حرج الانتقاء الفلسفي
منذ أن تهشم التمركز المنطقي للعقل وتفتت متربولويات اللوغوس وهمشت متعالياته وتضادت أحادياته حتى غابت السرديات الكبرى وتميعت، ولم تعد لها أولوياتها في الهيمنة بعد أن حلت محلها السرديات الصغرى التي بها اتسعت ميادين السرد وتعددت نظرياته وتنوعت مسمياته، وصارت الرؤية التعددية والهوية الكونية هما الطاغيتان بدلا من مفاهيم وتصورات كانت شائعة حول العقل والهوية والثقافة والزمان والمكان والآخر وما شاكلها من موضوعات تدخل في باب الأدب، وبعضها الآخر ينتمي إلى ميادين مجاورة أو بينية للأدب كالاجتماع والميثولوجيا وعلم النفس والتاريخ والفلسفة وغيرها.
ولعل واحدة من السرديات التي كانت مهمشة في ظل السرديات الكبرى هي السردية العربية وما حفل به قديمها وحديثها من ظواهر وقضايا كان يُعتقد في الغالب أنها مجرد بدايات لا تؤسس لأية تقاليد ليكون كل ما لدينا من سرود دخيلة علينا، انتقلت إلينا بالترجمة من آداب الأمم المجاورة.
ولا خلاف أنّ السردية العربية من التنوع والثراء ما يجعل أية دراسة لها متشعبة وكبيرة وتحتاج الى عمل جماعي لرصد ظواهرها والوقوف على مراحلها واحصاء تصانيفها.
وإذا كان السرد كمفهوم اتسعت ميادين تطبيقاته حتى عمت مختلف جوانب الحياة، فإن التراث العربي سيكون ميدانا رحبا لدراسات سردية جديدة ستثير اهتمام الباحثين الغربيين في العقود القادمة أكثر مما كانت قد أثارت اسلافهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ولا غرابة أن تراثنا غني بالتصانيف العلمية والادبية فمن الفلسفة الاسلامية والتاريخ وعلوم اللغة والنحو والفقه والطب والجغرافيا الى الادب وما فيه من خطب ومقامات ومنامات وحكايات وسير واخبار وتراجم ورحلات وقصص حيوان ورسائل وقصص فلسفية.
وما قد يسفر عنه هذا الغنى من كنوز سردية مستقبلية ستكشف عنها منهجيات جديدة وستظهر لنا ما هو غامض ومتروك من تراثنا الدفين.
وواحدة من صور تلك الكنوز السردية هي سرديات الفلسفة الإسلامية كأحد المناطق الغنية في تراثنا، نظرا لما يجتمع فيها من مفاهيم الفكر التجريدي والميتافيزيقي الجدلية المتعلقة بمسائل ذهنية كالوجود والنفس والعقل، وما يتغلغل فيها من مفاهيم السرد النصية المتعلقة بالزمان والمكان والمنظور والهوية والمبنى والمحتوى.
ولأن النقد الثقافي يجمع المنهجيات ويداخل بين العلوم والآداب برؤى منفتحة وبتعددية نظرية، لذا يغدو له دوره المهم في الاتجاه بالفلسفة اتجاها سرديا عبر دراسات نقدية تبشِّر أو تعرِّف بسرديات الفلسفة الإسلامية. وهو ما أخذنا نشهده مؤخرا في كتابات بعض المفكرين العرب في مجال فلسفة التاريخ، منطلقين انطلاقات سردية ما بعد كونيالية ومتبنين نظريات ميتا تاريخية تجمع السرد بالتاريخ والفلسفة.
ويعد الناقد الدكتور عبد الله الغذامي واحدا من الذين تنبهوا إلى نصوص الفلسفة الإسلامية وما فيها من غنى متطرقا وبدرجات متفاوتة إليها في أغلب كتبه وبشكل ينم عن حرص واضح بالبحث فيها وتحري ما في عقلانيتها من قضايا تتلاءم وطبيعة ما انهمك بالاشتغال عليه من مفاهيم الحداثة الغربية التي تصب في باب الدراسات الثقافية ما بعد كولونيالية وما فتحته له من آفاق للتلاقي ما بين الفكر العالمي المعاصر والتراث الفكري العربي وكيف أن الأخير سابق في مفاهيمه كثيرا من المفاهيم الغربية.
