بينه، وبين ما كان، بحيرة من صديد.. من زمان غير محسوب يبحث عن ضياعه .. عن – ربما - مخلوقات اختفت عنه، فجأة، ثم أشرقت بين عينيه .. مثلما تشرق الشمس، وتذوب في أصيلها .. عند ذاك البعيد. هذا ما أحس به، كأنه شجرة نخرتها العفونة . هكذا هو .. مسجى على فراشه ليل نهار أمام نافذة تتطلع – بشراهة – في عينيه . . ربما كان مشلول الذهن، أو مشلول الجسد، أو .. ما فكر، أو جرب أن يحرك – منذ الإفراج عنه – هذه الكومة المتقيحة من مرقدها.
ربما النسيان.
ربما الكسل.
ربما الملل.
وربما شيء آخر ما عرفه أو شعر به.
النافذة في غرفته، لم تغلق ابداً .. كأنها متفقة تماما مع أهوائه .. ربما لتعريه .. وتكشف دواخله المتضاربة .. المتصارعة .. و تحيله الى هاجس .
حتى الشمس، لا تشرق إلا ليعمي ضوؤها النافذ عينيه. وحين تغيب تدخل الظلمة روحه القلقة، الهائمة الى حيث لا يعلم .. وحتى النجوم شاهدة عليها .
وهذه الازقة المحيطة به .. والتي أحبها حتى العشق .. لا يرى حتى في صمتها الآن، إلا ضجيجا مكتوما، مزعجاً، يمزق مسامعه ويذكره بشيء غاب عنه، ويوقظه من نومه القلق . وحتى الفراش الذي يرقد فيه، يذكره – بخبث – انه واسع عليه .
ما نمتُ .
فاجأني الفجر .
آه .. انه الفجر .
ما أحلى طلوعه .
وما أشد مرارته في آن!
نهضت متكاسلاً (في الحقيقة لم أكن متكاسلاً، بل قلق .. وشيئا من رهبة دفينة ما عرفتها سابقا تحاصرني كطيف .. ).
قبلت جبين زوجتي النائمة بعمق . وقفت وسط الغرفة وعيناي تمسحان سقفها وجدرانها وأرضيتها، وللمرة الأولى، أحسست ولا أعرف لماذا، ان رطوبتها تتسرب الى أحشائي وعظامي .
دخلت المطبخ. أحضرت شاياً ملأ جوفي دفئا. أما الاستكان الأخير فقد انعشني كليا.
لملمت ما أحتاج اليه، وما خبأته . وقبل ان افتح الباب لأخرج، وقفت أمامي – كأنها تترقبني – أُمي، بفوطتها الداكنة الزرقة، وجلبابها الأسود الذي ما غيرته منذ ممات أبي، وضوع حليبها الذي أرضعتني، ما زال يفوح منها. قالت لي بحزم يغلفه حنان كبير: (سأنتظرك .. لا تتأخر عنا .. إحذر يا ولدي ) . وهجمت تحتضنني . ترى من أين عرفت اني خارج بمهمة لها مخاطرها في هذه الأيام العصيبة، وعلي إنجازها بحذر شديد في هذا الفجر ووداعها لي أمام الباب بهذه الجرأة وهذا الهدوء القلق !؟ . ما من دمعة خرجت من عينيها .. تركت الليل وراءها – مثلي – لتنتظر الفجر .. تنتظر قبل أن أخرج لتودعني .. وزوجتي في فراشها.
خرجتُ.
كانت الأزقة تحتضن عتمة الغبش الضبابية. وخيوط الفجر الشباطي البارد تتسلل بين احضانها وسواقيها وتوقظها .
أحس معطفي بدفء رائحتها المتدثرة برطوبة جدرانها ومزاريبها. كانت المقاهي تغسل تواً أشياءها، وتغلفها أضوية مضببة، وتنبعث منها روائح شايها، ودخان أراكيلها العطن، وأنفاس زبائنها المتعرقة، المتأففة والمتحسرة، كأن نداوة الليل والفجر خمرَتها وبصقتها في جوفي . شعرت بغثيان سرعان ما تبدى حين رأيت أضوية الشارع الذي أقصده. كان الشارع خاليا. ومشواري غير بعيد، وضوؤه ما فارقني. وصلت الى تقاطع الطرق .أعرفه جيدا . تطلعت حولي . ما وجدتُ شيئا مقلقا . وحين عبرته، أحسست بضيق يغلف صدري، ويجعل قدميّ تقللان المسافة بينهما. شعرت بهاجس غريب ما عرفت كنهه.
