أيلول/سبتمبر 12
   
 
ابتداءً لا بد أن نقدم فكرة النقد وأهميته على نحو مبسط، على الرغم من اختلافات الرأِي في تثبت التعريف وبنيته، فالنقد بأبسط تعريف يعد منظومة معرفية تحاول تحقيق (الفهم والوصف والتحليل، وأخيراً التقييم، ونادراً ما يتجه نحو التقويم)، وهي تتابعية ترابطية تفاعلية، بمعنى ابسط أن علاقة إحداهما بالأخرى علاقة ضرورة ومسبب وغاية، فغاية الفهم الوصف وغاية الوصف التحليل ومن ثمَّ يكون للتحليل رأي يعتمد فكرة أو عقيدة يعلن بها القيمة الافتراضية للمادة المنتقدة (التقييم). وعندما نقول من ان الندرة في النقد تحقيق (التقويم)، لأن في (التقويم) اشكالات واختلاف انتماء، والاختلاف في الاقيسة و المعايير، و لاسيما في ابداعات الحداثة و ما بعدها، فضلاً عن أن (المقوم) لابد أن يكون بدراية عالية في جزئيات ومرجعيات وتقنيات المنجز المفترض تقويمهُ، إلاَّ أن في تاريخ الفكر الجمالي المعاصر ما يرفض فكرة (التقويم) البتة، كما قدم (بنديتو كروتشه) فيلسوف الحداثة واحد منظري حدس الابداع في الفن. وعليه يمكننا ان نعرّف النقد بوصفه ظاهرة فكرية تعتمد على فهم دقيق وتحليل مبرمج لمنجزٍ ما، أو ظاهرة ابداعية معينة، فللنقدِ مستويات في مُركبهِ من البسيط الوصفي الى المركب التأويلي المتفلسف باعتماد أنظمة وأنساق مجاورة يحقق تفاعليتها في الخطاب النقدي، ولأنه متسلسل يبدأ بانعكاس الفهم الى الوصف وصولاً الى افتراضات منطقية تعتمد الرؤىً الفكرية المتفلسفة، نجده بهذا متسلسلا يستدعي معارف وظواهر فكرية ويجسدها في الخطاب النقدي، الأمر الذي أحال النقد الى اتجاهات ومناهج يتصف بها ويعتمدها في آليته.
إلاَّ أن في معادلة النقد مركزا مهما وفاعلا يتمثل بلغته أو لغته التي تكون البناء الظاهري للخطاب النقدي، ومنها تتولد (مثاقفة) تستدعي محيطها ومؤثراتها ومن ثم تعتمد تداولات المحيط الثقافي وضواغطه، وعندما نذكر الضواغط نجدها متنوعة، بعضها فاعلاً متميزاً، حسب معطيات الزمان والمكان، فضواغط الزمن المختلف تتبع بيئتها وظروف الحياة وطبيعة التعامل الانساني فرداً مع الآخر أو فرداً مع مجتمعه، ومنها الضاغط الاقتصادي النفسي الاجتماعي، فضلا عن الظروف السياسية والاقتصادية ، وصولاً الى اثر البيئة بأنواعه المتنوعة الشاملة .
إلاَّ أن ما قدمته التكنولوجيا ولا سيما وسائل الاتصال السريعة والمباشرة، اسس ضاغطاً جديداً وأنهى ضواغط كانت سائدة، على الرغم من أن هذه التكنولوجيا لم تكن مفاجأة بل لها تتابع تراكمي في النمو، الى أن وصلت في أعلى طاقاتها، ونقصد بها وسائل الاتصال السمعية والمرئية المتجسدة في (الانترنيت) بوصفه ضاغطاً جديداً يتمثل (بالعولمة) الذي أثر ويؤثر حتماً في بنية الانتماء الفكري وما يتبعها من سلوكيات تنتقل من ممارسة الثقافة الى ممارسة بناء وتشكيل الهيئات والتصرفات الفردية الانسانية.
ضاغط العولمة يشكل (مثاقفة) منتقلة من بناها الشكلانية الى الاعماق الفكرية، وفي نموها تؤسس البنى الفكرية والسلوكية بضاغط (العولمة) بدعائمها التكنولوجية التواصلية، بآثارها في بنية التذوق الفردي والجمعي، ومن ثمَّ في بنية الخطاب النقدي الذي يعتمد في جزءٍ منه على هذه البنية التذوقية.
