
نداء العنوان:
في انفسنا، ومنها، ومن ذلك الخارج الذي تفيض به الرغبة بالنداء نريد ان يمرق الصوت: بوق اسرافيل لا لشيء الا لكي نبعث من جديد. لا لشيء الا لتحقيق تلك الرغبة المفجوعة بأسى الوجود العابث فينا. لا لشيء الا لفض التراب الابد فينا منذ طلوع وجودنا وحتى اللحظة: لحظة الموت التي تشابهت علينا مع لحظة الحياة او العكس.
في هذا العنوان المسرحي: (بوق اسرافيل) احالة مرجعين مباشرة يمكن اختزالهما على نحو:
١- نداء بعثنا ونشروها من التراب الى الحياة واعادة الحياة الينا بعد ان:
- فجعنا بالوجود الضاغط علينا بالقهر والخوف والموت.
- فجعنا بسلسلة من الحيوات التي هرست فينا الراحة بالقلق والسلام بالحرب والمتعة بالقهر في تناوب حيواتي خطير فهو بقدر ما يمنحنا لحظة سعادة يمنحنا لحظة تذكار وفعلا بالقهر..
٢- ثمة قيامة تحدث الان وهذه القيامة هي مصداق لـ:
- الوجود الذي شغلني به هو وجود حساب. هو وجود نتيجة راسخة في مرجعياتنا: انا الى قهر مضاعف او هدوء وسلام مضاعف ولاننا لا ندري ما وضعنا في تلك النتيجة نحشر في تراب مقهور وخوف لا بد فينا حتى اعادة اعلان البوق لمرة بعد مرة يؤكد نهايتنا او النتيجة التي حتمت علينا..
- في الواقع المعيش ثمة صرخة في اعماقنا وهذه الصرخة هي (بوق اسرافيل) الكوني الذي يُرج عمق ابتداء من داخلنا رغبة منا برفض هذه الحياة ورفض هذا القدر..
ما قبل العرض:
يؤكد المخرج وجوداً يكرر نداء وجوده من حيث تكرار لعبة اعداد اللاعبين: ممثلين، فنيين، اداريين.. قبل اعلان بدء العرض المسرحي. يؤكد ذلك مرارا وفي وقت تكاد العين؛ عين الرائي تنفر منه غضبا لما يؤكد ذلك التكرار من افراط في الممل والعبث..
ومن هذا التأكيد المفرط نلحظ اكثر من بعد دلالي لا نستطيع ابتداء تبيانها الا بعد انتهاء العرض المسرحي. الا بعد تجميع دلالات العرض لمعرفة القصد المخبوء وراء ذلك البدء غير المرتبط بالعرض. بل كأنه بدء اعداد لا علاقة له بالعرض المسرحي: (بوق اسرافيل) ابدا. اقول نلحظ نداء عقليا مباشرا لـ:
- وجود لاعب خارجي يتحكم فينا
- استلاب ارادة الموجودات
- قبضة لارادة عليا تتحكم بالاطلاق بكل موجود.
نداء النشور، ادوات الرؤيا
في (بوق اسرافيل) يرتبط النداء الصوتي حسبما احاله مرجع النداء القار في ميثولوجيا ذواتنا بمعادل موضوعي بين:
الصوت ، ادوات وجودنا ، الرؤيا
انه اقتران ملحوظ بين عمق النداء وبين ما تأثث به وجودنا وبين فكرتنا المجردة التي انظر من ثقب خوف وطقس وموت في حياة الى ذلك الصوت/ المسمى نداء اسرافيل. مع ذلك هو تأثيث اختلط فيه صوت الموت مع صوت الحياة او العكس وعلى نحو:
- تنور: فوهة قبر، رحم موت وحياة في آن واحد..
- دكة غسل الموتى: منصة، حمام، مذبح..
- قبر: انزياح حركي لقبر، عربة موتى..
- ستارة حمراء: رحم..
- قفص حديدي
- الذات حديدي
- بوق
نداء المكان، نداء الزمان:
صوت العرض بوق المكان ذاته. كلاهما يمنح الرائي مستوى يشاهد فيه نفسه او مصيره داخل العرض او يشاهد موقعة غيره بتماثل معه وبصفة رائي ينتظر دوره محشورا في ذلك المستوى: مستوى المكان وهو عبارة عن:
* سماء من تراب ، قاع قبر من تراب
هذا يعني اننا جميعا نحشر في قبر: قبر حيواتنا التي تشابهت كثيرا مع قبر مواتنا واننا من فرط الشعور الضاغط علينا بالتراب ننتظر طلوع تلك الصرخة، طلوع ذلك النداء سواء من اعماقنا او منقذ لنا من خارج انفسنا.
ولان المكان برمته خرج من معطف مكان احالة ما، واتجه دلالة مع مكان نعاني منه جميعا. مكان كلي لبس معطف حالة وجود ما، اذن يكون الزمن ازاء ذلك زمانا كليا: زمانا لا يصدق على حالة، بل يصدق على مبدأ. مبدأ الموت في الحياة ومبدأ انتظار الصيحة المنقذة من جراء ذلك.