أصبح صمت الشارع، ضجيجا في داخلي.. وخلاؤه هاجسا غير مريح. وصدى صوت أُمي قبل أن أخرج يصم أُذنيّ.
دلفت بأقرب دهليز معتم.. أعرفه جيداً، ويؤدي الى أزقة ضيقة ومتفرعة. توقفت برهة. تنفست عميقاً. ثم بدأت أراقب الشارع. كل شيء هادئ .. ربما هواجسي في غير محلها .. انتظرت بعضا من الوقت، وأنا أُفكر .. ما العمل !؟ أُغيبُ نفسي في هذا الدهليز وأنسى المشوار رغم أهميته الكبيرة !؟ أم انها هواجس لا غير .. قد تؤدي لا الى الحذر .. بل ربما الى جبن دفين أحيانا!؟
هالتني هذه الكلمة .. ثم كيف أُبرر غيابي !؟ مجرد خواطر؟ تنفست عميقا وبهدوء .. تحسست معطفي ناحية الصدر وما تحته .. احسست بالطمأنينة .. وطردتُ فكرة البقاء في الدهليز وعتمته وهواجسه .
ما زال الشارع خاليا .. واضواؤه الخافتة تنعكس ظلالها بين قدميّ. ما كان المشوار بعيداً .. عاودني الفرح .. وانتصرت على مخاوفي وقلقي وهواجسي التي كانت في غير محلها.
بيني وبين مشواري خطوات، ربما تعد بالأصابع. ابتسمتُ.. وتقدمتُ نحوه .. كانت عيناه جامدتين وسيجارته ترتجف بين أصابعه. وفجأة .. أضيئت مصابيح عربات سود وقذفوني داخل إحداها.
ما تركه النسيان أبداً. وهذه الذاكرة العنيدة، اللعينة تستعيد فحولتها، وتغلف شرنقتها جوفه، وتتحداه الرؤى، وتأتيه مكورة على بعضها، مثل كرة ثلج، تكبر وتكبر، ثم تسحقه عذابا ووهما. ودائما تستفيق أُمه على صراخه، وتستعيذ .. وتستعيذ . قال لي الطبيب : عليه أن يغادر فراشه، يتحرك داخل الغرفة، ربما خارجها أفضل، ويترك عفونتها. ماذا أعمل؟ يسمعني ولا يسمعني .. نظراته داكنة مهمومة، وفيها مزيج من حنان.. ندم .. ربما البحث عن شيء مفقود .. هكذا هو منذ ان أفرجوا عنه .. فاقداً كل أمل في الحياة .. أنا أتفهمه .. ولكن الى متى؟ سمعتُه مرة يقول كلاماً يتلجلج بين شفتيه : علام يلتئم الجرح ؟ ليفتح من جديد .. يتقيح .. ويأكلني الصديد ؟ هذا ما سمعته من وراء الباب .
كان ضوء الصباح يتكسر في عينيه فيؤلمه، وضجيج الزقاق يملأ غرفته. فُتحَ البابُ على مهل . ظهرت أمه حاملة صينية الشاي . بهتت حين رأته متربعا في فراشه وعلى وجهه ابتسامة باهتة ربما خجلة. كادت الصينية - من فرحتها تسقط من يديها .
سبحانك ربي!
صباح الخير أُمي.
كانت كلماته متكسرة متلجلجة، وعيناه ما فارقتا فراشه. ارتشفا الشاي مع قطع قليلة من (الكليجة). وقبل أن تغادر قالت والابتسامة تحلي وجهها ذا التجاعيد الحزينة والجميلة في آن:
ماذا يعجبك أن تتغدى؟
لا داعي .. يعجبني كباب السوق . سأتغدى هناك. كانت الفرحة تملؤها. ثم أغلقت الباب .
كانت الظهيرة في باب المعظم، مشرقة، ما عدا بعض السحب الداكنة والبيضاء، تعج بالمارة والجالسين وأصحاب العربات. ساقته قدماه - دون أن يدري - الى ( الموقف العام ) وتسمرتا أمامه .. وكذلك عيناه . انزلقت قطرات العرق على جبينه وتجمدت.