ولعل البداية التي منها انطلق الدكتور الغذامي في سردنة النص الفلسفي الإسلامي تظهر من اول كتاب له هو (الخطيئة والتكفير) 1985 وفيه اهتم بمقاربة آخر المناهج الغربية بما في تراثنا من مسائل نقدية وفلسفية، فحين وقف عند نظرية الاتصال الياكوبسنية بادر الى تأكيد اسبقية حازم القرطاجني في التلميح لعناصر الاتصال فيما ذكره عن الاقاويل الشعرية والتخييل كما وجد أن الفارابي في كتابه (جوامع الشعر) وضع تأسيسا اصطلاحيا محملا بالمد الدلالي لمفهوم الشعري والشعرية. أما السيميولوجيا فقادت الغذامي إلى الحديث عن الاشارة مستعينا بفلسفة الغزالي “لإثراء فكرتنا عن علاقة الدال بالمدلول”(1). واجدا في تقسيم الغزالي حلا لمعضلة الدال والمدلول.
ولم تمنع كشوفات البنيوية الكثيرة الغذامي من تأكيد أسبقية ابن سينا للبنيويين في كتابه (الشفاء) الذي ناقش فيه مسائل شكلية، منها الصوت وعلاقته بالمعنى بما سماه المشاكلة.
وظل النزوع الى رصد الفلسفة الاسلامية ملازما الغذامي في كتبه اللاحقة جنبا الى جنب عنايته برصد المستحدث من المناهج النصية وما بعد النصية. ولا خلاف أن هذا النزوع الفلسفي ليس جديدا فلقد اهتم به كثير من النقاد العرب، وبعضهم كان أكثر توغلا في مسائل هذه الفلسفة وتأويلاتها كنصر حامد ابو زيد ومحمد اركون وهشام جعيط وحسام الدين الالوسي بيد أن أبحاثهم وطروحاتهم كانت تتوغل فكريا باتجاه عمودي تاريخي أو باتجاه افقي بنيوي بينما كانت توجهات الغذامي ثقافية تلامس ولا تتعمق، وتختار ولا تحصي، وباتجاه نقدي يجمع التراث الادبي بالتراث الفلسفي من جانب، ويواصل ربط النقد العربي بالنقد الغربي من جانب آخر.
وهو ما يتضح جليا في كتابه (السردية الحرجة العقلانية أم الشعبوية)(2) وفيه اتخذ الغذامي السرد وسيلة بها واكب الدراسات الثقافية الغربية في شكل أنموذج فلسفي إسلامي لم يتعمق فيه ومع ذلك عممه على الثقافة العربية فاتحا أيضا بابا بحثيا جديدا يتيح للباحثين التعمق في فلسفتنا وما تحويه من مجالات وفروع استحكمت عليها السردية.
وصحيح أن فكرة الكتاب قائمة على تضادية مفهومي العقلانية والشعبوية اللذين هما أطروحة الامريكي جوناثان هايت في كتابه (العقل الصالح أو المستقيم) المنشور بطبعة نيويورك عام 2012 وفيه حصر العقلانية بالفكر السياسي المحافظ والليبرالي، فإن الغذامي وسّع نطاق العقلانية عبر الالتفات إلى الفلسفة الإسلامية واجدا فيها (سردية حرجة) هي عبارة عن نسقية ذهنية مضادة للعقلانية تتمثل في(حاكمية العقل).
والسردية الحرجة أيضا سردية ثقافية اهتدى الغذامي إليها عن طريق وقوفه عند مفردة العقل في الثقافة الإسلامية، فبدا بالفقيه (ابن سعدي والالباني) ثم البلاغي (الجرجاني صاحب التعريفات) ثم الفيلسوف (الغزالي) متسائلا هل للعقل الخالص أن يتحول إلى عقل عملي؟
وبعد وقفة عند العقل الكانطي وجد أن سبب الحيرة يكمن فيما سماه الغزالي “عجز العقل” ويعني أن العجز ميزة في العقل تجعل كل علم وكل عالم يتجاوز هذا العجز بحيل معرفية “تحتال على العجز بمثل ما يحتال العجز عليها”(3).