نداء التنور:
المشهد الاول: ثنائية التكوين: الولادة والموت في ذلك المشهد معادل لثنائية الموت/ الحياة - النشور، وقد تجلى ذلك المشهد تشخيصا ودلالة من حيث:
* التشخيص: تنور هائج يغلي بـ:
- ولادة الطيور، وهي ايحاء دلالي لولادة الموجودات وسلامها الاتي من سلام حيوات تلك المخلوقات: الطيور..
- فرن يحرق بمثل ما يلد كل تلك الطيور وكل ذلك السلام..
* الدلالة: اننا بمثل ما نولد بهجة ورغبة في الحياة بمثل ما تحرقنا تلك الولادة في تنور ترابها المميت وتنور نارها المسعور..
واذ يتجلى من ذلك النداء تطهيرا لما نمر به من تشخيص ودلالة انما يتجلى بالتطهير: غسل الاحياء، الاموات بالتراب، بمطر التراب الجاف الذي يهطل علينا في زمنين متفارقين: زمن الحياة وزمن الموت.
نداء الرحم:
عرفنا الوجود عامة من فوهة قبر مستعر. هذا ما يكون عليه الوجود خارج الرحم. والان نعرف انفسنا من ذلك الوجود: داخل الوجود/ الرحم والذي نلحظ فيه توأم صراعنا. ان رحم الوجود حامل لمحمولات صراعنا التوأم والذي يقدر علينا بما يسلب ارادتنا في الوجود او في رفض ذلك الصراع.
هنا تكون الستارة مدعاة لـ:
- ستارة عرض كوني لوجودنا المقهور والمستلب.
- رحم يجمعنا فيه توأم الصراع غصبا عنا لا لشيء الا للفتك بانفسنا من انفسنا.
لا فرق بين ما يحدث داخل الرحم ونحن نتطهر بالتراب المميت داخل الرحم او نتطهر به خارج الرحم. كل ما يحدث هو محاولة لغسل ادران ذلك الصراع بمزيد منه وبمزيد من تكرار تدويره فينا وفي وجودنا المستلب.
نداء توأمي الصراع:
هي قصتنا: قابيل الذي قتل هابيل: نحن قتلى من انفسنا. ان الذي يجري في عروبتنا انما يجري بذلك النهر المميت من ثنائية القاتل والمقتول وكأننا جبلنا على هذا النمط، التدوير في لعبة لا يراد لها الا الوقوع في فخ الجريمة: جريمة وجودنا.
وعادة القصة مرة بعد مرة بذات القصة:
- ولادة قابيل تتزامن مع ولادة هابيل ومن رحم واحد.
- مطاردة مميتة بينهما.
- اكذوبة التطهير بالتراب تزيد من شهية القتل ولعبة المطاردة.
- قتل قابيل لاخيه هابيل
- الغراب الذي ينعق ايذانا لنا بتعليمنا آية دفن انفسنا.
البوق، انه البوق
هذه المرة وبشكل تقليدي يحاكي توقعاتنا بصيحة اسرافيل تلك الصيحة التي تستنهض لعبتنا من الحياة الى الموت ومن الموت الى الحياة ومن الحياة الى النشور.. وهكذا في تدوير للعبة الصراع الدائر والمميت فينا: لعبة قتل وجودنا المتسابقة مع لعبة ولاداتنا الماكرة ولذات النتيجة.
من هنا نلحظ:
- دخول اسرافيل وهو ينادي بلوثه نحو النشور
- سوق الموتى بقبورهم نحو النشور
- استمرار تدفق هطول التراب وكأن ذلك النشور هو نشور تدوير موتنا في الحياة لا اكثر.
- استمرار العذاب..
نداء المستقبل، امنيات محتضر
ولانا نخاف من الزمن كثيرا ولاننا نعي تدوير وجودنا داخل رحى او فرن الزمن المستعر بنيران التراب القاهرة اخترنا امنية ان نكون آدميين من حديد لا من طين او تراب. اخترنا ذلك لعله يدرأ عنا خطر الموت ونداء الموتى الذي لا ينفك عنا ابدا بل هو لا بد فينا وحولنا ابدا.
ولكن ما جدوى ان يولد الانسان من حديد والات وهو يعاني من ذات القفص. من ذات السجن. من ذات تلك الارادة العليا التي تجهد كل وقت بسلب ارادته في الوجود والقرار..
كل ذلك لم يغير من معادلة:
- استمرار النشور فينا من حيث استمرار نداء اسرافيل.
- موتنا وحياتنا سواء
- الوجود لعبة تدوير اولها الموت واخرها الموت، والحياة مجرد ضفة واهمة بينهما ندركها وتتطهر بها من خلال استحمام انفسنا بترابها المميت.
- الزمن آلة الخوف فينا
- المستقبل يقبل اطفاء الحديد فيه مثلما يقبل اطفاء التراب فيه.
نداء ونداء ونداء
هذا هو الوجود تكرار وممل وذلك هو اسلوب العرض تكرار وممل لا اكثر.
الدكتورالجبار صبري: باحث مسرحي عراقي له عدة كتب في تخصصه . يعمل حالياً في وزارة الشباب والرياضة.