك تظل تعتقد أنك بعرائضك ستعيد المجد لهذه المدينة بعد رحيل بني عثمان، ثم تثاقلوا عن سماع شكواك وشكوى أهلك، الذي يلحون عليك بمواصلة الكتابة وهم من اتهمك في البداية بالعمالة للفرنسيين، حين كنت عضوا في مجلس البلدية، ثم سعدوا وهم يرونك مطرودا منه.."(8).
وبالبحث في معنى الاسم الذي يتعدد ويختلف بين محضر المؤونة والطعام، وجالب الحظ والخير، وكذا ضوء القمر ووردة الجنة...، كما أن الميار هو مراقب الأسعار في الأسواق العباسية ..، وهذا في حد ذاته تمثيل مركزي للمثول العثماني الذي يسيج بالهالة والقداسة.
الهامش في المتخيل السردي:
يحاكم الكاتب على لسان ابن ميار اليهود/ المكون الهامشي الثاني، ففي غمرة صراع المركزيات الدينية يحاول الهامش أن يجد له حظوة ومكانة إلى جانب المركزية الغالبة، وذلك بالتحيز إلى منطقه ومنظوره وإن بدا غير عقلاني وغير عادل، فالهامش اليهودي ينزاح عن موضعيته حفاظا على منطقه المنغلق ومصالحه بالتشويش على الطرف الأضعف وضرب مكوناته، ومن هنا تظل الهوية منساقة إلى اللااتساق حينما يحرر نفسه منها ويستبدلها بالتغاير الذي يتمسك بالمسوغ الديني/ اليهودية، "خطر لي أن أنعطف تجاه الغرب، لكني تذكرت أحياء اليهود، لم أعد أثق بهؤلاء الناس، كانوا يقاسموننا الخبز والملح ثم فجأة بعد دخول الفرنسيين بدأوا يهتفون لهم. الملل الصغيرة دائما ما تحاول إيجاد مكان لنفسها ولو بالخديعة، خمسون عاما أو أكثر بقليل، كانت كفيلة بأن يمسك اليهود كل شيء.."(9).
وفي شكل تعارضي يصور الكاتب نمطين من الشخوص الهامشية، الأول وهو السلاوي الذي رفض أن يكون جزءا من مخطط الآخر مهما كان شكله، فقادته ثوريته إلى الانفلات من فخ التماثل والتطابق معبرا عن هوية متمايزة وذات ممتلئة، بينما هرب الثاني "ميمون" من التماثل مع المنظور العثماني ليقع فريسة للانصهار في الغيرية الفرنسية وفي رؤيتها العنصرية الاختزالية الاستعمارية، "يلتقي السلاوي وميمون في كرههما لبني عثمان، كانا يريدان أن يحكم المغاربة بلادهما، ولكنهما افترقا في وجهة النظر بعد دخول الفرنسيين. عرض ميمون نفسه كمساعد في فتحهم الجديد إذ كان أكثر الناس معرفة بالبلاد وأهلها. بينما كان السلاوي من الذين قاتلوا في سيدي فرج ثم سطاوالي وأخيرا في الحراش"(10).
يراجع عيساوي الخطابات التاريخية الرائجة، ويحاكم العثمانيين في فترة حكمهم للجزائر، حيث يهدم ما شاع عن خيرية قدومهم، فالرواية تخوض في المسكوت عنه/ الهامش التاريخي، وتقوض التاريخ المؤسساتي/ المركزي /السلطوي من أجل بناء سردية مضادة، فالسلاوي ولأنه يمثل الهامش يتحرر من سطوة الأدلوجة الاستعارية السائدة، ليبحث عن ممكنات مغايرة هي من صميم الذات/ الهوية، حيث يصبح الآخر موجودا اعتباريا وجبت تصفيته من الذاكرة الجمعية من أجل بناء مثول ذاتي لا امتداد غيري فيه، السلاوي يكلم ابن ميار: "ألا تلتفت حولك، الخوف هو ما يرغم الناس على الهتاف لهم، لا تنجح أمة حياتها في سلب حياة الآخرين. جل سكان المحروسة يعيشون عالة على مال الأوقاف، والتجار أرهقتهم الضرائب، فبارت تجارتهم. بنو عثمان حولوا هذه المدينة سجنا كبيرا للمسيحيين، وحتى لأهلها، واليوم لا أرى مصانع غير التي تصنع المدافع والبارود، ولا مستشفى غير الذي بناه الإسبان لأسرى المسيحيين. ولا يوجد في المحروسة طبيب.."(11).
