
لم تكن الفلسفة اليونانية وليدة ذاتها قطعا. وعلى وفق المنطق العلمي لا يمكن ان تولد معرفة او ظاهرة بكرا من دون تأثير او تأثر. والبحث العلمي الذي يشير الى نهضة شاملة ومنها المعرفية التي سبقت القرن العاشر ق. م وواكبته واستمرت بعده بلدان الشرق ومنها وادي الرافدين والنيل، فضلا عما تؤكده التنقيبات التحليلية بان العلاقات التجارية وتفاعلات الشعوب كلها كانت فاعلة ومنفتحة، حتى ان الاخبار في النصوص التاريخية لـ فيثاغورس وافلاطون تشير الى سفرهما الى بلاد وادي الرافدين والنيل.
ان هذا التفاعل بين الشعوب حقق ما نسميه بعملية تلاقح في مجالات المعرقة المتنوعة، وفي قراءتنا للفكر الرافديني عبر حقب زمنية مختلفة، والمتمثلة في السلطات المختلفة، نجدها تعتمد الافتراضات الروحية الغارقة في التأويل الميتافيزيقي.
ان الفكر اليوناني بمراحله المختلفة يتمثل بتوافق كامل مع منطق المعرفة العلمية في التحول، إذ نجده يعتمد التراكم والانتقال من ثابت الى متغير، ثم يحيل جموع المتغيرات الى ثوابت لينطلق نحو تغيير آخر، الامر الذي نجده في متحولات منذ هيرو قراط مرورا بالأشعار الهرمسية وصولا الى الماديين الذريين امثال انكسمس وانكسماندر ثم الفكر الفيثاغوري، والامر ذاته نجده في التحول من ثوابت سقراط الى ما يوصف بالثراء والنمو الميتافيزيقي عند افلاطون ومن ثم التحول ضمن اطر في جسد الاتجاه ذاته مع البقاء على الكليات او الماهيات عند ارسطو طاليس.
ان هذه المساحة الواسعة من القرن العاشر ق.م الى القرن الثالث الميلادي نجدها لا تخلو من تنوع واختلاف، وما يدعو الى التوقف عنده يتمثل في الفكر الفيثاغوري ولاسيما نظرتهم الميتافيزيقية لماهية الوجود ومسبباته، وما استطاعوا أن ينتجوا من تحليل يرتبط بالرياضيات والموسيقى وما قدموا من افتراضات تعتمد على منطق يستلهم موضوع العدد والرياضيات والعلاقات الحسابية فيها. وعكس هذه الافتراضات بتحليل منطقي على الوجود كله. فكانت الرياضيات عندهم مفتاحا لكل ما هو غامض وخفي. فالرياضيات هي مبادئ واساس لكل الاشياء. ولما كانت الاعداد بالطبيعة (من الناحية المنطقية) اول هذه المبادئ وفي الاعداد دون النار أو التراب أو الماء ظنوا انهم وجدوا اشياء كثيرة تحاكي الاشياء وما كان منها وما سيكون ولما رأوا كذلك أن اسباب التوافقات الموسيقية وشروطها تقوم على الاعداد رتبوا على ذلك أن الاشياء الأخرى بطبيعتها الكلية قد نسجت على منوال الاعداد بمثابة الاشياء الاولى في الطبيعة كلها، فزعموا بان عناصر الاعداد هي عناصر الاشياء، وان السموات كلها نغم وعدد. وعن ارتباط الفيثاغوريين بالرياضيات في عمليات تحليل الوجود. يقول ارسطو:
"لقد عنى الذين عرفوا بالفيثاغوريين بالرياضيات وكانوا اول من افترض أن مبادئ الرياضة هي أيضاً مبادئ جميع الاشياء. ولما كانت الاعداد هي اول مبادئ الرياضة قدموا رؤية تعتمد علاقة تحليلية بين الاعداد وبين النار أو الارض أو الماء بترابطية تفاعلية منتجة او مولدة للوجود بشكليه المادي والمفاهيمي، واحظوا أيضاً أن الخواص والنسيب التي تحدد الانظمة تعتمد على الاعداد فقد اقتنعوا بان مبادئ العدد هي مبادئ كل شيء وتوصلوا إلى أن الاسماء كلها ما هي إلا ائتلاف الاعداد".
أن ما يهمنا من الفيثاغوريين يعتمد نظرية المعرفة أو ما نتصوره بخصوص بنائها وتكوينها ومصدرها، ولما كان محور الوجود في الرياضة والعلاقات الرقمية التي تمدها وربط ذلك بموضوع النغم والموسيقى فقد عدّ الفيثاغوريين كل كائن وكل ما يكون هو في حقيقته متكون من علاقة رياضية يمكن كشفها، ويمكن للعقل البشري أن يعي بعضها وأن يكشف بعضها الاخر ولهذا توصف عملية فهم الوجود ووعي العلاقات الرياضية التي تربط وحدات الاشياء وهو بداية المعرفة أو بداية الوعي بها.
