
عمر السراي شاعر عراقي، تولد 1980، بكالوريوس آداب لغة عربية/ الجامعة المستنصرية، ماجستير أدب حديث/ كلية التربية/ الجامعة المستنصرية، طالب دكتوراه أدب حديث/ جامعة المنصورة. مدرس في معهد الفنون الجميلة. محرر صحفي. الأمين العام لاتحاد ادباء العراق. من مؤلفاته الشعرية: ساعة في زمن واقف 1999، وضفائر سلم الأحزان 2005، سماؤك قمحي 2007، طواويس ماء 2009، وصدر له أخيرا في عام 2022 حلويات. اما في النقد فصدر له عام 2016 كتاب: الهوية والشعر. وله العديد من المخطوطات الأخرى في مجال الشعر والنقد والمسرح.
الثقافة الجديدة: لا يمكن فهم التجربة الشعرية عند الشاعر كمبدع، إلا بارتباطها برؤيته الشعرية. وإذا كانت الرؤية الشعرية، لا تمثل التلقي السلبي فقط لمؤثرات واحداث العالم، بل هي ذلك التفاعل والتصادم والصراع، فإن التجربة الشعرية على تعدد عناوينها، هي ذلك التجسد للرؤية بصفائها ورونقها، بشغفها وعنفوانها وعنفها.
منذ مجموعتك (ساعة في زمن واقف- 1999)، كيف تستطيع ان تبسط لنا ملامح تطور تجربتك - أو تجاربك - الشعرية الطويلة، التي امتدت أكثر من نصف عمرك، وارتباطها بتطور رؤيتك الشعرية.
السراي: أكاد أجزم بأني أكثر الشعراء تحوّلا في كتابة الشكل الشعري، اذ ان عدم الثبات على سكّة كتابية واحدة ومستمرة، منحني تنوعا داخل التجربة الشعرية.
ففي بدايات الكتابة، ومنذ مراحل الكتابة في الصغر كنت مهووسا بقراءة ما أجده من شعر مترجم لنيرودا ومايكوفسكي ورامبو وغيرهم بحكم المكتبة المتوفرة في المنزل، فقد كنت أصغر أسرة كلها تقرأ. فإذا كانت الكتابة الشعرية إعادةً لاستيلاد المقروء، فمن الممكن القول إن تعدد مشارب قراءاتي في الشعر الحديث والتراث والأخبار والفضاء والخيال العلمي الى غير ذلك من مناهل القراءة جعل كل ذلك من تجربتي ملونة ومتطورة دائماً، إلا أن المخالف لمنطق التطور الشعري لدى مجمل الشعراء، انني ابتدأت الكتابة بقصيدة النثر، ومنها الى التفعيلة ومنها الى القصيدة ذات الشطرين، وحالما اكتملت تجربتي صرت اكتب بما يمليه عليّ الذوق المغروز في كل مراحلي القرائية.
الآن أمتلك رؤية أصفى إزاء الشعر، والقصيدة الآن عندي، تمثّل مرحلةً يجب ان تكون قريبة من القارئ بيوميتها وضراوة طاقتها الكبيرة.
الثقافة الجديدة: نستطيع الحديث، وربما على درجة كبيرة من المصداقية، ان الخطاب الثقافي المسيطر الراهن - بمختلف تنويعاته- يعيش حالة من الرتابة والنمطية ويدور في حلقة مفرغة. وهو منذ فترة طويلة حبيس موضوعات متداولة ورهين احداث معينة تمجد البطل الوهم أو يخاطب حالة اللاوعي وتمجيد السلفية والطائفية ويستخدم اصطلاحات متأنقة ومختارة، يخاطب بها حالة اللاوعي (او ما قبل الوعي) عند الجمهور، يمارس وظيفته الايديولوجية في ظروف الازمة وهي خلق حالة من اللاوعي بتلك المشكلات يحرف القضايا الثقافية عن حقلها الصحيح، كمحاولة لتهميش الجمهور ثقافيا، وكجزء من محاولة اعادة انتاج سيطرته الايديولوجية المتسمة بحالة متفجرة دوما.
والسؤال هو: كيف السبيل الى خطاب جديد يتجاوز اللحظة الراهنة؟ وما هي شروط وامكانيات انتاج خطاب ثقافي يكافح حالة الرتابة والانغلاق على الذات ويخلق مساحة رحبة “ لتفجير “ الطاقات الابداعية وازدهارها في ظل التنوع والتمايز؟ وبنظركم ما هي القوى الاجتماعية القادرة حقا على صياغة مشروع ثقافي بديل؟
السراي: لا أتّفق - بدءا - مع التوصيف المساق أولا بخصوص الثقافة، فالوجود الثقافي مختلف عن وجود سياسي او اقتصادي مرتبك، لأن العراق شهد تطورا ثقافيا كبيرا بسبب الحرية المتاحة، والتي وإن كانت ذات مضار، إلا أنها تحمل فوائد جمّة أهمها المصداقية، والتعبير المباشر غير الموارب.