وبهذا التخييل تكون السردية الحرجة نشاطا فلسفيا يدفع نحو الغوص فيه سرديا، بيد أن الفيصل في هذا النشاط هو كيفية انتقاء النص الفلسفي. ولا يخفى أن للفارابي منظورا خاصا للعقل هو أكثر سعة من تضييقات الغزالي ومع ذلك انتقى الغذامي نص الغزالي الفلسفي. وليس جديدا هذا الانتقاء فمنذ كتابه (الخطيئة والتكفير) وهو يقدم الغزالي على غيره من الفلاسفة ربما لأن الفلسفة ختمت به وربما لأنه الأكثر رضا عند الفقهاء بسبب وسطيته وربما تشدده ازاء مسائل تصب في باب التربية والاخلاق.
ويكون التوظيف النقدي للنص الفلسفي الإسلامي متزامنا مع توظيف النص الفلسفي الغربي من خلال تتبع معنى العجز في المعاجم الغربية وفي نصوص بعض فلاسفة العقل الغربيين والمحصلة أن العقل مفهوم يعجز عن الاستقلال الموضوعي ضد استعمار الذهن بالمخاتلات “وهي مخاتلات أدخلت البشرية في سردية متصلة من الالتباسات المفاهيمية ولم تفعل الفلسفة اكثر من شحن مزيد من الالتباسات المفاهيمية وكل محاولات تفكيك الالتباسات ظلت محبوسة عبر طرح مفهوم مقابل مفهوم وكلها تضمر المخاتلة الدلالية”(4) وهو ما يرى فيه الناقد الغذامي سردية حرجة تتمثل في تضاد التفكير بين نفس ناطقة مادية وصورة تجريدية للعقل وتحولاته غير العقلانية التي تحصل بتحول اللغة ومثاله العملي على الحرج السردي هو تجربة الابتعاث للدراسة في جامعات الغرب التي مرت بها أجيال سعودية “فكان لا بد لهذا العقل أن يتغير”(5) كأن العقل العربي المعاصر لم يشهد تغيرا إلا حين غير لغته.
ليكون الحرج العلمي لا فيما أسفرت عنه السردية الحرجة في مثاله الفلسفي الوحيد (الغزالي) بل في إعمامه هذا النموذج على الثقافة الإسلامية ثم في مثاله المحلي الذي ضربه وأراد إعمامه على واقعنا العصري.
ولا يمكن لدراسي الفلسفة والمتخصصين فيها أن يسلكوا هذا المسلك الانتقائي فيقعوا في الحرج العلمي، ولا أن تكون لهم هذه الطريقة في النمذجة ليس لأن مناهجهم العلمية لا تسمح لهم بهذا كله حسب، بل لأنهم أيضا لا يتخذون الثقافة منهجا للبحث عن الحقيقة.
وما اتخاذ الثقافة وسيلة لفهم الفلسفة سوى نوع من مشاكسة المفكرين لا بقصد إعاقة عملهم وإنما إنهاض هذا العمل بما هو غريب غير بيداغوجي عن طريق فبركة المسائل وتسخيفها أو بتمويه الجهود وتمييع الحدود والقفز على تراتبية الفروع والأبواب، اختبارا للعقل ونقضا لمسلماته الذهنية وتذكيرا بأن المعطيات لا تتأتى بالمناهج العلمية وحدها بل يمكن للثقافة ايضا أن تدلو بدلوها فتخرج من ثم بمعطيات سردية وليست علمية.
وعلى هذه الشاكلة راح الغذامي يبحث عن السردية الحرجة في أطروحة كانط الثلاثية عن العقل العملي والعقل الخالص او المحض وحكم العقل وتعاليه ثم مفهوم جون لوك للعقل الناقص، قافزا إلى الغزالي مقدما إياه عليهما، مؤيدا طرحه لمفهوم العجز العقلي. وما يتوصل إليه الغذامي من جراء السردية الحرجة هو أن الفلسفة ليست أم العلوم بل هي اختراع لا لسد حاجة، بل اختراع هو أبو الحاجة.
وأما مقاربة الفلسفة كاختراع بالذكاء الاصطناعي الذي هو أيضا اختراع إنما انبنى على تمثيلات من المجتمع الأمريكي، تدلل على ما سماه (العقلانية الاصطناعية) بوصفها عقلانية جديدة أي ذكاء جديد. وما يترتب على الفلسفة كعلم هو بالتأكيد ليس مما يترتب عليها كاختراع فالأولى تترتب عليها معرفة الحقيقة والثانية يترتب عليها الخوف من الذكاء الاصطناعي. ومن ثم تظل عقلانية هي هي قديمة كانت أو جديدة.