وعليه كلما تنامت عمليات الوعي بهذه الروابط والعلاقات الرياضية التي تحسب رقميا كلما تنامت المعرفة وهذا شرط فبناء المعارف ونموها، والموقف يميز ما بين البشر في مستوى الوعي والادراك، واخيرا في مستوى المعارف، أي بمعنى آخر يمكننا أن نقول إن الفيثاغوريين يعدون الإنسان الاوسع معرفة في مستوى ادراكه للعلاقات الرياضية (الرقمية) التي تحكم الاشياء والاشكال والمعاني، لكن هناك سؤال يطرح نفسه: هل هذه العلاقات العددية أو الرقمية قبلية أم أن بعضها يمكن أن ينتج بالإرادة البشرية؟
وعند اعادة قراءة فكرة الفيض في الفلسفة اليونانية بضاغط العالم العلوي أو الالهي بوصفه مصدر الماهيات التي تقدم عطاءها بما يفيض علينا في العالم الحسي وبديمومة ابدية، تنكشف لنا تعالقات ترابطية بين الفكر الرافديني واليوناني.
إلا أن ما يمكن التقاطه من هذا الفيض هو اليسير أو القليل، وعليه فان كشف عمليات رقمية أو عددية جديدة من قبل العقل المبدع هو صفة الابداع والابتكار عند الفيثاغوريين، وما هي الا عملية تركيب بعد تحليل بكشف للعلاقات الرقمية، فتنبني الصور والهيئات والمعاني في وعينا، والمتحول فيها يعتمد تركيباً جديداً ليس على ما هو عليه سابقا، وهنا تكمن مؤسسات الابداع والابتكار.
اذن يمكننا أن نقول ان عمليات التحليل والتركيب عند الفيثاغوريين تفسر على انها عمليات كشف ووعي وتحليل العلاقات الرقمية المتناغمة ما بين وحدات المادة المبتكرة وتنحصر عملية الابتكار عند محاولة تركيب ما هو سابق من هذه العلاقات على شاكلته بروابط مختلفة يمكن أن تجد الجديد والمبتكر من خلالها. وهذا لا يتعارض مع فكرة وعمليات التحليل والتركيب التي ينطلق منها هذا البحث إلا أن تفسير الموحدات الاساس والمفردات الاولية في تكوين المعارف قد يفسر بمنطق لغوي مختلف. وهكذا يمكن أن تشمل الخبرة والتجريب، فهي عند الفيثاغوريين متراكم في امكانية وعي العلاقات الرقمية التي تحكم موضوع المعرفة ووحداتها.
وهذا يخلق امكانية في الاختيار والفرز والتميز نظريا وعمليا. إن عّد الفيثاغوريين (العالم عبارة عن نغم وعدد) يؤكد على عملية ربط التأمل الفلسفي بالتذوق الموسيقي. لهذا عّد النفس البشرية عبارة عن عمليات تناغم وانسجام يمكن أن تدرك أو تعرف رياضيا، وهذا التوافق والانسجام بين اضداد الجسد عن طريق عّد الاجسام الحبيسة عبارة عن مركبات ما بين الأضداد كالجماد واللين والرطب واليابس – الحار والبارد). وواجب النفس التوفيق الهارموني بين هذه الأضداد وهذا ما نشاهده في المتقابلات العشرة التي وضعها الفيثاغوريون (كالمحدود واللامحدود – والواحد والكثرة والخير والشر والنور والظلام – والذكر والانثى ...).
فضلا عن ذلك تأكيدهم على عّد الدماغ مركز التفكير وينقل من الحوار. ولو حاولنا على سبيل الاستنتاج والاستدلال أن نكشف التحليل والفيثاغورس لموضوع الجمال والتحسس الجمالي للفن والعمل الفني والفنان والعملية الابداعية، سنجد انفسنا محكومين بنظرية المعرفة أساسا للعملية الاستنتاجية الاستدلالية لتحقيق هذه المفاهيم.
ولان عملية التناغم ما بين اضداد الجسد هي اساس عمل النفس البشرية وهدف النفس يتمثل في تحقيق اعلى درجة من التناغم. فان الاحساس بالجمال أو ادراك الجمالية يمكن أن يكون عمله الحصول على اعلى درجة تناغم ما بين الذات الداركة والشيء المدرك.
لهذا يمكن أن يتحسس انسان معين جمالية شيء أو شكل أو مفهوم بفعل هذا التناغم الحاصل بين الذات (النفس) وبين الشيء أو الشكل أو المفهوم ولا يحصل الاحساس بالجمال عند انسان آخر لعدم وجود هذا التناغم. ولكون العمل الفني عند الاقدمين يصبو إلى تحقيق الجمال فالفن يصبو إلى تحقيق اعلى نسبة من التناغم ما بين الوحدات البنائية لمادة العمل الفني التي تحقق بالنتيجة نوعا من التناغم ما بين العمل الفني المنفذ وجمهور المتذوقين أو المستفيدين.
والفنان هو ذلك الإنسان ذو الامكانات العقلية المتميزة في كشف المتناغمات والعلاقات الرقمية الخفية التي تحكم الاشياء والاشكال والمفاهيم فاستطاع بعد كشفها اعادة بنائها بصيغ جديدة يمكن أن تجد طريقها في تحقيق تناغم ما بينها (مادة العمل الفني) وبين النفس المتذوقة. فعمل الفنان الابداعي ينحصر في وعي العلاقات الرياضية المتناغمة وهذا الوعي هو بمثابة بداية تحليل وكشف. فنحن نستطيع أن نعبر بعد التحليل والتركيب عن العلاقات والمكونات بصيغة كمية رياضية محسوبة محدودة كما في الرياضيات والفيزياء والكيمياء ويكون التحليل والتركيب عمليا وتكون النتيجة علمية. وحين لا نستطيع التعبير بهذه الصيغة الرياضية يكون التحليل والتركيب نظريا، وتظل فرضية في العالم لكنها تصير معرفة في الفن والأدب.