أحس بكرب ثقيل يجثم كالوحش على صدره، وشعور بالتعاسة والخذلان. فـ(اللعبة) انتهت .. وربحها الآخرون.
همس بأسى:
وانتهيت أنا أيضاً .. كان علي أن أربحها أنا.. لا هم .. ما كان علي أن أنتهي هكذا! حين ترك أصواتهم وضجيجهم وقباحتهم خلفه، تملكه الكابوس الذي ما فارق لياليه ويشدد عليه الخناق أبداً .. سلبوه كل شيء.. نفسه.. هي .. أجهضوها فأُجهضت روحها .. وأصابع الإتهام تشير اليه بامتهان ومذلة. حاول أن يملأ رئتيه هواءً، فوجده عطناً.. نتنا .. فزفره وبصق بمرارة وندم .. فما خلفوه عنده لا ينسى أبداً . انطلقت من حنجرته صرخة مذبوحة .. مكتومة:
أولاد الـ .. سرقتموني يا أولاد الـ.. .
كانت ( اللعبة ) قاسيةً . تحمل الجزء الأعظم منها . .
ما غامره شك بإرادته .
أياماً وليالي ما حسبها، ولا فكر أن يحسبها، ملقى في سرداب مظلم، تفوح منه روائح جثث آدمية متعفنة.. وأنين يدمي القلب، وخلجات مكتومة وسعال مذبوح . كل هذا ينبعث من جوف عميق .. لا يعرف قراره.
كان عارياً تماما، ممدداً على أرضية السرداب . لزوجة الدم والبول والغائط، تشرنق جسده المنتفخ قيحاً . ما تمتم أو اعترف بشيء. قضم لسانه. صر على أسنانه. لن ينهار أمام الممسوخين . آه .. لو انتهيت ساعتها .. لو حبست أنفاسي ومتُ مخنوقاً.
جحظت عيناه الداميتان، المنتفختان حين وجد زوجته الحامل، طرفاً في (اللعبة) .. وقد تحلقت الأكف حول جسدها وهي عارية تماما .. عارية بين غرباء تشبعت عيونهم وقذارتهم بدم الاغتصاب. كانت تستغيث به .. ولا يستطيع أن يفعل شيئاً من أجلها، سوى أن ينتهي وينهي عذابها وعريها.
قال قصيرهم وهو سيدهم:
أيُ زوج سيئ بلا رحمة أنت !؟ أليست عندك غيرة، أو ضمير؟ أهكذا علمتك المبادئ، ان تعرى زوجتك وتغتصب أمامك، ولا تنقذها بكليمتين أو ثلاث؟ أيُ خنزير حقير أنت؟
ما عادت عيناه تريان إلا أشباحا وصوتها المستغيث يكبر .. ويكبر صداه في كيانه فيمزقه الى شظايا. ما كان عليّ أن أستسلم أمام عريها، وأنهار أمام اغتصابها. اغتصبونا جميعا منذ أمد.. منذ ان أتوا.. أعطيتهم كل ما يمكن ليبقوها لي.. فخسرت نفسي وخسرتها. ثم عرفت بعدها أنهم أجهضوها باغتصابهم لها، فأُجهضت روحها.
تعبت قدماه في شارع الرشيد وأزقته ودهاليزه الضيقة. نسي حتى غداءه ( الكباب). رغب في احتساء الشاي، عله يبدد بعضا من صداعه. سحبته قدماه الى مقهاه القديم، المنزوي في زقاق ضيق، لكنه نفه. هذا ما احس به . تطلع في وجوه زبائنها.. ما عادت القهقهات والابتسامات تعلوها .. بل شحوب وكآبة، وغمغمات وهمسات مكتومة، ومقامات (الكبنجي ويوسف عمر)، وقرقرات أراكيلها وضربات الطاولي والدومينو تملأ جو المقهى الضبابي الكئيب. أسند ذراعه على كرسي قريب منه. مسح العرق من جبينه. أغمض عينيه. تخيل ان في وجوه الجالسين خيوطا ونسجا من عنكبوت، تغلف أفياءهم، وبريقاً – سرعان ما يذوب – يقدح من عيونهم، ويحفر مثل المخيط اعماقه وذكرياته، ويهدم كامل وعيه، فهو قد انهار أمام (اللعبة). دفن رأسه بين راحتيه. هذا الرأس الذي كان بوصلته دائما.. لماذا خانه؟ .. أما تذكر ما قرأه (اذا أراد الرأس، فلا الفم أو المؤخرة ينطقان). تمنى ان يدفنه في الأرض لا بين راحتيه فحسب، وينتهي .. مثلما انتهى هو .