حرج الإحالة على الذات
بالخوف قلب الغذامي مقولة إن الحاجة أم الاختراع إلى مقولة إن الاختراع هو أبو الحاجة، فهل المسالة مسالة تبني أم أنها مسالة خوف من علم يواجه الخوف؟
لا يتضح الجواب عند الغذامي لأن القطع والتحول هي السمة العامة التي تسم أغلب مباحث كتبه. فأنت ما أن تقف على ظاهرة أو مفهوم أو جدلية ما حتى تجد نفسك وقد تحولت فجأة إلى مفهوم أو ظاهرة أو جدلية مختلفة مقطوعة عما سبقها مفاهيميا.
وإذا كانت الثقافة هي حلقة الوصل بين المباحث، فإنه وصل يشاكس ذهن القارئ ويدفعه إلى الانبهار أكثر من التعمق والى التشتت بدلا من التركيز.
وبالنسبة إلى الكتاب الذي نحن بصدده (السردية الحرجة) فإن القطع حصل في الفصل الأول وفيه عرض المؤلف موضوعة العقل والعقلانية والذكاء الاصطناعي ليقطعه متحولا في الفصل الثاني إلى موضوعة أخرى هي الهوية وعلاقتها بالمدينة بوصفها صانعة الهويات، متتبعا في البدء مفهوم الهوية في معاجم اكسفورد وكامبردج ثم وقفة قصيرة عند كتاب التعريفات للشريف الجرجاني وكتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني ورؤيته للاختلاف والائتلاف، منتهيا إلى أن مفهوم الهوية زئبقي ومن ثم هو اختراع شأنه شأن الفلسفة.
ولم يبنِ ماهية هذا الاعتبار علماً أن تمثيله على الأقليات وأنواع الهويات كان كله من داخل المجتمع الامريكي ومن منظور الرجل الابيض الذي عده الغذامي صانع الهوية وصانع معانيها، ليتحول إلى المدينة التي هي على أنواع: فمنها المنغلقة كجمهورية أفلاطون أو المتعددة كالمدينة المنورة أو بغداد أو الحديثة الطبقية كأثينا أو حديثة البناء والثقافة كالمدن الامريكية والقائمة على وجود عقد اجتماعي اساسه الاختلاف.
ويقطع الحديث عن الهوية متحولا الى مبحث جديد ومختلف هو صناعة الخوف متتبعا اياه في الاساطير والدين والعلم ثم اللغة ودورها السلبي في صناعة الخوف بـ(التواطؤ اللغوي) وفيه يجد سردية حرجة تتمثل في الضخ اللغوي المستخدم في الشاشات التي تصير (اسطورية) وما يحصل عند المشاهدة من تشابك ذهني بين العين والاذن والذهن فيصبح ما هو مألوف خارقيا. ويضرب الغذامي المثل بنفسه حين سكن في احدى الولايات الامريكية خلال فترة ابتعاثه للدراسة وكيف ان الخوف سيطر عليه بسبب متابعة التلفزيون.
وإذا كانت السردية الحرجة في الفلسفة تعني الحرج العلمي فانها في الهوية تعني القطع والتحول فيكون الخوف رأسمالا للامان الذي يصير حرجا لأنه تامين يزيد الخوف حدة وهو يزعم مكافحته وبسبب هذه الصناعة “ينشأ الزمن الثقافي كسردية حرجة طابعها الخوف من كل شيء”(6) بما في ذلك المدينة التي تصير خائفة من الراسمالية والاستهلاك “وكأن الناس يشترون شقاءهم ويزهدون براحتهم في سردية معاشية تنطوي على النقيض والمضاد في كل مظاهرها”(7).
ويأتي الفصل الرابع قاطعا الموضوع المبحوث بموضوع جديد هو لب الكتاب وبه عُنوّن ( أي الشعبوية) كسردية حرجة تعبر عن ثورة المحظوظين. ولأن الشعبوية أطروحة جوناثان هايت يغدو كتابه (العقل المستقيم) المرجع الأساس للناقد الغذامي بمصطلحات (الشعبوية popularism والشعب الحقيقي حيث اليسار شعبوي واليمين شعبوي والليبرالية الجديدة والمانوية الجديدة والتي تعني الفردانية ومقولة العاطفة تحكم أي العقل يخدم العاطفة والعصبوية أو الغالبية الاخلاقية والعدالة للاقوى والحرية للاقوى والوهم العقلاني والضد المتوحش).