إلاَّ أن موضوعة (المثاقفة) في تفاعلاتها الفكرية عاشت متحولات انقلابية مع بداية القرن العشرين، بمرجعيات يمكن أن نلمسها مع الثورة الفرنسية وحركة العلم في تفسير الطبيعة كما هو الحال في آراء دارون وفرويد ومندل، وحركة الاقتصاد ونموه ومظاهر تطوره كما اشار (ماركس) و(انجلز)، وأخيراً انفعالية (نيتشه) ودعواته التي امتزجت بظاهراتية هوسرل وانقلبت الى وجودية مشاكسة فاعلةً نتلمسها عند (هيدجر) و(سارتر) لتشكل مع برجماتية (تشارلز بيرس)  و(ليم جيمس) و(جون ديوي) بنية الظاهرة الحداثوية في الفكر من (كادامير) و(هابرماس) و(دولوز) و(دوتوروف) و(كوهن) و(فرانسسوا ليوتار).
و (كان هناك وقت اشترك فيه الله والانسان والطبيعة واللغة كل في الاخر وكانت العقيدة ... الرأي يتفق مع داريدا في ان السيناريو التاريخي أعيدت كتابته مرات كثيرة بمفردات وانظمة مختلفة)(1)، ويمكننا أن نزعم أن (نيتشه) بانفعالاته العدمية وبثوريته المشاكسة، أرسى فكرة الحداثة وما بعدها، واستشرف مظاهرها في كتابات المفكرين الحداثويين في القرن العشرين، حتى ان الكثير من محللي الفكر المعاصر يعدّوه (نيتشه) الملهم الأمثل للحداثة وما بعدها.
ولأن النقد خطاب (ثقافة) فهو بالنتيجة الموضوعية خطاب (رأي) يعتمد في آليته ونظمه على (تفلسف) يعدُّ ملهماً وموجهاً لهذا الخطاب الذي نسميه نقداً ولأنه خطاب واسطته (اللغة) بوصفها اداة فاعلة في ظاهرِ وباطنِ رؤيتهِ، فهو بالنتيجة (لغة نقدية) أو (نقد بتأسيسٍ لغوي)، وكما يقول (هابرماس): “ان اللغة تلعب دورا رئيسيا كبيرا في الهرمونطيتا (التأويل) على وفق ما قدمه (كادامير)، فهي ليست مجرد نظام لغوي يخضع لبعض القواعد لأنها من الاساس حوار وعلامة بالاخر.....فيها ارساء الفهم، وبها النفاذ الى عقل آخر”(1).
وعليه، فان اللغة برغم انها ذات مؤسسة (صوتية) تعتمد النطق والسمع الا انها متعالقة بفكرة تصورية في الذهن الناطق والسامع، واساسها التواصل بين ذهنين وإذا انقطعت فتنقطع حتما البنية التواصلية في الفهم، ولأنها تعتمد الفرد والجمع فهي تعالق الفرد في الجمع والعكس صحيح، ويمكننا ان نقول ان اساس البناء الجمعي يتمثل في النظام او المنظومة اللغوية.
وعليه فان رأي (امبرتورايكو) في كتابة (السمياء وفلسفة اللغة) يعلن ان نجاح التواصل يتطلب نجاحا في عملية تواصلية، وعندما نقول عملية فهي تفاعلية تتركب مع منظومة دلالات ذات تأسيس فكري توظف في سياق او مقام معين(2).
وعندما نستدعي برجماتية التواصل ابتداء من (تشارلس سندرس بيرس و  وليم جيمس) وحتى في فلسفة اللغة التي قدمها (جون دوي) محاولين تفعيلها مع طروحات (جومسكي) في دراساته اللغوية يتبين ان  لمنظومة اللغة مجموعة بواعث وتفاعلات اهمها الموضوع او الفكرة والرسالة وآلية الارسال ونظام الدلالة وامكانية الاستقبال. كل هذا حقق الصورة الكلية من البناء النهائي المشكل عند المتلقي او حتى آليات او الباعث للرسالة، وكما يقول رولان بارت في (درجة الصفر للكتاب): “ان اللغة مؤسسة على الكلام الاجتماعي، مأسورة بالوصف”(3).