أما الخطاب الثقافي الذي من الممكن الوصول إليه وترسيخ وجوده في المجتمع، فهو خطاب ليس آنيا وليس لحظيا، ولا يمكن لأية جهة ادّعاءه او اختصاره، لذلك هو عام وسيبقى عاما، وستفشل كل محاولات انشاء خطاب غير منتمٍ او بعيد عن الواقع..
بصراحة كبرى لم تمتلك الدولة العراقية خطابها الثقافي قط، وارتهنت لأمزجة عشوائية تقدم رؤية السلطة على رؤية الحاجة الفعلية، كما سقط الخطاب الثقافي في فخاخ ايديولوجية لم تكن ناجحة في صناعة واقع او مستقبل ثقافي.
والحل في صناعة خطاب وطني ثقافي هادف، يكمن في الدراسة العلمية لكيفية تكوّن هذا الخطاب، والمسح الاجتماعي ودراسة الجدوى المسبقة لهذا المشروع، واستقراء التلقي وهمومه، وبعد استقرار هذه الموضوعات من الممكن الشروع في ربط أواصر المجتمع بثقافة هادفة وفاعلة.
الثقافة الجديدة: هناك توظيف جميل للتراث في العديد من نصوصك الشعرية، كما ان هناك اعتمادا على مفردات تصدم قارئك وتعيده الى وعيه الجاد، ولكن تلك النصوص لا تعتمد التقريرية المباشرة وانما تحلق في فضاءات اسمى. لكن الجوهري في العديد من نصوصك الشعرية هو انها منحازة، تعكس البسطاء من الناس وتلعن نقيضهم. ينطرح هنا سؤال بسيط وحارق في آن وهو: الى أي حد يمكن للمبدع ان يكون مبدعا من خلال انتاجه لنص رفيع التكوين، نص لا ينشغل بالمباشرة والتقريرية من جهة، والى ان يكون النص هذا قريبا من هموم وآمال الناس البسطاء، نص لا يتعالى ولكنه يفهم جيدا وظيفته ورسالته؟ كيف تولف أو قل كيف تحل اشكالية الشكل/المضمون في ابداعك؟
السراي: على النص أن يكون واضحا الى درجة معينة، فكتابة المعمّيات لا تعد شعرا ابدا، اذ ليست ثمة جدوى في التعتيم اللغوي، والشعر ابن المعنى، ولا يكتفي بأن يكون نشاطا لغويا مجردا من الهدف، لذلك انا اكتب الحياة كما اكتب عن الحياة، واكتب عن نفسي، ومن يكتب عن نفسه بالضرورة ان يكتب عن الآخرين، فالشاعر فرد في مجتمع اكبر.
الانتماء الفكري هو انتماء طبقي ايضا، او محاولة لإلغاء الطبقية عبر النهوض بالمعدمين الى طبقة فاعلة واحدة، وانا بحكم انتمائي الفكري للفقراء، اسعى لكتابة نص يغادر فوقيته المتعالية نحو كتابة طبق شعري مثمر ومفيد وممتع، ليظل الشعر ابنا للجمال والفائدة.
الثقافة الجديدة: هناك الان جيل من المبدعين، شعرا ومن الاجناس الاخرى، خرج من رماد القيامات العديدة والحروب وصراعات الطوائف والاثنيات، يشق طريقه للإبداع بقوة محاولا التحليق بعيدا عن ارغامات المؤسسة الرسمية وتوابعها التي حاصرت السؤال الابداعي في مناطق الصمت وراح همها ينحصر في توزيع الوظائف ووضع اكاليل الغار على صدور المقلدين والعائدين بخشوع الى بيت “ الاب “، وبالمقابل تشطب على كل مشتبه في طاعته. في هذا الجيل هناك من يقدم اليوم صورا شعرية ونصوصا ابداعية مبهرة وتخترق كلماته مناطق الصمت وكثير من “المحرمات “، انه جيل يمتاز بطرح اسئلة حارقة تحاول كسر اصنام الوثوقية وثقافة السلطة السائدة.