وعادة ما تأتي إحالات الدكتور الغذامي إلى هايت حينا في الهامش أو في المتن وحينا آخر لا تأتي أصلا على نية أنها تُفهم ضمنا بينما تكثر إحالاته المتكررة إلى كتب الغذامي نفسه وأهمها كتابه (الليبرالية الجديدة) الذي بالكاد يخلو منه هامش من هوامش الكتاب كنوع من تأكيد أن ما يستعمله من مسميات هي شخصية من اجتراحه وأن لا فضل لهايت عليه في هذا المجال.
ونظرا للاعقلانية الشعبوية كان حريا أن يضمها المؤلف إلى الفصل الأول المعنون (العقلانية الجديدة والذكاء الاصطناعي) كما كان بالإمكان جمع مبحث الشعبوية العربية بمبحث الذكاء الاصطناعي أو ربما تقديم الشعبوية والشعبوية العربية في الفصل الاول على موضوعات الذكاء الاصطناعي والخوف والهوية والمدينة لاسيما أن التمثيل على الشعبوية العربية ــ بتسييس الدين وبالطائفية الدينية أو العصبوية وبالاستقطاب الحزبي والاقليات ــ بدا غير جديد فلقد كُثر الطرح والنقاش في هذه القضايا منذ النهضة الأدبية واذكر هنا عبد الرحمن الكواكبي وكتابه (مصارع الاستبداد) المنشور في نهاية القرن التاسع عشر والى يومنا هذا وهذه القضايا مثار الاهتمام ومن ثم تكون السردية الحرجة ضائعة وغير حاضرة في أي تمثيل من هذه التمثيلات.
وبسبب تمثيلات الدكتور الغذامي المعتادة على الشعبوية العربية وقع بشكل غير مباشر في الحرج فلم يضعنا أمام الطبيعة السردية للحرج الشعبوي العربي متجنبا بالعموم التطرق إلى دور السياسة العالمية وتبعية الانظمة العربية في تعزيز تلك الشعبوية.
وبسبب قصر المباحث وما اتسمت به من الاختزال والتحول من جهة والتركيز على موضوعة الشعبوية من جهة أخرى بدا التناول الموضوعي للشعبوية بعيدا عن أية سردية صغرى حرجة تستقطب المتضادات كالهويات والجماعات والايدولوجيات والاقليات والاعراق والثقافات بل بقيت هذه المتضادات عبارة عن سردية كبرى لها سلطة اقوى من سلطة الأعلام وعلى صخرتها تنكسر العقلانية التي هي الاخرى سردية كبرى.
ويتضح القطع أيضا بما جاء به الفصل الخامس من تمحور حول موضوع جديد لا علاقة له بالشعبوية هو العلامات الثقافية المتصورة من خلال الاستقبال الجماهيري لها وكيف تغيرت صيغ هذا الاستقبال عبر الزمن وهو ما عُنيت الدراسات الثقافية به كثيرا في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن المسائل التي ناقشها الغذامي مناقشات سريعة ومختزلة الخطابة التي تمثل زمن الشفاهية/السماعية والجريدة التي تمثل زمن الكتابة/ البصرية بينما تمثل الشاشة التفاعلية الزمنين الشفاهي والكتابي/ السمعي والبصري، وفيها تتجلى أعلى درجات العلاماتية الثقافية.
ويتحول الحديث فجأة عائدا إلى زمن الجاحظ و ثقافة العصا واقناعية الخطابة ومتحولا فجأة أيضا إلى العصر الحديث والحاضر حيث نخبوية الكتاب وميلاد الجريدة وثقافة سماع الراديو ودور وسائل التواصل الاجتماعي في انقراض الكتاب والجريدة اما التلفزيون فاستطاع تحسين موقعه مع هذه الوسائل(8).
وما نراه هو أن أجيال الانترنيت ما زالت تطور نفسها ومع ذلك نجد الكتاب حاضرا وله سوقه الرائج في العقد الثاني من الالفية الثالثة وهو إن تغيرت هيأته من صورته الورقية الى الرقمية فان وسائل التواصل لم تستطع تغييب دور الكتاب أو التقليل من نخبويته.
وهو ما يؤكده الغذامي نفسه تحت مبحث مصير الكتاب ويضرب المثل بكتبه التي تزداد أرقام مبيعاتها الورقية منافسة الرقمية منها.