وإذا ما اتفقنا على ان اللغة نسق تواصلي تحليلي في بنية الفكر نجد انها نظام يتفاعل جدليا، ويولد ما يعد نتيجة وتطورا للفكر ذاته، فهي منظومة وحدات تفاعلية تتشرب من محيطها الحيوي (الحياة) ما يمكن ان يحقق التطور الجديد.
فهي “ليست منظومة الفاظ فقط وآلية تركيب بكلمات لتؤسس الجمل، بل هي نظام تفاعلي لا بد ان يولد ما يعد جديدا”(4).
فاللغة يمكن ان تكون (نظاما من المفاهيم تحتاج الى اداة للتواصل فهي مبادئ مفسرة الى اللغة من كيانها بمقابلته بالأشياء او الظواهر التي تباشرها)(5).
وعندما نستدعي مؤسسات واركان نظريات اللغة عند (سوسير) نجدها (نظام من العلاقات لا يمكن حصرها وعدها. مؤسسة بأصوات معبرة عن افكار تعتمد نقلها، فاذا لم تكن بهذه الوحدات فهي مجرد اصوات. ان اللغة تكون جزءا من نظام من الاعراف يربط بين الاصوات والافكار، وبعبارة أخرى ينبغي لا ان تكون جزءا من العلامات، والعلامة هي اتحاد بين شكل وفكرة يدل عليها)(6).اذا ما آمنا أن (اللغة مولدة للأفكار حسب الألسنيين وفي مقدمتهم (فردناند دي سوسير)، بتأكيده ان اللغة (نظام اشاري لأي طبيعة فيزيائية)(5). ولأنها (نظام) فهي منتجة بفاعلية هذا النظام، ولأنها اشارية فهي تواصلية بين مرسل ومستلم ولأنها نظام منتج تواصلي فأنها معرفية تبين الأفكار ومن ثمَّ فهي في دائرة الجدلية تفاعلية بين تواصليتها وبيئتها السسيولوجية، والامر يحيلنا على وفق (كادامير) الى ان تكون برجماتية تستشرف استدعاء انتماء الآخر الى رسالة المرسل. هنا تتجسد مهمة النقد، ولأننا في منطقة النقد الحداثة وما بعدها فان لغة النقد وبيئته (الأبستمولوجية) تستدعي بيئة هذا (القرن) وتفاعلاته بعده (قرناً استثنائياً) - القرن العشرين - في تاريخ المجتمع البشري.
والأمر يكشف عن تحولات ثقافة الحداثة وتطوراتها الى ما بعدها.
بذلك تنكشف المسلَّمة التي قدمتها الدراسات النقدية وفحواها: أن النقد يتبع مادته المنتقدة ويتفاعل معها تفاعلاً جدلياً في الأثر والمؤثر، ومن ثمَّ النمو والتطور، نجد ان هذه المسلَّمة تستدعي في (نقد التشكيل) بوصفه فنا يعتمد أنظمة تركيبية للأشكال والألوان استدعاءً تداخلاياً في بنية التذوق التي هي بنية وعي وانتماء، إذ أن المتحول من الرومانتيكية الى الانطباعية وما بعدها من حركات فكر في اداء وفكر في انتماء (سايكوابستمولوجي)، لم يكن تحولاً اعتباطياً صاغته الصدفة أو ظروف لحظوية تحكمت في هذا الوعي، المؤسس لبنية تذوقية انتقلت بسرعة من القلة  المشاكسة الاستثنائية الى الكثرة، حتى صارت متداولة شائعة في المجتمعات الاوربية المختلفة.
ان نقد الحداثة في الفن ولا سيما فن التشكيل يعتمد الحداثة ذاتها في أدائها وانفعالها وأهدافها، فكان للرفض النيتشوي والتهكم الهيدجري والمشاكسة السارترية وتقويض الايقونات الشعرية لدى (رامبو) و (تازارا) و (بريتون)... أثر في بناء واضح في الرسائل الشكلية التعبيرية كما في (وحشية ماتيس) وتكعيبية (بيكاسو وبراك) ومستقبلية (بالا) ودادائية (دوشامب) وسوريالية (دالي) و(أرنست) و(ماركريت) والتعبيرية الوجودية لـ (البيرتو جياكومتي). انه نسيج ابستمولوجي تتفاعل به الأشكال والكلمات، لتصنع تذوقاً ظهر لنا بلغة نقدية نسميها (نقد الحداثة وما بعدها) كما هو حال النقد البنيوي والسيميائي والتفكيكي... وصولاً الى التداولية والتأويلية (الهيرمنيوطيقية).