هل لك عزيزنا الاستاذ عمر ان تحدثنا عن ابرز المعالم والسمات المميزة للجيل الجديد وهو يسير بقوة في مغامرته الابداعية، بمختلف تلاوينها شعرا ونقدا وقصة ورواية...الخ؟
السراي: الجيل المعاصر هو جيل ذكي، بمعنى انه يجيد فتح النص الذي يكتبه نحو النصوص الأخرى، وجيل يدرك ان القصيدة لم تعد وحدها قصيدة، انما جاء الوقت لتكون القصيدة متعددة المخرجات، وقد استطاع هذا الجيل الخروج من البناء الخطي والأحادي نحو البناء الاتْجاهي ومتعدد الأصوات.
في قصائد شعراء الجيل المعاصر الأخير - واعني بهم الشعراء الذين ظهروا بعد عام ٢٠١٠ - أو سبقوه أو تأخروا عنه قليلا، هناك بعد علموي، وابعاد كبيرة من التعبير المعرفي، وثمة توجه نحو الهوية والثبات على الهوية الوطنية، كما ان اسطورة الشاعر الوجداني تكاد تنتهي، الا ان حظوظها مازالت موجودة، والجميل ان ما حل محلها، هو الشاعر العضوي، المحلل والكاتب والمعبر عن الرأي.
الثقافة الجديدة: ظلت الحياة الثقافية في العراق تحمل هوية وطنية ذات طابع تقدمي. وبقي الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق أحد أبرز دعائم ترسيخ هذه الهوية التقدمية. ولكونك كنت ولسنوات طويلة الناطق للاتحاد الادباء، ترى ما هو تقييمك لمسيرة الاتحاد في دورتيه الاخيرتين وما ميزتهما عن الدورات السابقة؟ ومن ناحية ثانية، كيف يمكن تعزيز هذه في دورة الاتحاد المقبلة؟
السراي: النطق باسم الاتحاد أمر مهم وصعب ايضا، فالنطق موقف وليس كتابة او كلاما فحسب.. ما يجدر ذكره بخصوص هذا الشأن، ان خطاب الاتحاد ظل مدنيا، محافظا على الثوابت الوطنية، ولم ينجر نحو خطابات مسيئة او مهادنة، وقد استطاعت الناطقية الاعلامية ان تعلن عن كلماتها وترتب آليات عملها، وتمارس التغطية الدورية واليومية، اما اسلوب الكتابة او اصدار البيانات فكان منسجما مع التوجه الأدبي برشاقته المعهودة، كما ان اضافة الكلمات المعبرة والدالة دليل على نجاح هذه الخطابات، وقد تمت متابعة نشر كلمات شهرية باسم الاتحاد توضح المبادئ العامة والنشاطات وارشفة المطبوع والمرسل والخطط المستقبلية.
يحق القول ان الاتحاد كان وظل ممتلكا خطابا مشرفا خصوصا ايام الشدائد لا سيما تشرين، اذ اصطف اولا مع المواطنين، وسبق انطلاق التظاهرات بالإشارة اليها وتحذير المتنفذين من مضار عدم الاستماع الى مطالب الثائرين، وهكذا مرَّ الاتحاد عامرا بالنطق السليم والمؤثر، وهكذا سيستمر دائما.
الثقافة الجديدة: وانت تتنقل بين بين عملك (الاتحاد) وعملك الوظيفي (مدرساً في معهد الفنون) وفناناً يعد ويقدم برنامجاً تلفزيونياً! كيف توفق وتجمع كل هذه المهام في شخصك؟ اي كيف وفقت في جمع المختلف وعشّقت بين فضاءات متناقضة، على الاقل ظاهريا؟ في ظل هذه الجلبة أين الشاعر عمر السراي الان؟
السراي: أؤمن ان كثرة العمل تجلب الإبداع، وان الانشغال يقود الى استثمار الوقت بصورة امثل، لذلك انا استثمر يومي بصورة جيدة. لا أنام كثيرا، ولا آكل كثيرا، وأحاسب نفسي على كل دقيقة تضيع من دون خدمة الآخرين. أحب التدريس فهو النبل بعينه، وأمارسه مهنةً لزرع القيم الحميدة لدى الأجيال، وعلاقتي بالإعلام مشروطة، فأنا لا أقدّم من البرامج الا ما اقتنع به من أمور ثقافية تخدم المجتمع والشريحة التي انتمي إليها.
اما الاتحاد، فهو بيتي الأول، أشمّ جدرانه كل دقيقة وأحصي مصابيحه ونسمات هوائه. لا أعظم من الانتماء إلى أكبر كينونة ثقافية أدبية، لا أبهى من أن تحافظ على صرح أسسه الجواهري وحلّ فيه، لا أسمى من أن تكون أديباً، تمتلك التاريخ وتصنع الواقع وترسم خطوات المستقبل