أما ما رآه الغذامي في ابتكارات الجوائز لاساليب تروج للكتب المرشحة وأن فيها مساهمة في تصعيد سوق الكتاب بالاعتماد على طريقة الموضة، فباعتقادنا هو الخطر الذي يهدد نخبوية الكتب ويجعل القراء يتحولون إلى المواقع الالكترونية باحثين فيها عن كتب اصيلة لا تلعب اساليب الترويج والموضة دورا في تسويقها.
والامر نفسه يقال مع الجرائد التي لن تنهار مع تحولها من الورقية الى الرقمية كما لن يؤثر ذلك التحول في نخبويتها بوصفها سلطة رابعة صانعة للراي العام والسبب النظامية الاخبارية التي تجعلها منافسا قويا لوسائل التواصل الاجتماعي الاخرى التي توسم بالفوضوية الاشهارية والدعائية الإعلانية.
وبانتهاء الفصل الخامس يتوكد للقارئ أن كتاب (السردية الحرجة العقلانية ام الشعبوية) عبارة عن مقالات ثقافية في موضوعات كان الدكتور الغذامي قد ناقشها في كتبه السابقة التي كان قد ألفها خلال العقدين المنصرمين.
بدليل أننا لا نكاد ان نجد هامشا في الكتاب أعلاه إلا فيه يحيل المؤلف قارئه إلى واحد من كتبه للاستزادة في الموضوع ذاته، واكثرها ذكرا هو كتابه الاول( الخطيئة والتكفير) ويأتي بعده بدرجة ثانية كتابه (الليبرالية الجديدة) أما الكتب الأخرى فتأتي تباعا فمثلا عندما ذكر التمركز المنطقي لدريدا احال إلى (الخطيئة والتكفير) واذا ذكر الهوية والمرأة أحال إلى كتابه (المرأة واللغة) قائلا: “توسعت في هذا في كتابي المرأة واللغة”(9) وحين تحدث عن مفهومي جوزة الهند والبوتقة الصاهرة، قال في الهامش: “عن هذه المصطلحات ومزيد من الحديث عنها انظر كتابي القبيلة والقبائلية”(10) واذا تحدث عن المضمر النسقي والمماثلة والمغايرة احال الى كتابه (النقد الثقافي)(11) والامر نفسه مع كتابه (الثقافة التلفزيونية)(12).
وإذا حملنا هذا التذكير على محمل الاستزادة التي ينبغي على القارئ ان يتحصلها، فان الحراجة تظل قائمة بالتساؤل لماذا يعيد المؤلف مناقشة مسائل كان قد أفاض القول فيها في كتب مستقلة فضلا عن الانطباع الذي تتركه كثرة الاحالات على القارئ، واجدا في الكتاب خليطا مختزلا غير واف ولا متجانس من الموضوعات الثقافية فكأن الكتاب كشكول يقدم وجبة سريعة لكنها دسمة من الزاد الثقافي غير السريع الهضم.
وعلى الرغم من أن الكتاب موضع الرصد هو نفسه سردية حرجة مخترعة لا عن حاجة، وإنما هي حاجة وليدة اختراع فرض ترتيب الفصول بهذه الصورة المتشعبة وغير المتناسقة. فصار القطع والتحول سببا في جمع موضوعات ثقافية متنوعة تتمثل في: اللاعقلانية والهوية والخوف والشعبوية والعلامات بلا محدد منهجي سوى ثقافة الحرج التي عدّها المؤلف سردية صغرى لكنها صارت كبرى مع الشعبوية وضغط وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي.
الإحالات
(1) الخطيئة والتكفير، د. عبد الله الغذامي، منشورات النادي الأدبي بجدة، ط1، 1985، ص44.
(2) السردية الحرجة العقلانية أم الشعبوية، عبد الله الغذامي، دار الشؤون الثقافية، طبعة بغداد، 2019.
(3) المصدر السابق، ص36
(4) المصدر السابق، ص28ـ29.
(5) المصدر السابق، ص19
(6) المصدر السابق، ص85
(7) المصدر السابق، ص88
(8) ينظر: المصدر السابق، ص141ـ142.
(9) المصدر السابق، ص135.
(10) المصدر السابق، ص54.
(11) المصدر السابق، ص56.
(12) المصدر السابق، ص42