دوجة/ الوطن المنتهك:
يعترف السلاوي أن دوجة /النص الأصلي تمثل هذا الوطن، إذ تعرضت للانتهاك مرات عديدة بعد أن تلاشت الأبوية/الوصاية والتبست بالغياب/الهوية المشتتة، وقد حاول أن يعيد إليها وهجها ويمنع عريها ويحافظ على شرفها رمزيا، لذلك وبوصفه يمثل الذات النقية وإن كانت من هامش الحكي، فإنه حاول لملمة شتاتها والحفاظ على نقاء لحظتها، "لو أعاد صديقي ابن ميار سيرة دوجة فقط لأدرك بسهولة أنها لا تختلف إلا بالقدر اليسير عن هذه المدينة، ولاستوعب أيضا ما حدث في الأيام التي سبقت دخول الجيش.."(12).
جاء على لسان دوجة: "في تلك الأيام عرفت السلاوي، رجلا يرفض كل نساء المبغى، ولكنه أول من يدافع عنهن، بدا لي موقفه غريبا، ثم زادت دهشتي وأنا أراه مثلما رأته البقية يلوح بقبضته تجاه المزوار ويلقيه أرضا"(13).
يحاول السلاوي بوصفه ذاتا هامشية أصيلة يهمها الامتلاء أن ينتشل دوجة/الجزائر من الضياع، لذلك يجعلها في حكم الوديعة لدى غيرية دينية/زهرة اليهودية التي تعبر عن الآخر كمكون من مكونات الهوية الجمعية، فالذات لا تزهر إلا بالتنوع والاختلاف وسلوى الوطن لا يتحقق إلا ضمن راهنية تحتفي بالتعدد وحوارية الأديان.
تظهر الرواية الصامتة /التاريخ المغيب على لسان الصحفي ديبون الذي اختارته "لوسيمافور دو مرساي" لتغطية الحملة ،إذ يقدم الكاتب سردية لا مؤسساتية تعكس رؤية معتدلة وإنسانية في الخطاب الفرنسي، وكأنه بقراءته الغيرية يرفض الأحكام المطلقة وتعميمها ،إذ يظل هناك خطابا موازيا للخطاب الاستعماري/العنصري/ الاصطفائي ،فالآخر ليس كله شر كماهو ماثل في الأدبيات الشرقية ، بل هناك أصوات ـ من منظور الكاتب ـ أسهمت في الحملة بوصفها جزءا من عملية حضارية شاملة تهدف إلى تصفية الاستعمار التركي ـ كما يظنه الفرنسي ـ :"..وحين اقتربت كان بورمون يستعد لخطابه، وعلق بذهني بعضه: إن الرجل العربي قد عاش سنوات طويلة مضطهدا من زمرة غاشمة، وسيجد فينا نحن المحررين، وسيلتمس تحالفنا وبهذا لن تدوم الحرب إلا زمنا قليلا، ولن تسفك إلا دماء أقل.
خطابه غمرني بالسعادة، في كل جملة يتوطد ما بيني وبين هذا القائد، يحمل في روحه الدعوات التي أتى بها الناصري، لا يريد مزيدا من سفك الدماء"(14).