ان هذه النتاجات الفنية الفكرية بتمثيل ابيستمولوجي لعصرها ما هي الا تعبير دقيق عن صورة الصراع بين الانسان كفرد وبين الانسان كجزء من مجتمع يحمل هوية يتصف بها ويحاول ان يؤكدها مع مجاوراتهِ التي يتصارع معها. انها بدايات للظاهرة العولمية الجديدة بآلية المثاقفة، بكل الطاقات التواصلية التداولية. وعليه تبين ان المثاقفة تعني التزاوج والتلاقح والتفاعل الثقافي بين شعوب العالم المختلفة، ولان الانسان يحاول جاهداً ان يعيش بأعلى مراحل التوازن والانتصار على كل معوقات حياتهِ، فنجد ان العوالم المتطورة تكنولوجياً واقتصادياً والمنفتحة اجتماعياً تغري العوالم المتعثرة. وهنا تنبري المثاقفة بقوة من تلك العوالم المتطورة في مجالات الحياة المختلفة ولاسيما الاقتصاد والمال والتكنولوجيا نحو العوالم التي تعد متخلفة في ذلك، والواقع العملي يمثل هذا الافتراض ويكشف كيف تتأثر شعوب الشرق المختلفة بمظاهر الحياة الامريكية والاوروبية الغربية.
الا ان فكرة المثاقفة لا تعني فقط ذلك السلب والنكوص بل انها تمتلك نوعاً من التلاقح الايجابي، وهذا ما تحقق مع المثاقفة البصرية في فن التشكيل على مستويات الدراسة الجامعية وعلى نحو خاص عند الفنانين الذين درسوا في اروبا الغربية (بريطانيا) واستطاعوا بتناصاتهم ان يحققوا مثاقفة ايجابية باستدعاء المفيد المتطور الفاعل جمالياً وفنياً في جسد مظاهر الهوية الشرقية العراقية بمفرداتها ونظمها المختلفة، اذ تشبع فكر الفنان الشرقي وخزين بصرياتهِ الفنية الجمالية بمفردات الهوية الشرقية، فأحالها بتناصٍ تثاقفي الى نتاجات يمكن ان تكون معبرة عن تلك التي يهدف اليها الباحث في بيان تناص المثاقفة البصرية.
ان المثاقفة تؤكد التثاقف بتفاعلية منتجة مولدة بين مظاهر فنون تبدو مختلفة او بعيدة، وهذا التثاقف الذي هو اساس المثاقفة يحقق مختلف الاشكال والمظاهر، بعض منها امتصاصي المنحى وبعضها الاخر اقتباسي والاخر اسلوبي او اشاري، فالمثاقفةُ هنا لا بد لها من تناصّات بأشكالها المختلفة.  ان تناص المثاقفة البصرية لأي منطقتين مختلفتين تعتمدُ القصد والدراية بل لا يمكن ان تتحقق الا بخبرة متميزة، وما يثبت هذا الرأي ان محققي التناص المثاقفي هم من المبدعين الذين يمتلكون نتاجات فنية لا خلاف على مستواها الابداعي والفني.
*************
الهوامش
(1) عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية الى التفكيكية، الكويت، عالم المعرفة ،1998 ص 58-59.
(2) ابو النور حمدي: يورجين هابرماس، الاخلاق  والتواصل ، لبنان ، بيروت، دار التنوير، 2009 ، ص146.
(3) رولان بارت ، (درجة الكتابة في الصفر) ترجمة محمد نجيب خشمه ، مركز الانماء الحضاري ، 2002 ، ص 107.
(4) رولان بارت ، المصدر السابق ، ص 107 .
(5) انظر ذلك: روبيرت مارتان ، مدخل لفهم اللسانيات ، ترجمة: عبد القادر المهيري ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2007 ، ص413 . روبرت مارتان: عضو في المعهد الاكاديمي واستاذ في جامعة السوربون، درس اللسانيات العامة والفرنسية، وله مؤلفات عديدة في هذا الموضوع.
(6) جونثان كلر ، فرديناند دي سوسير، اصول اللسانيات الحديثة وعلم العلامة ، ترجمة : عز الدين اسماعيل ، القاهرة ، المكتبة الاكاديمية ،2000 ، ص72، نقلا عن عبد العزيز حمودة المرايا المفكرة ، الكويت ،2001،ص202.