جلس على كرسي الغوص العتيق كان بجانبه، صرصرير أخرجه من كابوسه. نظر حواليه .. الكل منشغل ومهموم. أحس بشي ء من الطمأنينة.
طلب (نركيلة) و(استكان شاي ثقيل).
تأمل الزقاق، رغم ضيقه، يعج بأصوات متداخلة، وعربات حمل مستهلكة جرها أشباه مخلوقات آدمية، لا يغطي أجسادها سوى ثياب متهرئة، ممزقة ومرقعة يغطيها التراب، فاصبح لونها ترابياً.
أخذته حسرة عميقة. أخذ نفسا طويلا من دخان (نركيلته) وحبسه قليلا في رئتيه، وأخرجه من منخريه. احتسى شايه الداكن بلذة إفتقدها منذ زمن بعيد، وطلب آخر .
آه .. أيتها الذكريات. إتركيه هنيئا بهذا الشاي والاركيلة.
أما كفاه؟ لكنها عاودته .
اتهموه مرة بقتل شرطي في إحدى التظاهرات .. ربما كانت وثبة . وضعوه في سجن في محلة (الشواكة)، مع مجرمين وسراق وقتلة.
سأله أحدهم، يبدو كبيرهم:
لمَ أنت هنا ؟ !
متهم بالقتل !
غسلا للعار ؟
لا طبعاً - معاذ لله - قتل شرطي .
قرب فمه من أذنه وهمس بشماتة وتشفي:
قتلته؟
لا .. لم اقتل أحداً . كنا في تظاهرة، وحين وقعت بين أيديهم، كانت معي هراوة.
لم تضرب بها؟
لا .. للدفاع فقط .. لم أضرب بها الشرطي .
كيف اتهموك إذن؟
قالوا (اذا لم تعترف على رفاقك، سنتهمك بالقتل!).
إذن انت سياسي؟
نعم . .
ضد الحكومة؟
نعم.
ماذا تعمل؟
عامل مطبعة وطالب حقوق . .
هل اعترفت؟
لا .. ولن اعترف.
حسنا. اسمعني جيداً . انا مجرم .. قاتل .. سمني ما شئت . ربما سيحكم علي بالإعدام، أو المؤبد في أحسن الأحوال. طلبوا مني أن أخون (جماعتي)، وأعترف عليهم، ويخففون محكومياتي.
اعترفت إذن؟
أبعد رأسه عنه بسخرية وغضب، وأسند ظهره على الحائط، وهتف بانزعاج:
لا لم ولن أفعل. كيف أخون (جماعتي)؟ ما زلت شريفا وضميري حيا.
ما هو الشرف والضمير عندك.. أو . .
عب دخان سيجارته، ونفثها في وجهه بانفعال وقاطعه:
إسمع .. انا لست مثقفاً .. ولا حتى دارساً . لكن الحياة علمتني ان الشرف والضمير ان لا أخون (جماعتي) مهما كان .. حتى لو أصلب . وهذا ينطبق عليك ايضاً .. حافظ على شرفك السياسي. عاوده الصداع من جديد. كيف نسي هذا في محنته الأخيرة، وفي اللحظة الحاسمة؟ وكيف انهار أمام عري زوجته ونسي شرفه السياسي؟
اغتصبونا قبل ان تعرى زوجتي أمامي. ضيعت شرفي وضميري أمام عريها. ماذا ابقوا لي أولاد الـ ... ؟ جسد بلا رأس ؟
سياسي بلا شرف ؟ زوج بلا زوجة ؟ حتى أمي، حين أفرجوا عني، رغم فرحتها الكبيرة، وهلاهلها الملعلعة، أحسستها تشاركني همومي وندمي. ما كان وجهها مشرقاً كما عرفته .. ما عدتُ موجوداً.. رموني في مستنقع .. وهاأنذا أغوص به حد الهامة .. حد القاع .
ترك المقهى. مشى بلا هدي ولا هوادة في الشوارع والازقة. توقف برهة ليستذكر. حول قدميه الى إتجاه آخر . استنفذ نصف سجائره حتى وصل.