إسبرطة من التطهير التاريخي/ السردي إلى التطهير العرقي:
يطابق كافيار بين الجزائر واسبرطة بشكل يعكس تحيزه الإيديولوجي ونزعته المركزية/ الإقصائية، إذ تتحول من إحالة تاريخية إلى نمط من التفكير المترفع/ العنصري الذي يهدف إلى تشويه الآخر وتنميطه وجعله صناعة لغوية متخيلة، وهو ما يسهم في تأجيج المنزع الاحتقاري وفي تسويغ اختراقه وهدم زمنيته، "لأنك لم تخبر إسبرطة كفاية، أو لعل الكتب أفسدتك. الكتب أحيانا تزرع في الناس أفكارا لا وجود لها عن الحياة، تخلق منهم كائنات لا تحسن إلا الكلام، وأخشى أن تكون من بينهم، تقرأ عن الشرق وعن المور ثم تأتي لتلقي المحاضرات، أو تتصفح الإنجيل ثم تهذي أمامي بما فهمته. هذه المدينة التي يسمونها الجزائر، لم تكن إلا إسبرطة"(15). ولو أن الآخر يقدم توصيفا مغايرا وتسويغات عن تسمية الرواية حينما رأى دبون كافيار يقرأ كتابا عنوانه الديوان الاسبرطي "ثم تراءى لي الأمر جليا، نعم هو كذلك، الإسبرطيون كانوا أشبه بالعثمانيين في إفريقية. أمة لا تقوم إلا على قوة السلاح، والأتراك فقط من يمتلك كل شيء. أما العرب فلم يكونوا إلا عمالا في مزارعهم. ربما كان الأتراك أنفسهم أقرب إلى الدوريين، بينما كان العرب مثل الأيونيين، ولكن الحقيقة التي اتفق الجميع حولها، أن تلك المدينة البائدة لم تكن إلا ثكنة كبيرة. كانت هذه المقارنة تكاد تكون حقيقية في ذهني، وربما في ذهن كافيار"(16).
ويقدم قول كافيار لدبون ملمحا عن المنظور المركزي وعن التفوق الأوروبي، حيث تصبح الذات رمزا للتحضر والخيرية المطلقة، لذلك تتعلل بمسوغات دينية بينما يحركها تاريخ طويل من الأحقاد والأطماع الإمبريالية والتنافس على تركة رجل أوروبا المريض والرغبة في التصفية، "الأمجاد التي ابتدأ الإنجليز ليس عليهم احتكارها وحدهم، نحن مطالبون أن يكون لنا قسم من إعلاء كلمة الرب. صحيح أننا آخر من أمضى معاهدة إدانة القرصنة، وآخر من التزم بعهود إلغاء الرق، وأننا من سمح لذلك المجنون أن يشعل الحرائق في أوروبا. ولكن أيضا نحن من سيحمل هذا النور إلى الضفة الأخرى"(17).
يعرض الكاتب لخط إيديولوجي معارض للخط السلطوي الاستعماري متمثلا في شخصية ديبون، الذي يشكك في مسوغات الاختراق بعد محاولات الطمس والتغييب والتصفية التي طالت أبناء الجزائر ومعالمها، فالرواية الاستعمارية المضادة تتمسك بالمسوغات الدينية والإنسانية، لكنها تجابه بالرواية المركزية التي تقوض مرتكزاتها وتضمر أحقادا ورغبة استيطانية ورؤية إيديولوجية اصطفائية، يقول ديبون: "أضطرب كلما تذكرت مقدار الدم الذي ساح في الأيام الماضية. كان لا بد لي من بناء جدار من الصلابة داخلي، وكنت أرفض بناء الجدران وأنا غير مقتنع بقطرة دم واحدة تسيل ليعم نور الرب إفريقية. يتناقض النور مع لون الدم، والسلاح مع الكلمة، والمحبة مع الكراهية"(18).
اللوحات: الذاكرة المصاغة:
يعرض كافيار مذكراته في شكل لوحات وكأن السرد تعويض عن اعتلال نفسي/ نصي، حيث يتحول إلى لوحات ترتسم فيها التفاصيل المغيبة التي تتحول في ما بعد إلى دافع إيديولوجي يحرض الذات على انتهاك النصيات المغايرة/ الآخر المختلف، فكل لوحة هي امتلاء في شكل إفراغ، لأنه محكوم بتحيز الذات واعتباراتها واختلاقاتها ورؤيتها، وفوق ذلك إنجازية متحررة من سطوة الحقيقة وافتعال يتقصد الاستيلاء على الحكي/ المستقبل النصي /التأويل، فبقدر ما يعد بالتعدد والتجاوز إلا أنه يحاول فرض رؤية أحادية من خلال الإطار العام الذي يحدد المنظور والإيديولوجيا، فاللوحات إذن تضمر أكثر مما تظهر وهذه هي حقيقة الحملة الاستعمارية التي كان ظاهرها التأديب والتحرير.. وباطنها الاستيلاء والاستيطان والاستعلاء..، هذا وتعد اللوحات ذاكرة قابلة للحذف والإتلاف والتعديل، وكأن الكاتب يتحرر من سطوة الآخر وتنميطاته وتشكيلاته الخطابية، فيعتبر ما خطه مجرد فلتات بوحية لا تمثل الواقع وإنما الوجه المتخيل منه، لذلك ما يراه الآخر/ المتعالي لوحة فنية تستحق الخلود ـ أي الاختراق والتقتيل والتنكيل ـ، هو مجرد مظهر استعاري لا يرقى إلى تمثيل الحقيقة، يسرد لكنه لا يتمركز في مواضعات المعنى لأنه ببساطة يمثل الغياب لا غير...، فمثلا في اللوحة الثامنة يتحدد الأمر أكثر من خلال قول كافيار: "ترغمك الاستفاقة في إسبرطة في يوم مختلف كهذا، على النظر إلى ماضيك كأنه بقايا أحلام مشتتة في الذاكرة، ووجوه صارت مألوفة بعد أن ظللت سنوات أحفظها، وأيضا لغات صارت تجري على اللسان مثلما يتكلمها أهلها. الآن لا يجرؤ أحد على مخاطبتي بلغة يدعي أنني لن أفهمها"(19). إن كافيار/ الآخر الاستعماري يستوطن النص ويخترقه من أجل صنع هوية لغوية جديدة، حيث يستعيد تفاصيل حكائية ويتقصد الانتقاء والحذف من أجل تسويغية تلفيقية تضمن للذات مركزيتها واستيلائها على سلطة الخطاب/ التاريخ، وهذا التلفيق يظهر أكثر في تلك الاستعارة التاريخية لهوية مدينة الجزائر/ اسبرطة التي تحرر الذاكرة من مفاعيلها الدونية والضمير من مساءلاته الأخلاقية، لذلك يقول: "ليس عليك قول كل شيء للناس، عليك فقط تغليف فكرتك أو حلمك بالدين، ومن ثم دعها، ستصبح مثل كرة الثلج، يزداد حجمها كلما انحدرت"(20).
في ختام الدراسة يمكن القول أن هذه القراءة هي محاولة للنبش والاستنطاق لا تلتزم منهجا، إذ تعول على التأويل الذي يرى أن "النص بطبقاته وأبعاده، بتعارضه والتباسه، بثقوبه وفجواته، بل بصمته وفراغاته. ولأنه كذلك فهو يقرأ بالبحث عن فروقه اللغوية، أو استكشاف احتمالاته الدلالية، أو تفكيك بنيته المفهومية، أو اختراق كثافته المجازية، أو زحزحة إشكاليته المنطقية، أو زعزعة سلطته المعرفية. على هذا النحو يمكن النظر إلى النص والقراءة فيه، أي بوصفه خطابا لا يتناهى وكلاما لا يمكن قفله. إنها قراءة تتعامل مع النص كفضاء مفتوح، فتنقب فيه عن إمكاناته الفكرية أو عن ثروته البيانية.."(21)، اعتبارا من ذلك لا تدعي الجزم واليقينية وتتوسل بالاحتمالية والتعدد والنهائية، هربا من سلطة التموضع الأحادي/ التاريخ السلطوي.
الهوامش
- السيد ولد أباه: التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1994، ص 30.
- عصام سخنيني: الجريمة المقدسة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر/ لبنان، ط1 ،2012. ص 31.
- الرواية. ص13.
- .الرواية. ص14.
- .الرواية. ص 21.
- .الرواية. ص26.
- الرواية. ص 41.
- الرواية. ص49.
- الرواية. ص53.
- الرواية. ص 59.
- الرواية. ص 135.
- الرواية. ص70.
- الرواية. ص78.
- الرواية. 107.
- الرواية. 125 ـ 126.
- الرواية. ص 185.
- الرواية. ص 182.
- الرواية. ص 252.
- الرواية. 266.
- الرواية. ص 235.
- علي حرب: أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1994. ص.22.
الدكتورة غزلان هاشمي: جامعة محمد الشريف مساعدية ـ سوق أهراس ـ الجزائر