وقف يتطلع عن بعد الى بيت قديم، منفصل عن البيوت الأخرى . كان يحفظ كل شبر منه.. خارجه وداخله . عاش فيه سعادة زمن مليء بالمخاطر والمسؤولية والقلق والخوف. لكن الفرح والطمأنينة ما فارقتاه أبداً.
في إحدى ليالي تموز المقمرة، وعندما انتهيت من طبع آخر المطبوعات، سمعت فجأة، لغطا وضجيجا يقترب من الدار، ووقع أقدام متسارعة. أوقفت ماكنة الطبع. رحت أسترق السمع جيداً . تحول وقع الاقدام الى ضربات قوية.. ثم طقطقة بنادق. انهم توزعوا.. انتشروا وحاصروا البيت. ماذا يمكنني فعله؟! لا شيء ابداً .. انتهى كل شيء .. ضاع .. تبخر .. المنشورات التي طبعت تواً، ورائحة الحبر تفوح منها.. ضاعت .. ماكنة الطبع .. عروستي .. أستولدها خبزنا الحزبي .. ضاعت .. كل شيء ضاع .. كبستنا الشرطة.
وانتهى كل شيء. لا مجال حتى للهرب . عبت رئتاي رائحة الحبر والورق الندي . خيل لي اني أتنفسها للمرة الأخيرة . بقيت هكذا .. ساكناً .. مصعوقا .. هذه البضعة دقائق خلتها دهراً . أرهفت السمع بتركيز شديد .. الحركة بدأت تخف.. وتخف .. حتى تلاشت تقريباً .. استرجعت شيئا من اعصابي المنهارة. أطفأت الضوء ..خرجت من السرداب بحذر وخوف، كان ضوء القمر الخافت يغطي نصف باحة البيت. كل شيء هادئ .. ساكن .. الا انا. دخلت الغرفة المطلة على الشارع. كانت معتمة . اصطدمت قدماي بكرسي ارعبني ضجيجه. ازدادت ضربات قلبي قوة وسرعة. تحركتُ بحذر مقلق نحو النافذة . تطلعت .. كان المشهد مضحكا حقا. حفنة كبيرة من عظام مرمية أمام مطعم (الباجة) الذي افتتح منذ أيام، وكلاب وقطط وربما جرذان أيضا، سائبة هجمت عليها، والمعارك بينهم ضارية.
فجأة.
ملأته فرحة لا توصف. أذهلته فعلا..
بقيت عيناه تلتهمان البيت القديم، والبيوت الأخرى، ومطعم (الباجة) على بعد امتار، والمارة تروح وتجيئ .. كل شيء عادي. جلس على صخرة قريبة منه.
وضع رأسه بين كفيه . وبدأ يستذكر ما حدث له في (السجن) .
ترى كيف حدث هذا .. وكيف يمكن تفسيره؟ هل كان رأسي مشطوراً نصفين في لحظة انهياري أمامهم وأمام عري زوجتي؟ فعقلي الظاهري خلال ضعفي كشف اعترافاتي على رفاق فحسب .. معظمهم معتقلون مثلي أو هاربون أو مختفون لا أثر لهم، الا القلة . اما عقلي الباطني .. اختفى .. غاب .. تبخر .. ما عاد موجداً .. فغاب عني هذا البيت .. ما اعترفت عليه .. بل ما تذكرته الا في هذا اليوم بالذات .. بل الآن . فأية رحمة كتبت علي؟ لو تذكرته وأنا في تلك الحال .. لاعترفت عليه .. أقولها صراحة . من يبتدأ بالحرف الأول، ينتهي بالحرف الأخير .. لكني ما تذكرته.. غاب عني كلياً .. غاب .. ترى هل يوجد تفسير لهذه الحالة؟!
ترى هل بقي البيت سالما حتى الآن؟!
ربت أحد المارة على كتفه .. تطلع اليه بتمهل وحذر .. كان يافعا .. وعلى كتفه حقيبة ربما مدرسية: عمي .. عمي .. أأنت مريض ؟! تحتاج مساعدة ؟ ! أشار له بلطف وهو يتمتم : شكرا وليدي .. أنا بخير .. مجرد صداع.
تذكر انه لم يأكل الكباب، ولا حتى تغدى. فجرته قدماه الى مطعم (الباجة) . وبقي يحلم ان تطرق يده من جديد باب البيت القديم